أهلا وسهلا بحضوركم في بلوق مؤسسة سنبة سلفية

21 Oktober 2012

Umdatus Salik


مقدمة المؤلف
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.هذا مختصر على مذهب الإمام الشافعي رحمة الله تعالى عليه ورضوانه، اقتصرتُ فيه على الصحيح من المذهب عند الرافعي والنووي، أو أحدهما، وقد أذكر فيه خلافاً في بعض الصور، وذلك إذا اختلف تصحيحهما، مقدماً لتصحيح النووي جازماً به، فيكون مقابله تصحيح الرافعي.وسميته: "عمدة السالك وعدة الناسك".والله أسأل أن ينفع به، وهو حسبي ونعم الوكيل.
قسم العبادات
كتابُ الطهارةِ
[أقسامُ المياهِ]:المياهُ أقسامٌ: طهورٌ، وطاهرٌ، ونجسٌ.
1 - فالطهورُ: هو الطاهرُ في نفسهِ المطهر لغيرهِ.
2 - والطاهرُ: هو الطاهرُ في نفسهِ ولا يطهر غيره.
3 - والنجسُ: غيرهما.
فلا يجوز رفع حدث ولا إزالة نجس إلا بالماء المطلق، وهو الطهور على أي صفة كان من أصل الخلقة.وتكره الطهارة بالماء المشمس في البلاد الحارة في الأواني المنطبعة، وهي ما يطرق بالمطارق، إلا الذهب والفضة، وتزول بالتبريد.وإذا تغير الماء تغيراً كثيراً بحيث يُسلب عنه اسم الماء، بمخالطة شيء طاهر، يمكن الصون عنه كدقيق وزعفران، أو استعمل دون القلَّتين، في فرض طهارة الحدث ولو لصبي، أو لنجس ولو لم يتغير، لم تجز الطهارة به، فإن تغير بالزعفران ونحوه يسيراً، أو بمجاورة كعود ودهن مطيبين، أو بما لا يمكن الصونعنه، كطحلب وورق شجر تناثر فيه، وبتراب وطول مكث، أو استعمل في النفل كمضمضة وتجديد وضوء وغسل مسنون، أو جمع المستعمل فبلغ قلتين، جازت الطهارة به.ولو أدخل متوضئٌ يده بعد غسل وجهه مرة، أو جُنبٌ بعد النية، في دون القلتين فاغترف ونوى الاغتراف، لم يضره، وإلا صار الباقي مستعمَلاً.ولو انغمس جنبان فأكثر دفعة، أو واحداً بعد واحد في قلتين، ارتفعت جنابتهم، ولا يصير مستعملاً.والقلتان خمسمئة رطل بغدادية تقريباً، ومساحتها: ذراع وربع طولاً وعرضاً وعمقاً.فالقلتان لا تنجس بمجرد ملاقاة النجاسة، بل بالتغير بها ولو يسيراً.ثم إن زال التغير بنفسه أو بماء طهر، أو بنحو مسك أو بخل أو بتراب، فلا.ودونهما ينجس بمجرد ملاقاة النجاسة وإن لم يتغير، إلا أن يقع فيه نجس لا يراه البصر، أو ميتة لا دم لها سائل، كذباب ونحوه، فلا يضر.وسواء الجاري والراكد.فإن كوثر القليل النجس فبلغ قلتين، ولا تغير، طهر.والمراد بالتغير بالطاهر أو بالنجس إما: اللون أو الطعم أو الريح.ويندب تغطية الإناء، فلو وقع في أحد الإناءين نجس توضأ من أحدهما باجتهاد وظهور علامة، سواء قدر على طاهر بيقين أم لا. فإن تحيّر أراقهما، ويتيمم بلا إعادة، والأعمى يجتهد، فإن تحير قلد بصيراً. ولو اشتبه طهورٌ بماء ورد توضأ بكل واحد مرة، أو ببول أراقهما وتيمم.
فصل [في الأواني]:
تحل الطهارة من كل إناء طاهر، إلا الذهب والفضة، والمطلي بأحدهما بحيث يتحصل منه شيء بالنار، فيحرم استعماله على الرجال والنساء، في الطهارة والأكل والشرب وغير ذلك. وكذا اقتناؤه بلا استعمال، حتى الميلُ من الفضة. أحكام التضبيب]: والمضبب بالذهب حرام مطلقاً، وقيل: كالفضة. والمضبب بالفضة: إن كانت الضبة كبيرة للزينة فهي حرام، أو صغيرة للحاجة حل، أو صغيرة للزينة، أو كبيرة للحاجة، كُره ولم يحرم.ومعنى التضبيب: أن ينكسر موضع من الإناء فيجعل موضع الكسر فضة تمسكه بها.وتكره أواني الكفار وثيابهم، ويباح الإناء من كل جوهر نفيس كياقوت وزمرد.
فصل [السواك وأوقات استعماله]:
ويندب السواك في كل وقت، إلا لصائم بعد الزوال فيكره، ويتأكد استحبابه لكل صلاة، وقراءة، ووضوء، وصفرة أسنان، واستيقاظ من النوم، ودخول بيته، وتغيير الفم من أكل كل كريه الريح، وترك أكل.ويجزئ بكل خشن، إلا أصبعه الخشنة، والأفضل بأراك يابس نُدِّي بالماء، وأن يستاك عرضاً، ويبدأ بجانبه الأيمن، ويتعهد كراسي أضراسه، وينوي به السنة.
[بعض خصال الفطرة]:
ويسن قلم ظفر، وقص شارب، ونتف إبط وأنف لمن اعتاده، وحلق عانة، والاكتحال وتراً ثلاثاً في كل عين، وغسل البراجم، وهي: عقد ظهور الأصابع، فإن شق نتف الإبط حلقه.ويكره القزع، وهو: حلق بعض الرأس وترك بعضه، ولا بأس بحلق كله.ويجب الختان. ويحرم خضب شعر الرجل والمرأة بسواد إلا لغرض الجهاد، ويسن بصفرة أو حمرة.وخضب يديْ مزوجةٍ ورجليها تعميماً بحناء، ويحرم على الرجال إلا لحاجة، ويكره نتف الشيب.
باب الوضوء
[فرائض الوضوء]:
فروضه ستة: النية عند غسل الوجه، وغسل الوجه، وغسل اليدين إلى المرفقين، ومسح القليل من الرأس، وغسل الرجلين إلى الكعبين، والترتيب على ما ذكرناه.وسننه ما عدا ذلك.
[1 - النية]:  ينوي المتوضئ رفع الحدث، أو الطهارة للصلاة، أو لأمر لا يستباح إلا بالطهارة، كمس المصحف أو غيره، إلا المستحاضة ومن به سلس البول، ومتيمماً، فينوي استباحة فرض الصلاة.وشرطه النية بالقلب، وأن تقترن بغسل أو جزء من الوجه. ويندب أن يتلفظ بها، وأن تكون من أول الوضوء، ويجب استصحابها إلى غسل أول الوجه، فإن اقتصر على النية عند غسل الوجه كفى، لكن لا يثاب على ما قبله من مضمضة واستنشاق وغسل كف.ويندب أن يسمي الله تعالى، وأن يغسل كفيه ثلاثاً، فإن ترك التسمية عمداً، أو سهواً أتى بها في أثنائه.فإن شك في نجاسة يده كره غمسها في دون القلتين قبل غسلها ثلاثاً.ثم يستاك، ويتمضمض، ويستنشق ثلاثاً بثلاث غُرفات، فيتمضمض من غُرْفة ثم يستنشق، ثم يتمضمض من أخرى ثم يستنشق، ثم يتمضمض من الثالثة ثم يستنشق، ويبالغ فيهما إلا أن يكون صائماً فيرفق.
[2 - غسل الوجه]: ثم يغسل وجهه ثلاثاً، وهو: ما بين منابت شعر الرأس في العادة إلى الذقن طولاً، ومن الأذن إلى الأذن عرضاً. فمنه موضع الغَمَمِ، وهو: ما تحت الشعر الذي عمَّ الجبهةَ كلَّها أو بعضها.
ويجب غسل شعور الوجه كلها ظاهرها وباطنها، والبشرة تحتها، خفيفة كانت
أو كثيفة، كالحاجب والشارب والعَنفَقة والعِذار والهُدْب وشعر الخد، إلا اللحية والعارضَيْن فإنه يجب غسل ظاهرهما وباطنهما والبشرة تحتهما عند الخفة، فظاهرهما فقط عند الكثافة، لكن يندب التخليل حينئذ، ويجب إفاضة الماء على ظاهر النازل من اللحية عن الذقن، ويجب غسل جزء من الرأس، وسائر ما يحيط بالوجه، ليتحقق كماله. وسُنَّ أن يُخلل اللحية من أسفلها بماء جديد.
[3 - غسل اليدين]:ثم يغسل يديه مع المرفقين ثلاثاً، فإن قُطعت من الساعد وجب غسل الباقي، أو من مفصل المرفق لزمه غسل رأس العضد، أو من العضد ندب غسل باقيه.
[4 - مسح الرأس]: ثم يمسح رأسه فيبدأ بمقدم رأسه فيذهب بيديه إلى قفاه، ثم يردهما إلى المكان الذي بدأ منه، يفعل ذلك ثلاثاً، فإن كان أقرع أو ما نبت شعره أو كان طويلاً أو مضفوراً لم يندب الرد، فلو وضع يده بلا مد بحيث بلّ ما ينطلق عليه الاسم، وهو بعض شعرة لم تخرج بالمد عن حد الرأس، أو قطّر ولم يسل، أو غسله، كفى، فإن شق نزع عمامته كمّل عليها بعد مسح ما يجب. ثم يمسح أذنيه ظاهراً وباطناً بماء جديد ثلاثاً، ثم صِماخيه بماء جديد ثلاثاً، فيدخل خنصريه فيهما.
[5 - غسل الرجلين]:
ثم يغسل رجليه مع كعبيه ثلاثاً.
[6 - الترتيب وبعض المسنونات]:فلو شك في تثليث عضو أخذ بالأقل، فيكمل ثلاثاً يقيناً.
ويقدم اليمنى من يد ورجل، لاكفٍّ وخدٍّ وأذنٍ، فيطهرهما دُفعة. ويطيل الغرة بأن يغسل مع وجهه من رأسه وعنقه زائداً عن الفرض، والتحجيل بأن يغسل فوق مرفقيه وكعبيه، وغايته استيعاب العضد والساق، ويوالي الأعضاء، فإن فرّق ولو طويلاً صح بغير تجديد نية. ويقول بعد فراغه: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم اجعلني من التوابين، واجعلني من المتطهرين، واجعلني من عبادك الصالحين. سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك. وللأعضاء أدعية تقال عندها لا أصل لها.
[آداب الوضوء]:
وآدابه: استقبال القبلة، ولا يتكلم لغير حاجة. ويبدأ بأعلى وجهه، ولا يلطمه بالماء. فإن صب عليه غيره بدأ بمرفقيه وكعبيه، وإن صب على نفسه بدأ بأصابعه. ويتعهد آماق عينيه وعقبيه ونحوهما مما يخاف إغفاله سيما في الشتاء. ويحرك خاتماً ليدخل الماء تحته. ويخلل أصابع رجليه بخنصر يده اليسرى: يبدأ بخنصر رجله اليمنى من أسفل ويختم بخنصر اليسرى. ويكره أن يغسل غيره أعضاءه إلا لعذر، وتقديم يساره، والإسراف في الماء. ويندب أن لا ينقص ماء الوضوء عن مد، وهو رطل وثلث بغدادي، ولا يَنْقُص ماء الغسل عن صاع، والصاع خمسة أرطال وثلث رطل بالعراقي.ولا ينشف أعضاءه، ولا ينفض يديه، ولا يستعين بأحد يصب عليه، ولا يمسح الرقبة.ولو كان تحت أظفاره وسخ يمنع وصول الماء لم يصح الوضوء.ولو شك في أثناء الوضوء في غسل عضو لزمه مع ما بعده، أو بعد فراغه لم يلزمه شيء.ويندب تجديد الوضوء لمن صلى به فرضاً أو نفلاً.ويندب الوضوء لجنب يريد أكلاً أو شرباً أو نوماً أو جماعاً آخر، والله أعلم.
باب المسح على الخفين
يجوز المسح على الخفين في الوضوء للمسافر سفراً مباحاً تقصر فيه الصلاة ثلاثةَ أيام ولياليهن، وللمقيم يوماً وليلة. وابتداء المدة من الحدث بعد اللُّبْس، فإن مسحهما أو أحدهما حضراً ثم سافر، أو سفراً ثم أقام، أو شك: هل ابتدأ المسح سفراً أو حضراً، أتم مسح مقيم فقط. ولو أحدث حضراً ومسح سفراً أتم مدة مسافر، سواء مضى عليه وقت الصلاة بكماله في الحضر أم لا. فإن شك في انقضاء المدة لم يمسح في مدة الشك، لأن المسح رخصة. فإن شك هل أحدث
وقت الظهر أو العصر، بنى أمره على أنه الظهر. ولو أجنب في المدة وجب النزع للغسل.
[شروط المسح على الخفين]
:وشرطه:1 - أن يلبسه على وضوء كامل.2 - وأن يكون طاهراً.3 - وساتراً لجميع محل الفرض.4 - ومانعاً لنفوذ الماء.5 - ويمكن متابعة المشي عليهما لتردُّد مسافر لحاجاته، سواء كان من جلد، أو لِبْدٍ، أو خِرَقٍ مطبَّقة، أو خشب، أو غير ذلك، أو مشقوقاً شد بشَرَج.ولو لبس خفاً في رجل ليمسحه ويغسل الأخرى، أو ظهر من الرجل شيء -وإن قَلَّ- من خرق في الخف لم يجز.[الجرموق]:والْجُرْمُوقُ: هو خف فوق خف، فإن كان الأعلى قوياً والأسفل مخرقاً فله مسح الأعلى، وإن كانا قويين أو القوي الأسفل لم يكف مسح الأعلى، فإن وصل البلل منه إلى الأسفل كفى، سواء قصد مسحهما أو الأسفل فقط أو أطلق، لا إن قصد الأعلى فقط.ويسن مسح أعلى الخف وأسفله وعقبه خطوطاً، بلا استيعاب ولا تكرار، فيضع يده اليسرى تحت عقبه، ويمناه عند أصابعه، ويُمِرُّ اليمنى إلى الساق واليسرى إلى الأصابع.فإن اقتصر على مسح أقل جزء من ظاهر أعلاه محاذياً لمحل الفرض كفى، وإن اقتصر على الأسفل أو العقب أو الحرف أو الباطن مما يلي البشرة فلا.ومتى ظهرت الرجل بنزع أو بخرق -وهو بوضوء المسح- كفاه غسل القدمين فقط.باب أسباب الحدث:
وهي أربعة:
أحدها: الخارج من قبل أو دبر، أو ثُقْبَةٍ تحت السُّرَّة مع انسداد المخرج المعتاد، عيناً أو ريحاً، معتاداً أو نادراً، كدودة وحصاة. إلا المنيَّ فإنه يوجب الغسل ولا ينقض الوضوء، وصورة ذلك: أن ينام ممكِّنا مقعده فيحتلم، أو ينظر بشهوة فينزل، وإلا فلو جامع أو نام مضطجعاً فأنزل انتقض باللمس وبالنوم. الثاني: زوال عقله، إلا النوم قاعداً ممكناً مقعده من الأرض، سواء الراكب والمستند -ولو لشيء لو أزيل لسقط- وغيرهما.فلو نام ممكناً فزالت أليتاه قبل انتباهه انتقض، أو بعده أو معه أو شَكَّ، أو سقطت يده على الأرض وهو نائم ممكن مقعده، أو نَعَس وهو غير ممكن، وهو يسمع ولا يفهم، أو شك هل نام أو نعس، أو هل نام ممكناً أو غير ممكن، فلا ينقض.الثالث: التقاء شيء وإن قلَّ من بشرتي رجل وامرأة أجنبيين، ولو بغير شهوة وقصد، حتى اللسان والأشل والزائد، إلا سناً وظفراً وشعراً وعضواً مقطوعاً.وينقض هرم وميت، لا محرم وطفل لا يشتهى في العادة.فلو شك: هل لمس امرأة أم رجلاً، أو شعراً أو بشرة، أو أجنبية أو محرماً، لم ينقض.الرابع: مس فرج الآدمي بباطن الكف والأصابع خاصة، ولو سهواً أو بلا شهوة، قبلاً أو دبراً، ذكراً أو أنثى، من نفسه أو من غيره، ولو من ميت وطفل ومحل جَبٍّ وإن اكتسى جلداً، أو أشل -ولو مقطوعاً- وبيد شلاء، لا فرج بهيمة، ولا برؤوس الأصابع وما بينها وحرف الكف.ولا ينقض قيء، وفصد، ورعاف، وقهقهة مُصَلٍّ، وأكل لحم جزور، وغير ذلك.[الشك في الوضوء]:من تيقن حدثاً وشك في ارتفاعه فهو محدث، ومن تيقن طهراً وشك في ارتفاعه فهو متطهر. وإن تيقنهما وشك في السابق منهما، فإن لم يعرف ما كان قبلهما، أو عرفه وكان طهراً، وكان عادته تجديد الوضوء، لزمه الوضوء، فإن لم يكن عادته تجديد الوضوء، أو كان [ما قبله] حدثاً، فهو الآن متطهر.[محرمات الحدث]:ومن أحدث حرم عليه الصلاة، وسجود التلاوة والشكر، والطواف، وحمل المصحف ولو بعلاقته أو في صندوقه، ومسه سواء المكتوب وبين الأسطر والحواشي، وجلده وعلاقته وخريطته وصندوقه وهو فيهما. وكذا يحرم مس وحمل ما كتب لدراسة -ولو آية- كاللوح وغيره، ويحل حمل مصحف في أمتعة.وحل حمل دراهم ودنانير وخاتم وثوب كتب عليهن قرآن، وكتب فقه وحديث وتفسير فيها قرآن، بشرط أن يكون غير القرآن أكثر.ويمكن الصبي المحدث من حمله ومسه.ولو كتب محدث أو جنب قرآناً ولم يمسه ولم يحمله جاز.ولو خاف على المصحف من حرق أو غرق أو يد كافر أو نجاسة، وجب أخذه مع الحدث والجنابة، إن لم يجد مستودعاً له، لكن يتيمم إن قدر.ويحرم توسده وغيره من كتب العلم.
باب قضاء الحاجة
يندب لمريد الخلاء أن ينتعل إلا لعذر، ويستر رأسه، وينَحِّي ما فيه ذكر الله ورسوله وكل اسم معظم، فإن دخل بالخاتم ضم كفه عليه، ويهيء أحجار الاستنجاء.ويقول عند الدخول: بسم الله، اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث.وعند الخروج: غفرانك، الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني.ويقدم داخلاً يساره وخارجاً يمينه.ولا يختص ذكر الدخول للخلاء والخروج، وتقديم اليسرى واليمنى، وتنحية ذكر الله تعالى ورسوله- بالبنيان، بل يشرع بالصحراء أيضاً.ولا يرفع ثوبه حتى يدنو من الأرض، ويرخيه قبل انتصابه.ويعتمد في الجلوس على يساره، ولا يطيل، ولا يتكلم.فإذا انقطع البول مسح بيساره من دبره إلى رأس ذكره، وينتر بلطف ثلاثاً.ولا يبول قائماً بلا عذر، ولا يستنجي بالماء في موضعه إن خاف ترششاً، ولا ينتقل في المراحيض.ويبعد في الصحراء ويستتر.ولا يبول في جحر، وموضع صلب، ومهب ريح، ومورد، ومتحدث للناس، وطريق، وتحت شجرة مثمرة، وعند قبر، وفي الماء الراكد، وقليل جار.ولا مستقبل الشمس والقمر، وبيت المقدس، ومستدبرَه./ 9ويحرم البول على مطعوم، وعظم، ومعظم، وقبر، وفي مسجد ولو في إناء.ويحرم استقبال القبلة واستدبارها ببول أو غائط في الصحراء بلا حائل، ويباحان في البنيان إذا قرب من الساتر نحو ثلاثة أذرع.ويكفي مرتفع ثلثي ذراع من جدار، ووهدة، ودابة، وذيله المرخي قبالة القبلة.والاعتبار في الصحراء والبنيان بالسترة، فحيث قرب منها على ثلاثة أذرع -وهي ثلثا ذراع- جاز فيهما، وإلا فلا، إلا في المراحيض فيجوز مع كراهة، وإن بعُد جدارها أو قََصُر.ويجب الاستنجاء من كل عين ملوثة خارجة من السبيلين، لا ريح ودودة وحصاة وبعرة بلا رطوبة.وتكفي الأحجار ولو في نادر كدم، وتعقيبها بالماء أفضل.ويغني عن الحجر كل: جامد طاهر قالع للنجاسة غير محترم ومطعوم، كجلد المذكى قبل الدباغة.فلو استعمل مائعاً غير الماء، أو نجساً، أو طرأت نجاسة أجنبية، أو انتقل ما خرج منه عن موضعه، أو جف، أو انتشر حال خروجه وجاوز الألية أو الحشفة، تعين الماء، فإن لم يجاوزهما كفى الحجر.ويجب إزالة العين، واستيفاء ثلاث مسحات، إما بثلاثة أحجار، أو بحجر واحد له ثلاثة أحرف وإن أُنْقِيَ بدونها، فإن لم تنق الثلاثة وجب الإنقاء، وندب إيتار.ويندب أن يبدأ بالأول من مقدم صفحة اليمنى ويمره إلى موضع ابتدائه، ثم يعكس بالثاني، ثم الثالث على الصفحتين والمسرُبة.ويجب وضعه أولاً بموضع طاهر ثم يمره.ويكره الاستنجاء بيمينه، فليأخذ الحجر بيمينه والذكر بشماله ويحركها.والأفضل تقديم الاستنجاء على الوضوء، فإن أخره عنه صح، أو عن التيمم فلا.
باب الغسل
[موجبات الغسل]:يجب على الرجل من خروج المني، ومن إيلاج الحشفة في أي فرج كان، قبلاً أو دبراً، ذكراً كان أو أنثى، ولو بهيمة، أو صغيراً في صغيرة. ويجب على المرأة من خروج منيها، ومن أي ذكر دخل في قبلها أو دبرها، ولو أشل، أو من صبي، أو بهيمة.ومن الحيض والنفاس وخروج الولد جافاً.وإنما يتعلق الغسل بتغييب جميع الحشفة.ولو رأى منياً في ثوب، أو فراش ينام فيه مع من يمكن كونه منه، ندب لهما الغسل ولا يجب، ولا يقتدي أحدهما بالآخر، فإن لم ينم فيه غيره لزمه الغسل، ويجب إعادة كل صلاة لا يحتمل حدوث المني بعدها، لكن يندب إعادة ما أمكن كونها بعده.ولو جومعت في قبلها فاغتسلت، ثم خرج منيه منها، لزمها غسل آخر بشرطين:1 - أن تكون ذات شهوة لا صغيرة.2 - أن تكون قضت شهوتها، لا نائمة ومكرهة.ويعرف المني بتدفق أو تلذذ، أو ريح طلع أو عجين إذا كان رطباً، أو بياض بيض إذا كان جافاً.فمتى وجد واحد منها كان منياً موجباً للغسل، ومتى فقدت كلها لم يكن منياً.ولا يشترط البياض والثخانة في مني الرجل، ولا الصفرة والرّقَّة في مني المرأة.ولا غسل في مَذْيٍ، وهو: ماء أبيض رقيق لزج يخرج بلا شهوة عند الملاعبة. ولا في وَدْيٍ، وهو: ماء أبيض كدر ثخين يخرج عقب البول. فإن شك: هل الخارج مني أو مذي؟ تخير، إن شاء جعله منياً واغتسل فقط، وإن شاء جعله مذياً، وغسل ما أصاب بدنه وثوبه منه، وتوضأ، ولا يغتسل. والأفضل أن يفعل جميع ذلك.
[محرمات الجنابة]:
ويحرم بالجنابة ما حرم بالحدث، وكذا اللبث في المسجد، وقراءة القرآن ولو بعض آية، ويباح أذكاره لا بقصد القرآن، فإن قصد القرآن عصى، أو الذكر أو لا شيء جاز.وله المرور في المسجد، ويكره لغير حاجة. فصل [كيفية الغسل]: يبدأ المغتسل بالتسمية، ثم بإزالة قذر، ثم وضوء كوضوء الصلاة، ثم يفيض الماء على رأسه ثلاثاً، ناوياً رفع الجنابة أو الحيض أو استباحة الصلاة، ويخلل شعره، ثم على شقه الأيمن ثلاثاً، ثم الأيسر ثلاثاً. ويتعهد معاطفه، ويدْلُك جسده. وفي الحيض تُتْبِعُ أثر الدم فِرْصَةَ مسك، فإن لم تجده فطيباً غيره، فإن لم تجده فطيناً، فإن لم تجده كفى الماء. والواجب منه شيئان:1 - النية عند أول غسل مفروض.2 - وتعميم شعره وبشره بالماء، حتى ما تحت قُلْفَةِ غير المختون، وما يظهر من فرج الثيب إذا قعدت لحاجتها.ولو أحدث في أثنائه تممه، ولو تلبد شعره وجب نقضه إن لم يصل الماء إلى باطنه، ومن عليه نجاسة يغسلها ثم يغتسل، ويكفي لهما غسلة في الأصح.ولو كان عليها غسل جنابة وغسل حيض فاغتسلت لأحدهما كفى عنهما.ومن اغتسل مرة واحدة بنية جنابة وجمعة حصلا، أو نية أحدهما حصل دون الآخر.
فصل [الأغسال المسنونة]:
يسن غسل الجمعة، والعيدين، والكسوفين، والاستسقاء، ومن غسل الميت، والمجنون والمغمى عليه إذا أفاقا، وللإحرام، ولدخول مكة المشرفة، وللوقوف بعرفة، وللطواف والسعي، ولدخول مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبالمشعر الحرام، وثلاثة لرمي الجمار أيام التشريق.

باب التيمم
وشروط التيمم ثلاثة:
أحدها: أن يقع بعد دخول الوقت، إن كان لفرض أو لنفل مؤقت.
بل يجب نقل التراب في الوقت، فلو تيمم شاكاً في الوقت لم يصح وإن صادفه، ولو تيمم لفائتة ضحوة، فلم يصلِّها حتى حضرت
الظهر، فله أن يصلِّيها به أو فائتة أخرى. الثاني: أن يكون بتراب طاهر خالص مطلق له غبار، ولو بغبار رمل، لا رمل متمحض، ولا بتراب مختلط بدقيق ونحوه، ولا بجِصٍّ وسحاقة خزف، ومستعمل -وهو ما على العضو أو ما تناثر عنه-.
الثالث: العجز عن استعمال الماء، فيتيمم العاجز عن استعماله.
ويكون عن الأحداث كلها.
ويستبيح به الجنب والحائض ما يستبيحان بالغسل، فإن أحدثا بعده حرم عليهما ما يحرم بالحدث الأصغر.
وللعجز أسباب:
[أسباب العجز المبيح للتيمم]:
أحدها: فقد الماء، فإن تيقن عدمه تيمم بلا طلب، وإن توهم وجوده وجب طلبه من رحله ورفقته حتى يستوعبهم، أو لا يبقى من الوقت إلا ما يسع الصلاة.
ولا يجب الطلب من كل واحد بعينه، بل ينادي: من معه ماء ولو بالثمن.
ثم ينظر حواليه إن كان في أرض مستوية، وإلا تردد إلى حد الغوث -وهو:
بحيث ما لو استغاث برفقته، مع اشتغالهم بأقوالهم وأفعالهم لأغاثوه- إن لم يخف ضرر نفس أو مال، أو صعد جبلاً صغيراً قريباً.
ويجب أن يقع الطلب بعد دخول الوقت، فإن طلب فلم يجده وتيمم، ومكث موضعه، وأراد فرضاً آخر: فإن لم يَحْدُث ما يوهم ماء -وكان تيقن العدم بالطلب الأول- تيمم بلا طلب. وإن لم يتيقنه، أو وجد ما يوهمه -كسحاب وركب- وجب الطلب الآن إلا من رحله.
وإن تيقن وجود الماء على مسافة يتردد إليها المسافر للاحتطاب والاحتشاش -وهي فوق حد الغوث- أو علم أنه يصله بحفرٍ قريب، وجب قصده إن لم يخف ضرراً، وإن كان فوق ذلك فله التيمم.
ولكن إن تيقن أنه لو صبر إلى آخر الوقت وجده فانتظاره أفضل، وإن ظن غير ذلك فالأفضل التيمم أول الوقت.
ولو وهبه إنسان ماء، أو أقرضه إياه، أو أعاره دلواً، لزمه القبول، وإن وهبه أو أقرضه ثمنهما فلا.
وإن وجد الماء والدلو يباعان بثمن مثله -وهو ثمنه في ذلك الموضع وذلك الوقت- لزمه شراؤه، إن وجد ثمنه فاضلاً عن دين -ولو مؤجلاً- ومؤنة سفره ذهاباً ورجوعاً، فإن امتنع من بيعه -وهو مستغن عنه- لم يأخذه غصباً إلا لعطش.
ولو وجد بعض ماء لا يكفي طهارته لزمه استعماله، ثم تيمم للباقي، فالمحدث يُطَهّر وجهه، ثم يديه على الترتيب، والجنب يبدأ
(1/26)


بما شاء، ويندب أعالي بدنه.
الثاني: خوف عطش نفسه ورفقته وحيوان محترم معه، ولو في المستقبل، ويحرم الوضوء حينئذ، فيتزود لرفقته، ويتيمم بلا إعادة.
الثالث: مرض يخاف معه تلف النفس، أو عضو، أو فوات منفعة عضو، أو حدوث مرض مخوف، أو زيادة مرض، أو تأخير البرء، أو شدة ألم، أو شيناً فاحشاً في عضو ظاهر، ويعتمد فيه معرفته، أو طبيباً يُقْبَلُ فيه خبره.
[المسح على الجرح والجبيرة]:
فإن خاف من جرح ولا ساتر عليه غسل الصحيح بأقصى الممكن، فلا يترك إلا ما لو غسله تعدى إلى الجرح، وتيمم للجرح في الوجه واليدين في وقت جواز غسل العليل، فالجنب يتيمم متى شاء، والمحدث لا ينتقل عن عضو حتى يَكْمُلَ غسلاً وتيمماً، مقدماً ما شاء.
فإن جرح عضواه، فتيممان.
ولا يجب مسح الجرح بالماء وإن لم يضره، فإن كان الجرح على عضو التيمم وجب مسحه بالتراب.
فإن احتاج لعصابة أو لصوق أو جبيرة وجب وضعها على طهر، ولا يستر إلا ما لا بد منه، فإن خاف من نزعها ضرراً وجب المسح عليها كلها بالماء مع غسل الصحيح والتيمم كما تقدم.
فإن كانت الجراحة في غير عضو
(1/27)


التيمم لم يجب مسحها بتراب.
فإن أراد أن يصلي فرضاً آخر لم يعد الجنب غسلاً، وكذا المحدث، وقيل: يغسل ما بعد عليله.
وإن وضع بلا طهر وجب النزع، فإن خاف فعل ما تقدم وهو آثم، ويعيد الصلاة. ولا يعيد إن وضع على طهر ولم يكن في أعضاء التيمم، ولا من تيمم لمرض أو جرح بلا ساتر، إلا من بجرحه دم كثير يخاف من غسله فيعيد.
ولو خاف من شدة البرد مرضاً مما تقدم، ولم يقدر على تسخين الماء وتدفئة عضو، تيمم وأعاد.
ومن فقد ماء وتراباً وجب أن يصلي الفرض وحده، ويعيد إذا وجد الماء، أو التراب حيث يُسْقِطُ التيمم الإعادة، فلا يعيد إذا وجد تراباً في الحضر.
[واجبات التيمم]:
وواجباته سبعة:
الأول: النية: فينوي استباحة فرض الصلاة، أو استباحة مفتقر إلى الطهارة.
ولا يكفي نية رفع الحدث، ولا فرض التيمم.
فإن تيمم لفرض وجب نية الفرضية، لا تعيينه من ظهر أو عصر، بل لو نوى فرض الظهر استباح به العصر، ولو نوى فرضاً ونفلاً أبيحا، أو نفلاً أو جنازة أو الصلاة لم يستبح الفرض، أو فرضاً فله النفل منفرداً، وكذا النفل قبله وبعده، في الوقت وبعده.
ويجب قرنها بالنقل واستدامتها إلى مسح شيء من الوجه.
(1/28)


الثاني والثالث: قصد التراب ونقله، فلو كان على وجهه تراب فمسح به -أو ألقته الريح عليه فمسح به- لم يكف، ولو أمر غيره حتى يممه جاز، وإن كان قادراً على الأظهر.
الرابع والخامس: مسح وجهه ويديه مع مرفقيه.
السادس: الترتيب.
السابع: كونه بضربتين: ضربة للوجه وضربة لليدين.
وقيل: إن أمكن بضربة كفى، كخرقة ونحوها.
ولا يجب إيصاله باطن شعر خفيف.
[سنن التيمم]:
وسننه: التسمية، وتقديم يمينه وأعلى وجهه.
وفي اليد: يضع أصابع اليسرى -سوى الإبهام- على ظهور أصابع اليمنى سوى الإبهام ويمرها إلى الكوع، ثم يضم أطراف أصابعه إلى حرف الذراع ويمرها إلى المرفق، ثم يدير بطن كفه إلى بطن الذراع ويمرها وإبهامه مرفوعة، فإذا بلغ الكوع مسح ببطن إبهام اليسرى ظهر إبهام اليمنى، ثم يمسح اليسرى باليمنى كذلك، ثم يخلل أصابعه، ويمسح إحدى الراحتين بالأخرى.
وتخفيف الغبار ويفرق أصابعه عند الضرب على التراب فيهما.
ويجب نزع الخاتم في الضربة الثانية.
ولو أحدث بين النقل ومسح الوجه بطل، ووجب أخذ ثان.
[مبطلات التيمم]:
ويبطل التيمم عن الوضوء
(1/29)


بنواقض الوضوء، وتوهم قدرته على ماء يجب استعماله، كرؤية سراب أو ركب قبل الصلاة، أو فيها وكانت مما تعاد، كتيمم حاضر لفقد الماء، فإن لم تُعَدْ كتيمم مسافر فلا، ويتمها وتجزئه، لكن يندب قطعها ليستأنفها بوضوء.
وإن رآه في نفل ونوى عدداً أتمه، وإلا فركعتين.
ولا يجوز بتيمم أكثر من فريضة واحدة مكتوبة أو منذورة، وما شاء من النوافل والجنائز.

باب الحيض
أقل سن تحيض فيه المرأة استكمال تسع سنين تقريباً، فلو رأته قبل تسع سنين لزمن لا يسع طهراً وحيضاً فهو حيض وإلا فلا، ولا حد لآخره، فيمكن إلى الموت.
وأقل الحيض يوم وليلة، وغالبه ست أو سبع، وأكثره خمسة عشر يوماً.
وأقل الطهر بين الحيضتين خمسة عشر يوماً، ولا حد لأكثره.
فمتى رأت دماً في سن الحيض -ولو حاملاً- وجب ترك ما تترك الحائض، فإن انقطع لدون أقله تبين أنه غير حيض، فتقضي الصلاة، فإن انقطع لأقله أو أكثره أو ما بينهما فهو حيض، وإن جاوز أكثره فهي مستحاضة، ولها أحكام طويلة مذكورة في كتب الفقه. والصفرة والكدرة حيض. وإن رأت وقتاً دماً، ووقتاً نقاءً، ووقتاً دماً،
(1/30)


وهكذا، ولم يجاوز الخمسة عشر، ولم يَنْقُصْ مجموع الدماء عن يوم وليلة: فالدماء والنقاء المتخلل كلها حيض.
وأقل النفاس لحظة، وغالبه أربعون يوماً، وأكثره ستون يوماً، فإن جاوزه فمستحاضة.
[محرمات الحيض والنفاس]:
ويحرم بالحيض والنفاس ما يحرم بالجنابة، وكذا الصوم، ويجب قضاؤه دون الصلاة.
ويحرم عبور المسجد إن خافت تلويثه، والوطء، والاستمتاع فيما بين السرة والركبة، والطلاق، والطهارة بنية رفع الحدث، فإن انقطع الدم ارتفع تحريم الصوم والطلاق والطهارة وعبور المسجد، ويبقى الباقي حتى تغتسل.
ولو ادعت الحيض ولم يقع في قلبه صدقها حل له وطؤها.
[أحكام المستحاضة]:
وتغسل المستحاضة فرجها وتشده وتعصبه ثم تتوضأ، ولا تؤخر بعد الطهارة إلا للاشتغال بأسباب الصلاة، كستر عورة، وأذان، وانتظار جماعة، فإن أخرت لغير ذلك استأنفت الطهارة. ويجب غسل الفرج وتعصيبه والوضوء لكل فريضة. ومن به سلس البول كالمستحاضة فيما تقدم.

[باب النجاسات]:
والنجاسة هي: البول، والغائط، والدم، والقيح، والقيء، والخمر، والنبيذ، وكل مسكر مائع، والكلب،
(1/31)


والخنزير، وفرع أحدهما، والوَدْي، والمَذْيُ، وما لا يؤكل لحمه إذا ذبح، والميتة إلا السمك والجراد والآدمي، ولبنُ ما لا يؤكل لحمه غير الآدمي، وشعر الميتة، وشعر غير المأكول إذا انفصل في حياته، إلا الآدمي، ومنيّ الكلب والخنزير.
والإنفحة طاهرة، إن أخذت من سخلة مذكاة لم تأكل غير اللبن. وما يسيل من فم النائم: إن كان من المعدة -بأن كان لا ينقطع إذا طال نومه- نجس، وإن كان من اللهوات -بأن كان ينقطع- فطاهر. والعضو المنفصل من الحي حكمه حكم ميتة ذلك الحيوان: إن كانت طاهرة -كالسمك- فطاهر، وإلا -كالحمار- فنجس. والعلقة، والمضغة، ورطوبة فرج المرأة، وبيض المأكول وغيره، ولبنه وشعره وصوفه ووبره وريشه -إذا انفصل في حياته أو بعد ذكاته- وعرق الحيوان الطاهر، طاهر، حتى الفأرة. وريقه ودمعه ولبن الآدمي ومَنِيُّه غير نجس، وكذا مَنِيُّ غيره، غير الكلب والخنزير، وقيل: نجس.
[الطهارة بالاستحالة]:
ولا يطهر شيء من النجاسات، إلا الخمر إذا تخلل، والجلد إذا
(1/32)


دبغ، ونجساً يصير حيواناً.
فإذا تخللت الخمر بغير إلقاء شيء فيها -إما بنفسها أو بنقلها من الشمس إلى الظل وعكسه أو بفتح رأسها- طهرت مع أجزاء الدَّنِّ الملاقية لها، وما فوقها مما أصابته عند الغليان، وإن ألقي فيها شيء فلا.
[الدباغة]:
الدبغ هو: نزع فضلات بكل حرّيف ولو نجساً، ولا يكفي ملح وتراب وشمس.
ولا يجب استعمال ماء في أثنائه، لكنه بعد الدبغ كثوب متنجّس، فيجب غسله بماء طهور. ولا يطهر بالدبغ جلد كلب وخنزير.
ولو كان على الجلد شعر لم يطهر الشعر بالدبغ، ويعفى عن قليله.
[ما يتعلق بالكلب والخنزير والهرة]:
وما تنجس بملاقاة شيء من الكلب والخنزير لم يطهر إلا بغسله سبعاً، إحداهن بتراب طاهر يستوعب المحل، ويجب مزجه بماء طهور، ويندب جعله في غير الأخيرة، ولا يقوم غير التراب مقامه كصابون وأُشْنان.
ولو رأى هرة تأكل نجاسة، ثم شربت من ماء دون قُلَّتَيْنِ قبل أن تغيب عنه نجسته.
وإن غابت زمناً يمكن فيه وُلُوغُها في قلتين، ثم شربت من القليل، لم تنجسه.
ودخان النجاسة نجس، ويعفى عن يسيره، فإن مسح كثيره عن تنُّور بخرقة يابسة فزال طهر،
(1/33)


أو رطبة فلا، فإن خبز عليه فطاهر وأسفل الرغيف نجس.
[بول الرضيع]: ويكفي في بول الصبي الذي لم يأكل غير اللبن الرَّشُّ مع غلبة الماء، ولا يشترط سيلانه، وبول الصبية -وكذا الخنثى- يغسل كالكبيرة.
وما سوى ذلك من النجاسات إن لم يكن له عين كفى جري الماء عليه، وإن كان له عين وجب إزالة طعمٍ وإن عَسُر، ولون وريح إن سَهُلا، فإن عسر إزالة الريح وحده أو اللون وحده لم يضر بقاؤه، وإن اجتمعا ضراه.
[حكم الغُسالة]:
ويشترط وُرُود الماء على المحل لا العصر، ويندب بعد طهارته غسله ثانية وثالثة.
ويكفي في أرض نجسة بذائبٍ المكاثرة بالماء، ولا يشترط نُضوبه.
ولو ذهب أثر نجاسة الأرض بشمس أو نار أو ريح لم تطهر حتى تُغسل.
وكل مائع غير الماء -كخل ولبن- إذا تنجس لا يمكن تطهيره، فإن كان جامداً -كالسمن الجامد- ألقى النجاسة وما حولها، والباقي طاهر.
وما غَسَل به النجاسة إن تغير أو زاد وزنه فنجسٌ، وإلا فلا، فإن بلغ قلتين فمطهر، وإلا فحكمه حكم المحل بعد الغسل به، إن كان قد حُكِمَ بطهارته فطاهر، وإلا فنجس.
(1/34)


كتاب الصلاة
[وجوب الصلاة]:
إنما تجب على كل مسلم بالغ عاقل طاهر، فلا قضاء على من زال عقله بجنون أو مرض، وكافر أصلي، ويقضي المرتد.
ويؤمر الصبي المميز بها لسبع، ويضرب عليها لعشر.
ومن نشأ بين المسلمين، وجحد وجوب الصلاة أو الزكاة أو الصوم أو الحج، أو تحريم الخمر أو الزنا، أو غير ذلك مما أُجْمِع على وجوبه أو تحريمه وكان معلوماً من الدين بالضرورة كفر، وقتل بكفره.
ومن ترك الصلاة تهاوناً -مع اعتقاده وجوبها- حتى خرج وقتها وضاق وقت ضرورتها، لم يكفر، بل يضرب عنقه، ويغسل ويصلى عليه، ويدفن في مقابر المسلمين. ولا يعذر أحد في التأخير إلا نائماً أو ناسياً، أو من أخر لأجل الجمع في السفر.

باب المواقيت
المكتوبات خمس:
1 - الظهر: وأول وقتها إذا زالت الشمس، وآخره مصير ظل كل شيء مثله، سوى ظل الزوال.
(1/35)


2 - العصر: وأوله آخر وقت الظهر، وآخره الغروب. لكن إذا صار ظل كل شيء مِثْلَيْه خرج وقت الاختيار وبقي الجواز.
3 - المغرب: وأوله تكامل غروب الشمس، ثم يمتد بقدر وضوء وستر عورة وأذان وإقامة وخمس ركعات متوسطات، فإن أخر الدخول فيها عن هذا القدر عصى وهي قضاء، وإن دخل فيه فله استدامتها إلى غيبوبة الشفق الأحمر.
4 - العشاء: وأوله غيبوبة الشفق الأحمر، وآخره الفجر الصادق، ولكن إذا مضى ثلث الليل خرج وقت الاختيار وبقي الجواز.
5 - الصبح: وأوله الفجر الصادق، وآخره طلوع الشمس. لكن إذا أسفر خرج وقت الاختيار وبقي الجواز.
والأفضل أن يصلي أول الوقت، ويحصل بأن يشتغل أول دخوله بالأسباب، كطهارة وستر عورة وأذان وإقامة، ثم يصلي.
ويستثنى الظهر، فيسن الإبراد بها في شدة الحر، ببلد حار، لمن يمضي إلى جماعة بعيدة، وليس في طريقه كِنٌّ يظله، فيؤخر حتى يصير للحيطان ظل يظله، فإن فقد شرط من ذلك ندب التعجيل.
ولو وقع في الوقت دون ركعة والباقي خارجه فكلها قضاء، أو ركعة فأكثر والباقي خارجه فكلها أداء، ولكن يحرم تعمد التأخير عن الوقت حتى يقع بعضها خارج الوقت.
ومن جهل دخول الوقت، فأخبره ثقة
(1/36)


عن مشاهدة وجب قبوله، أو عن اجتهاد فلا، فللأعمى أو البصير العاجز عن الاجتهاد تقليده، لا القادر عليه. ويجوز اعتماد مؤذن ثقة عارف، وديك مجرَّب، فإن فقد الأعمى أو البصير مخبراً اجتهدا بوردٍ ونحوه، وإن أمكنهما اليقين بالصبر، فإن تحيرا صبرا حتى يظنا، فإن صليا بلا اجتهاد أعادا وإن أصابا.
وإن مضى من أول الوقت ما يمكن فيه الصلاة، فجُنَّ أو حاضت، وجب القضاء.
ومتى فاتت المكتوبة بعذر نُدِبَ الفور في القضاء، وإن فاتت بغير عذر وجب الفور.
والصوم كالصلاة، ويحرم تراخيه لرمضان القابِل.
ويندب ترتيب الفوائت وتقديمها على الحاضرة، إلا أن يخشى فوات الحاضرة فيجب تقديمها.
وإن شرع في فائتة ظاناً سعة الوقت، فبان ضيقه، وجب قطعها وفَعَلَ الحاضرة.
ومن عليه فائتة فوجد جماعة الحاضرة قائمة نُدِبَ تقديم الفائتة منفرداً، ثم الحاضرة.
ومن نسي صلاة فأكثر من الخمس، ولم يعرف عينها لزمه الخمس، وينوي بكل واحدة الفائتة.

باب الأذان والإقامة
وهما سنتان في المكتوبات حتى لمنفرد وجماعة ثانية، بحيث يظهر الشعار.
والأذان أفضل من الإمامة، وقيل
(1/37)


عكسه.
فإن أذَّن المنفرد في مسجد صُلِّيَت فيه جماعة لم يرفع صوته، وإلا رفع. وكذا الجماعة الثانية لا يرفعون صوتهم.
ويُسَنُّ لجماعة النساء الإقامة دون الأذان.
ولا يؤذن للفائتة في الجديد، ويؤذن لها في القديم، وهو الأظهر. فإن فاتته صلوات لم يؤذن لما بعد الأولى، وفي الأولى الخلاف، ويقيم لكل واحدة.
وألفاظ الأذان والإقامة معروفة، ويجب ترتيبهما، فإن سكت أو تكلم في أثنائه طويلاً بَطَلَ أذانه، فيستأنفه، وإن قَصُرَ فلا.
وأقل ما يجب أن يسمع نفسه إن أذّن وأقام لنفسه، فإن أذّن وأقام لجماعة وجب إسماع واحد جميعهما. ولا يصح الأذان قبل الوقت، إلا الصبح فإنه يجوز أن يؤذن لها بعد نصف الليل.
ويندب الطهارة، والقيام، واستقبال القِبْلة، والالتفات في الحَيْعَلَتَيْن: في الأولى يميناً وفي الثانية شمالاً، فيلوي عنقه ولا يحول صدره وقدميه.
ويكره للمحدث، وكراهة الجنب أشد، وفي الإقامة أغلظ.
وأن يؤذن على موضع عال، وبقرب المسجد، ويجعل أصبعيه في صماخيه، ويرتل الأذان ويُدْرج الإقامة.
ويشترط أن يكون المؤذن مسلماً، عاقلاً، مميزاً، ذكراً، إن أذّن للرجال.
وندب كونه حراً عدلاً، صيتاً حسن الصوت،
(1/38)


من أقارب مؤذني النبي صلى الله عليه وسلم، ويكره للأعمى إلا أن يكون معه بصير.
ويندب لسامعه -ولو جنباً وحائضاً أو في قراءة- أن يقول مثل قوله عقب كل كلمة، وفي الحَيْعَلَتَيْن: لا حول ولا قوة إلا بالله، وفي (الصلاة خير من النوم): صدقت وبررت، وفي كلمتي الإقامة: أقامها الله وأدامها ما دامت السماوات والأرض، وجعلني من صالحي أهلها. فإن كان مجامعاً أو على الخلاء أو مصلياً أجاب بعد فراغه.
ويندب للمؤذن وسامعه بعد فراغه الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يقول: "اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، آت سيدنا محمداً الوسيلة والفضيلة، والدرجة الرفيعة، وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته".

باب طهارة البدن والثوب وموضع الصلاة
وطهارة البدن والملبوس -وإن لم يتحرك بحركته- وما يمسهما، وموضع الصلاة، شرط لصحة الصلاة.
ولو قبض طرف حبل، أو ربطه معه، وطرفه الآخر متصل بنجس، لم تصح صلاته. ولو تنجس بعض بساط فصلى على موضع طاهر منه، وتحرك الباقي بحركته، أو على سرير قوائمه على نجس، وهو يتحرك بحركته، صحت صلاته.
والنجاسة
(1/39)


-غير الدم- إن لم يدركها طرْفٌ يُعْفَ عنها، وإن أدركها لم يعف عنها، إلا عن دم براغيث وقمل وغيرهما، مما لا نفس له سائلة، فيعفى عن قليله وكثيره، وإن انتشر بعرق. وأما الدم والقيح: فإن كان من أجنبي عُفي عن يسيره، وإن كان من المصلي عفي عن قليله وكثيره، سواء خرج من بَثْرَة عصرها أو من دُمَّلٍ أو من قَرْح أو فصْد أو حجامة أو غيرها.
وأما ماء القروح والنَفّاطات: إن كان له رائحة كريهة فهو نجس، وإلا فلا.
ولو صلى بنجاسة جهلها أو نسيها، ثم رآها بعد فراغه، أعادها، أو فيها بطلت.
ولو أصابه طين الشوارع: فإن لم يتحقق نجاسته فهو طاهر، وإن تحققها عُفي عن قليله عرفاً، وهو ما يتعذر الاحتراز منه، ويختلف: بالوقت كأن كان أيام الأمطار، وبموضعه من البدن والثوب، ولا يعفى عن كثيره.
ومن عجز عن إزالة نجاسة ببدنه، أو حُبِس في موضع نجس، صلى وأعاد، وينحني بسجوده بحيث لو زاد أصابها، ويحرم وضع الجبهة عليها.
ولو عجز عن تطهير ثوبه صلى عُرْياناً بلا إعادة، ولو لم يجد إلا حريراً صلى فيه.
وإن خفيت النجاسة في ثوب وجب غسله كله ولا يجتهد، فإن أخبره ثقة بموضعها اعتمده.
وإن اشتبه طاهر بمتنجس اجتهد، وإن أمكن طاهر بيقين، أو غَسْلُ أحدهما، فإن تحير صلى
(1/40)


عُرْياناً وأعاد، إن لم يمكنه غسل ثوبه، فإن أمكن وجب، وإذا غسل ما ظنه نجساً صلى فيهما معاً، أو في كل منفرداً، ولو صلى بلا اجتهاد في كل ثوب مرة لم تصح.
ولو خفيت النجاسة في فلاة صلى حيث شاء بلا اجتهاد، أو في أرض صغيرة أو في بيت وجب غسل الكل. ولو اشتبه بيتان اجتهد.
ولا تصح الصلاة في مقبرة عَلِمَ نَبْشَها واختلاطها بصديد الموتى، فإن لم يعلم نبشها كرهت، وصح.
وتكره في حمام ومسلخة، وقارعة الطريق، ومزبلة، ومجزرة، وكنيسة، وموضع مكسٍٍ، وخمر، وظهر الكعبة، وإلى قبر متوجهاً إليه، وأعطان الإبل، لا مراح غنم. وتحرم في ثوب وأرض مغصوبين، وتصح بلا ثواب.

باب ستر العورة
هو واجب بالإجماع حتى في الخلوات إلا
(1/41)


لحاجة، وهو شرط لصحة الصلاة، فإن رأى في ثوبه بعد الصلاة خرقاً فكرؤية النجاسة.
وعورة الرجل ما بين السرة والركبة، وعورة الحرة كل بدنها إلا الوجه والكفين.
وشرط الساتر: أن يمنع لون البشرة، فلا يكفي زجاج وماء صاف، ويكفي التطيين ولو مع وجود الثوب، ويجب عند فقده.
وأن يشمل المستور لُبساً: فلو صلى في خيمة ضيقة عُرياناً لم تصح.
ويشترط الستر من الأعلى والجوانب لا الأسفل، فلو صلى مرتفعاً بحيث ترى عورته من أسفل، أو كان في سترته خرق فستره بيده، جاز.
ويندب لامرأة خمار، وقميص، وملحفة غليظة وتُجافيها، ولرجل أحسن ثيابه، ويتقمص ويتعمم، فإن اقتصر فثوبان: قميص معه رداء أو إزار أو سراويل، فإن اقتصر على ستر العورة جاز، لكن يندب له وضع شيء على عاتقه ولو حبلاً، فإن فقد ثوباً وأمكن ستر بعض العورة وجب،
(1/42)


ويستر السوأتين حتماً، فإن أمكن أحدهما فقط تعين القُبُل، فإن فقدها بالكلية صلى عُرياناً بلا إعادة، فإن وجد السترة في الصلاة -وهي بقربه- ستر وبنى إن لم يعدل عن القبلة، أو كانت بعيدة ستر واستأنف.
وتندب الجماعة للعراة، ويقف إمامهم وسطهم.
وإن أُعير ثوباً لزمه القبول، فإن لم يقبل وصلى عرياناً لم تصح صلاته، وإن وهبه لم يلزمه القبول. وسبق في التيمم مسائل، فيعود مثلها ههنا.

باب استقبال القبلة
وهو شرط لصحة الصلاة إلا في شدة الخوف ونفل السفر، فللمسافر التنفل راكباً وماشياً وإن قصُر سفره، فإن كان راكباً وأمكن استقباله وإتمام الركوع والسجود في مَحْمِل أو سفينة لزمه، وإن لم يمكنه لزمه الاستقبال عند التحرُّم فقط إن سَهُل، بأن كانت واقفة وأمكن انحرافه أو تحريفها، أو سائرة سهلة وزمامها بيده. وإن شق -بأن كانت عسرة أو مقطورة- فلا. ويومئ إلى مقصده بركوعه وسجوده، ويجب كونه أخفض، ولا يجب غاية وُسْعه، ولا وضع الجبهة على الدابة، فلو تكلفه جاز.
والماشي يركع ويسجد على الأرض ويمشي في الباقي، ويشترط الاستقبال في الإحرام والركوع والسجود فقط.
ويشترط دوام سفره
(1/43)


ولزوم جهة مقصده إلا إلى القبلة، فإن بلغ في أثنائها منزله أو مقصده -أو بلداً أو نوى الإقامة به- وجب إتمامها بركوع وسجود واستقبال، وعلى الأرض أو دابة واقفة.
ومن حضر الكعبة لزمه استقبال عينها، فلو استقبل الحِجْرَ أو خرج بعض بدنه عنها لم تصح، إلا أن يمتد صف بعيد في آخر المسجد الحرام -ولو قَرُبُوا لخرج بعضهم- فإنه يصح للكل.
ومن صلى داخل الكعبة واستقبل جدارها، أو بابها المردود، أو المفتوح وعتبته ثلثا ذراع تقريبا، صح، وإلا فلا.
وإن كان بمكة وبينه وبين الكعبة حائل خِلْقيٌّ أو طارئ فله الاجتهاد، وإن وضع محرابه على العَيان صلى إليه أبداً، ومن غاب عنها فأخبره بها مقبول الرواية عن مشاهدة وجب قبوله، وكذا يجب اعتماد محراب ببلد أو قرية يكثر طارقها.
وكل مكان صلى إليه النبي صلى الله عليه وسلم وضبط موقفه متعيِّنٌ، ولا يجتهد فيه لا بتيامن ولا بتياسر، ويجتهد بهما في غيره من المحاريب.
وإن لم يجد من يخبره عن مشاهدة اجتهد بالدلائل، فإن لم يعرفها أو كان أعمى قلد بصيراً، وإن تيقن الخطأ بعد الصلاة بالاجتهاد أعاد.
[سترة المصلي]:
ويندب للمصلي أن يكون بين يديه سترة ثلثا ذراع، أو يبسط مصلى، فإن
(1/44)


عجز خطَّ خطاً، على ثلاثة أذرع، فيحرم المرور حينئذ.
ويندب دفع المار بالأسهل، ويزيد قدر الحاجة، كالصائل، فإن مات فهدرٌ، فإن لم يكن سترةٌ أو تباعد عنها، كره المرور، وليس له الدفع.
ولو وجد في صف فرجة فله المرور ليسترها.

باب صفة الصلاة [سنن ما قبل الصلاة]:
يندب أن يقوم لها بعد فراغ الإقامة، ويندب الصف الأول، وتسوية الصفوف، وللإمام آكد، وإتمام الصف الأول فالأول، وجهة يمين الإمام أفضل.
[أركان الصلاة]:
[الركن الأول: النية]:
ثم ينوي بقلبه، فإن كان فريضة وجب نية فعل الصلاة، وكونها فرضاً، وتعيينها: ظهراً، أو عصراً، أو جمعة.
ويجب قرن ذلك بالتكبير، فيُحضره في ذهنه حتماً، ويتلفظ به ندباً، ويقصده مقارناً لأول التكبير ويستصحبه حتى يفرِغَه.
ولا يجب التعرض لعدد الركعات، ولا الإضافة إلى الله تعالى، ولا الأداء أو القضاء، بل يندب ذلك.
وإن كانت نافلة مؤقتة وجب التعيين: كعيد، وكسوف، وإحرام، وسنة الظهر، وغير ذلك. وإن كانت نافلة مطلقة أجزأه نية الصلاة.
ولو شك
(1/45)


بعد التكبير في النية أو في شرطها فيمسكك: فإن ذكرها قبل فعل ركن وقصُر الفصل لم تبطل، وإن طال أو بعد ركن قولي أو فعلي بطلت.
ولو قطع النية، أو عزم على قطعها، أو شك: هل قطعها، أو نوى في الركعة الأولى قَطْعَها في الثانية، أو علق الخروج بما يوجد في الصلاة يقيناً أو توهما -كدخول زيد- بطلت في الحال.
ولو أحرم بالظهر قبل الزوال عالماً لم تنعقد، أو جاهلاً انعقدت نفلاً.
[الركن الثاني: تكبيرة الإحرام]:
ولفظ التكبير مُتَعَيِّنٌ بالعربية، وهو: الله أكبر، أو: الله الأكبر.
ولو أسقط حرفاً منه، أو سكت بين كلمتيه، أو زاد بينهما واواً، أو بين الباء والراء ألفاً، لم تنعقد.
فإن عجز لخرس ونحوه وجب تحريك لسانه وشفتيه طاقته. فإن لم يعرف العربية كبَّر بأي لغة شاء، وعليه أن يتعلم إن أمكنه، فإن أهمل مع القدرة -وضاق الوقت- ترجم وأعاد الصلاة. وأقل التكبير والقراءة وسائر الأذكار أن يسمع نفسه -إذا كان صحيح السمع- بلا عارض، ويجهر الإمام بالتكبيرات كلها.
ويشترط أن يكبر قائماً في الفرض، فإن وقع منه حرف في غير القيام لم تنعقد فرضاً، وتنعقد نفلاً لجاهل التحريم دون عالمه.
ويندب رفع يديه حذو منكبيه -مفرقة الأصابع- مع التكبير، فإن تركه عمداً أو
(1/46)


سهواً أتى به في أثناء التكبير لا بعده، وتكون كفّاه إلى القبلة مكشوفتين، ويَحُطُّهما بعد التكبير إلى تحت صدره وفوق سرته، يقبض كوعه الأيسر بكفه الأيمن، وينظر إلى موضع سجوده.
[دعاء الاستفتاح]:
ثم يقرأ دعاء الاستفتاح، وهو: وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له، وبذلك أمرت وأنا من المسلمين.
ويندب ذلك لكل مصلٍّ: مفترض ومتنفل وقاعد وصبيٍّ وامرأة ومسافر، لا في جنازة.
ولو تركه عمداً أو سهواً وشرع في التَّعوُّذ لم يعد إليه.
ولو أحرم فأمَّن الإمام عقبه أمَّن معه، ثم استفتح. ولو أحرم فسلَّم الإمام قبل قعوده استفتح، وإن قعد فسلََّم فقام فلا.
ولو أدرك الإمام قائماً، وعلم إمكانه مع التعوذ والفاتحة أتى به، فإن شك لم يستفتح ولم يتعوذ، بل يَشْرعُ في الفاتحة، فإن ركع الإمام قبل أن يتمها ركع معه إن لم يكن استفتح ولا تعوذ، وإلا قرأ بقدر ما اشتغل به، فإن ركع ولم يقرأ بقدره بطلت صلاته، وإن قرأ حيث قلنا يركع فتخلَّف بلا عذر، فإن رفع الإمام قبل ركوعه فاتته ركعة.
[التعوذ]:
ويندب بعده: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ويتعوذ في كل ركعة، وفي الأولى آكد، سواء الإمام والمأموم والمنفرد، والمفترض والمتنفل حتى الجنازة، ويُسرُّ به في السرِّية والجهرية. [الركن الثالث: قراءة الفاتحة]:
ثم
(1/47)


يقرأ الفاتحة في كل ركعة، سواء الإمام والمأموم والمنفرد، والبسملة آية منها ومن كل سورة غير براءة.
ويجب ترتيبها وتواليها، فإن سكت فيها عمداً وطال، أو قصُر وقصد قَطْعَ القراءة، أو خللها بذكر أو قراءة من غيرها مما ليس من مصلحة الصلاة انقطعت قراءته، ويستأنفها. وإن كان من مصلحة الصلاة كتأمينه لتأمين إمامه، أو فَتْحِهِ عليه ذا غلط، أو سجوده لتلاوته ونحوها، أو سكت أو ذكر ناسياً لم تنقطع.
ولو ترك منها حرفاً، أو تشديدة، أو أبدل حرفاً بحرف، لم تصح.
وإذا قال: (وَلا الضَّالِّيِنَ) قال: آمين، سراً في السرية وجهراً في الجهرية، ويؤمِّن المأموم جهراً مقارناً لتأمين إمامه في الجهرية، ويؤمن ثانياً لفراغ فاتحته.
[مندوبات القراءة بعد الفاتحة]:
ثم يندب لإمامٍ ومنفرد في الركعة الأولى والثانية فقط -بعد الفاتحة- قراءة سورة كاملة.
ويندب لصبحٍ وظهرٍ طوال المفصَّل، وعصرٍ وعشاءٍ أوساطه، ومغربٍ قصاره، إن رضي بطواله وأوساطه مأمومون محصورون، وإلا خفف. ولصبح الجمعة: (الم. تَنْزِيلُ) و: (هَلْ أَتَى) ولسنة المغرب ولسنّة الصبح وركعتي الطواف والاستخارة: (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ) والإخلاص.
ويندب
(1/48)


الترتيل والتدبر، وتكره السورة لمأموم يسمع قراءة الإمام، فإن كانت سرية أو جهرية ولم يسمع لبعد أو صمم ندبت له أيضاً، وكذا لو كان يسمع قراءة الإمام ولم يفهم على الأصح.
ويطوّل الأولى على الثانية. ولو فات المسبوق ركعتان، فتداركهما بعد السلام، ندبت السورة فيهما سراً.
ويجهر الإمام والمنفرد في: الصبح، والجمعة، والعيدين، والاستسقاء، وخسوف القمر، والتراويح، والأوليين من المغرب والعشاء، ويسر في الباقي.
فإن قضى فائتة الليل والنهار ليلاً جهر، أو فائتة النهار والليل نهاراً أسر، إلا الصبح فإنه يجهر بقضائها مطلقاً. [العجز عن قراءة الفاتحة]:
ومن لا يحسن الفاتحة لزمه تعلمها، وإلا فقراءتها من مصحف، فإن عجز-لعدم ذلك، أو لم يجد معلماً، أو ضاق الوقت- حرُمت بالعجمية، فإن أحسن غيرها لزمه سبع آيات لا يَنْقُصُ حروفها عن حروف الفاتحة، فإن لم يحسن قرآناً لزمه سبعة أذكار بعدد حروفها، فإن أحسن بعض الفاتحة قرأه، وأتى بدله من قرآن أو ذكر، فإن حفظ الأول قرأه ثم أتى بالبدل، أو الآخر أتى بالبدل ثم قرأه، فإن لم يحسن شيئاً وقف بقدر الفاتحة، ولا إعادة عليه.
[الركن الرابع: القيام]:
والقيام ركن في المفروضة، وشرطه: أن يَنْصِبَ فقارَ
(1/49)


ظهره، فإن مال بحيث خرج عن القيام، أو انحنى وصار إلى الركوع أقرب، لم يجز، ولو تقوس ظهره -لكبر أو غيره- حتى صار كراكع، وقف كذلك، ثم زاد انحناءً للركوع إن قدر.
ويكره أن يقوم على رجل واحدة، وأن يَلْصِقَ قدميه، وأن يقدم إحداهما على الأخرى.
وتطويل القيام أفضل من تطويل السجود والركوع.
ويباح النفل قاعداً ومضطجعاً مع القدرة على القيام.
[الركن الخامس: الركوع]:
ثم يركع، وأقله: أن ينحني بحيث لو أراد وضع راحتيه على ركبتيه مع اعتدال الخِلقة لقدر.
وتجب الطمأنينة، وأقلها سكون بعد حركته، وأن لا يقصد بهُويّه غير الركوع.
وأكمل الركوع: أن يكبر رافعاً يديه، فيبتدئ الرفع مع التكبير، فإذا حاذى كفَّاه منكبيه انحنى، ويَمُدُّ تكبيرات الانتقالات، ويضع يديه على ركبتيه مفرقة الأصابع، ويَمُدُّ ظهره وعنقه، وينصب ساقيه، ويجافي مِرْفَقَيْه عن جنبيه، وتضم المرأة، ويقول: سبحان ربي العظيم، ثلاثاً، وهو أدنى الكمال، ويزيد المنفرد وكذا الإمام -إن رضي المأمومون وهم محصورون- خامسة وسابعة وتاسعة وحادي عشر، ثم يقول: "اللهم لك ركعت، وبك آمنت، ولك أسلمت، خشع لك سمعي وبصري ومخي وعظمي وعصبي وشعري وبشري وما استقلت به
(1/50)


قدمي". [الركن السادس: الاعتدال]:
ثم يرفع رأسه، وأقله: أن يعود إلى ما كان عليه قبل الركوع، ويطمئن، ويجب أن لا يقصد غير الاعتدال، فلو رفع فزعاً من حية ونحوها لم يجزئه.
وأكمله: أن يرفع يديه حال ارتفاعه، قائلاً: "سمع الله لمن حمده"، سواء الإمام والمأموم والمنفرد. فإذا انتصب قائماً قال: "ربنا لك الحمد، مِلْءَ السماوات ومِلْءَ الأرض ومِلْءَ ما شئت من شيء بعد. ويزيد مَنْ قلنا يزيد في الركوع: "أهلَ الثناء والمجد، أحقُّ ما قال العبد، وكلنا لك عبد، لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجدِّ منك الجدُّ".
[الركن السابع: السجود]:
ثم يسجد، وشروط إجزائه: أن يباشر مصلاه بجبهته أو بعضها مكشوفاً، ويطمئن، وأن ينال مصلاه ثِقَلَ رأسه، وأن تكون عجيزته أعلى من رأسه، وأن لا يسجد على متصل به يتحرك بحركته ككمّ وعمامة، وأن لا يقصد بهُوِيِّهِ غير السجود، وأن يضع جزءاً من ركبتيه وبطون أصابع رجليه وكفيه على الأرض.
ولو تعذر التنكيس لم يجب وضع وسادة ليضع الجبهة عليها، بل يخفض القدر الممكن.
ولو عصب جبهته لجراحة عمّتها وشق إزالتها سجد عليها بلا إعادة. هذا أقله.
وأكمله: أن يكبر، ويضع ركبتيه، ثم يديه، ثم جبهته وأنفه دفعة، ويضع يديه حذو منكبيه منشورة الأصابع نحو القِبْلة، مضمومة مكشوفة، ويفرق ركبتيه
(1/51)


وقدميه قدر شبر، ويرفع الرجل بطنه عن فخذيه وذراعيه عن جنبيه، وتضم المرأة. ويقول: "سبحان ربي الأعلى وبحمده"، ثلاثاً، ويزيد مَنْ قلنا يزيد في الركوع تسبيحاً كما سبق في الركوع، ثم: "اللهم لك سجدت، وبك آمنت، ولك أسلمت، سجد وجهي للذي خلقه وصوره وشق سمعه وبصره بحوله وقوته، تبارك الله أحسن الخالقين". وإن دعا فحسن.
[الركن الثامن: الجلوس بين السجدتين]:
ثم يرفع رأسه، ويجب الجلوس مطمئناً، وأن لا يقصد برفعه غيره. وأكمله: أن يكبر ويجلس مفترشاً: يفرش يسراه ويجلس عليها، وينصب يمناه، ويضع يديه على فخذيه بقرب ركبتيه، منشورة، مضمومة الأصابع، ويقول: "اللهم اغفر لي، وارحمني، وعافني، واجبرني، واهدني، وارزقني".
والإقعاء ضربان:
أحدهما: أن يضع أليتيه على عقبيه، وركبتيه وأطراف أصابعه بالأرض، وهو مندوب بين السجدتين، لكن الافتراش أفضل.
والثاني: أن يضع أليتيه ويديه بالأرض، وينصب ساقيه. وهذا مكروه في كل صلاة.
ثم يسجد سجدة أخرى مثل الأولى، ثم يرفع رأسه مكبراً.
ويسن أن يجلس مفترشاً جلسة لطيفة للاستراحة عقب كل ركعة لا يعقبها تشهد، ثم ينهض معتمداً على يديه، ويَمُد التكبير إلى أن يقوم، وإن تركها الإمام جلسها المأموم،
(1/52)


ولا تشرع لرفع من سجود التلاوة.
ثم يصلي الركعة الثانية كالأولى، إلا في النية والإحرام والاستفتاح.
فإن زادت صلاته على ركعتين جلس بعدهما مفترشاً، وتشهد، وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم وحده دون آله، ثم يقوم مكبراً معتمداً على يديه، فإذا قام رفعهما حذو منكبيه.
ويصلي ما بقي كالثانية إلا في الجهر والسورة.
[الركن التاسع والعاشر: التشهد الأخير والجلوس فيه]:
ويجلس في آخر صلاته للتشهد متوركاً: يفرش يسراه، وينصب يمناه، ويخرجها من تحته، ويفضي بوركه إلى الأرض. وكيف قعد هنا وفيما تقدم جاز.
وهيئة الافتراش والتورك سنة. ويفترش المسبوق في آخر صلاة الإمام، ويتورك آخر صلاة نفسه، وكذا يفترش هنا من عليه سجود سهو، وإذا سجد تورك وسلم.
ويضع في التشهدين يسراه على فخذه عند طرف ركبته، مبسوطة مضمومة، ويقبض يمناه ويُرْسل المسبحة ويضع إبهامه عل حرفها، ويرفع المسبحة مشيراً بها عند قوله: إلا الله، ولا يحركه عند رفعها. وأقل التشهد: "التحيات لله، سلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، سلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله".
وأكمل التشهد: "التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله، السلام عليك أيها النبي
(1/53)


ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله".
وألفاظ التشهد متعينة، ويشترط ترتيبها، فإن لم يحسنه وجب التعلم، فإن عجز ترجم.
[الركن الحادي عشر: الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الأخير]:
ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، وأقله: "اللهم صل على محمد".
وأكمله: "اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، في العالمين إنك حميد مجيد".
ويندب بعد الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم الدعاء بما يجوز من أمر الدين والدنيا، ومن أفضله: "اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أسرفت وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت".
ويندب أن يكون الدعاء أقل من التشهد والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.
[الركن الثاني عشر: السلام]:
ثم يسلم، وأقله: "السلام عليكم". ويشترط وقوعه في حال القعود.
وأكمله: "السلام عليكم ورحمة الله"، ملتفتاً عن يمينه حتى يُرى خده الأيمن، ينوي به الخروج من الصلاة، والسلام على من عن يمينه من ملائكة ومسلمي إنس وجن. ثم أخرى عن يساره كذلك حتى يرى خده الأيسر، ينوي بها السلام
(1/54)


على من عن يساره منهم. والمأموم: ينوي الرد على الإمام بالأولى إن كان عن يساره، وبالثانية إن كان عن يمينه، ويتخير إن كان خلفه.
[ما يطلب بعد السلام]:
ويندب أن لا يقوم المسبوق إلا بعد تسليمتي إمامه، فإن قام المسبوق بعد التسليمة الأولى جاز، أو قبلها بطلت صلاته إن لم ينو المفارقة. ولو مكث المسبوق بعد سلام إمامه وأطال: جاز إن كان موضع تشهده، لكن يكره، وإلا بطلت إن تعمد.
ولغير المسبوق بعد سلام الإمام إطالة الجلوس للدعاء، ثم يسلم متى شاء.
ولو اقتصر الإمام على تسليمة سلَّم المأموم ثنتين.
ويندب ذكر الله تعالى والدعاء سراً عقيب الصلاة، ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم أوله وآخره.
ويلتفت الإمام للذكر والدعاء: فيجعل يمينه إليهم، ويساره إلى القبلة.
ويفارق الإمام مصلاه عقيب فراغه إن لم يكن ثَمَّ نساء، ويمكث المأموم حتى يقوم الإمام.
ومن أراد نفلاً بعد فرضه نُدِبَ الفصل بكلام أو انتقال، وهو أفضل، وفي بيته أفضل.
[دعاء القنوت]:
فإن كان في الصبح فالسنة أن يقنُت في اعتدال الركعة الثانية، فيقول: "اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت، وقني
(1/55)


شر ما قضيت، فإنك تقضي ولا يقضى عليك، وإنه لا يذل من واليت، تباركت ربنا وتعاليت، فلك الحمد على ما قضيت، نستغفرك ونتوب إليك".
ولو زاد: "ولا يعز من عاديت" فحسن.
فإن كان إماماً أتى بلفظ الجمع: اللهم اهدنا ... إلى آخره.
ولا تتعين هذه الكلمات، فيحصل بكل دعاء وثناء، وبآية فيها دعاء كآخر البقرة، ولكن هذه الكلمات أفضل.
ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم.
ويندب رفع يديه دون مسح وجهه أو صدره، ويجهر به الإمام: فيؤمن مأموم يسمعه للدعاء، ويشارك في الثناء، وإن لم يسمعه قنت، والمنفرد يسرُّ به.
وإن نزل بالمسلمين نازلة قنتوا في جميع الصلوات.

باب مفسدات الصلاة ومكروهاتها وشروطها وأركانها
[مفسدات الصلاة]:
[1 - الكلام]:
متى نطق بلا عذر بحرفين، أو بحرف مفهم -مثل: (قِ) من الوقاية، و (لِ) من الولاية- بطلت صلاته.
والضحك، والبكاء، والأنين، والتنحنح، والنفخ، والتأوه، ونحوها، يبطل الصلاة إن بان حرفان، فإن كان عذرٌ -بأن سبق لسانه، أو غلبه ضحكٌ أو سعالٌ، أو تكلم ناسياً، أو جاهلاً تحريمه لقرب عهده بالإسلام- وكثر عرفاً أبطل، وإن قلَّ فلا.
ولو علم التحريم وجهل كونه مبطلاً، أو قال من خوف النار: آه، بطلت.
ولو تعذرت الفاتحة إلا بالتنحنح تنحنح لها وإن بان
(1/56)


حرفان، وإن تعذر الجهر بها إلا به تركه وأسرّ بها، ولا يتنحنح له.
ولو رأى أعمى يقع في بئر ونحوه وجب إنذاره بالنطق إن لم يمكن بغيره، وتبطل صلاته.
ولا تبطل الصلاة بالذِّكْر، وتبطل بالدعاء خطاباً: كرحمك الله، وعليك السلام، لا غيبة: كرحم الله زيداً.
ولو نابه شيء في الصلاة سبح الرجل، وصفقت المرأة ببطن اليمنى على ظهر اليسرى، لا بطناً ببطن.
ولو تكلم بنظم القرآن كـ (يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ) وقصد إعلامه فقط أو أطلق بطلت، أو تلاوة فقط أو تلاوة وإعلاماً فلا.
[2 - بوصول عين إلى الجوف]:
وتبطل الصلاة بوصول عين -وإن قلَّت- إلى جوفه عمداً، وكذا سهواً أو جهلاً بالتحريم إن كثرت عرفاً، لا إن قلَّت.
[3 - الحركة]:
[أ- الحركة من جنس الصلاة]:
وتبطل الصلاة بزيادة ركن فعلي -كركوع- عمداً، لا سهواً، ولا بقوليٍّ عمداً: كتكرار الفاتحة، أو التشهد أو قراءتهما في غير محلهما.
[ب- الحركة من غير جنس الصلاة]: وتبطل الصلاة بزيادة فعل -ولو سهواً- من غير جنس الصلاة إن كثر متوالياً، كثلاث خطوات أو ضربات متواليات. لا إنْ قلَّ، كخطوتين، أو كثُر وتفرق بحيث يعد الثاني منقطعاً عن الأول، فإن فحُش -كوثبة- بطلت.
ولا تضره حركات خفيفة، كحك بأصابعه، وكإدارة سبحة في يده، ولا سكوتٌ طويلٌ، وإشارة مفهمة من أخرس.
[مكروهات الصلاة]:
وتكره وهو يدافع الأخبثين، وبحضرة طعام أو
(1/57)


شراب يتوق إليه، إلا إن خشي خروج الوقت.
ويكره تشبيك الأصابع، والالتفات لغير حاجة، ورفع بصره إلى السماء، والنظر إلى ما يلهيه، وكف ثوبه وشعره ووضعه تحت عمامته، ومسح الغبار عن جبهته، والتثاؤب، فإن غلبه وضع يده على فمه، والمبالغة في خفض الرأس في الركوع، ووضع يده على خاصرته، والبصاق قِبَلَ وجهه ويمينه، بل عن يساره في ثوبه أو تحت قدمه.
وللصلاة شروط وأركان وأبعاض وسنن:
فشروطها ثمانية:
1 - طهارة الحدث والنجس.
2 - وستر العورة.
3 - واستقبال القبلة.
واجتناب المناهي، وهي:
4 - 5 - 6 - الكلام، والأكل، والفعل الكثير.
7 - ومعرفة دخول الوقت ولو ظنّاً.
8 - والعلم بفرضية الصلاة وبكيفيتها.
فمتى أخلَّ بشرط منها بطلت الصلاة، مثل:
أن يسبقه الحدث فيها ولو سهواً، أو تصيبه نجاسة رطبة ولم يُلْقِ الثوب، أو يابسةٌ فيلقيَها بيده أو كمه، أو تكشف الريح عورته وتبعد السترة، أو يعتقد بعض أفعالها فرضاً وبعضها سنة ولم يميزهما، فلو اعتقد أن جميعها فرض، أو بادر بإلقاء الثوب النجس وبنفض اليابسة، وستر العورة، لم تبطل.
وأركانها سبعة عشر:
1 - النية.
2 - وتكبيرة الإحرام.
3 - والقيام.
(1/58)


4 - والفاتحة والبسملة آية منها.
5 - 6 - والركوع والطمأنينة.
7 - 8 - والاعتدال والطمأنينة.
9 - 10 - والسجود والطمأنينة.
11 - 12 - والجلوس بين السجدتين والطمأنينة.
13 - 14 - والتشهد الأخير وجلوسه.
15 - والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فيه.
16 - والتسليمة الأولى.
17 - والترتيب هكذا.
وأبعاضها ستة:
1 - 2 - التشهد الأول وجلوسه.
3 - 4 - والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فيه، وآله في الأخير.
5 - 6 - والقنوت وقيامه.
وما عدا ذلك سننٌ.

باب صلاة التطوع
أفضل عبادات البدن الصلاة، ونفلها أفضل النفل. وما شرع له الجماعة -وهو: العيدان والكسوفان والاستسقاء- أفضل مما لا يشرع له الجماعة، وهو ما سوى ذلك، لكن الرواتب مع الفرائض أفضل من التراويح. والسنة أن يواظب على رواتب الفرائض، وأكملها: ركعتان قبل الصبح، وأربعٌ قبل الظهر وأربعٌ بعدها، وأربعٌ قبل العصر، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء.
والمؤكد من ذلك عشر ركعات: ركعتان قبل الصبح والظهر وبعدها، وبعد المغرب والعشاء.
ويندب ركعتان قبل المغرب، والجمعة كالظهر.
(1/59)


وما قبل الفريضة وقته وقت الفريضة، وتقديمه عليها أدب، وهو بعدها أداء، وما بعدها يدخل وقته بفعلها ويخرج بخروج وقتها.
[الوتر]:
وأقل الوتر: ركعة، وأكمله: إحدى عشرة، ويسلم من كل ركعتين.
وأدنى الكمال: ثلاث بسلامين، يقرأ في الأولى: (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى). وفي الثانية: (قُلْ يا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ). وفي الثالثة: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) والمعوذتين.
وله وصل الثلاث والإحدى عشرة بتسليمة، ويجوز بتشهد وبتشهدين في الأخيرة والتي قبلها، وبتشهدين أفضل، فإن زاد على تشهدين بطلت صلاته.
والأفضل تقديمه عقيب سنة العشاء، إلا أن يكون له تَهَجُّدٌ فالأفضل تأخيره ليوتر بعده. ولو أوتر ثم أراد تهجداً صلى مثنى مثنى ولا يعيده، ولا يحتاج إلى نقضه بركعة قبل التهجد. ويندب أن لا يَتَعَمَّد بعده صلاة.
[التراويح أو قيام رمضان]:
ويندب التراويح، وهي: كلَّ ليلة من رمضان عشرون ركعة في الجماعة، ويسلم من كل ركعتين، فلو صلى أربعاً بتسليمة لم يصح.
ويوتر بعدها جماعة، إلا لمن يتهجد فيؤخره، ويقنت في الأخيرة في النصف الأخير بقنوت الصبح، ثم يزيد: اللهم إنا نستعينك ... إلى آخره.
ووقت الوتر والتراويح ما بين صلاة العشاء وطلوع الفجر.
[الضحى]:
ويُندَب أن يصليَ الضُّحَى، وأقلها:
(1/60)


ركعتان، وأكملها: ثمان، وأكثرها: اثنتا عشْرة، ويسلم من كل ركعتين، ووقتها من ارتفاع الشمس إلى الزوال. [قضاء النوافل]:
وكل نفل مؤقت -كالعيد والضحى والوتر ورواتب الفرائض- إذا فات ندب قضاؤه أبداً، وإن فعل لعارض -كالكسوف والاستسقاء والتحية والاستخارة- لم يقض.
[قيام الليل والتهجد]:
والنفل في الليل متأكدٌ وإن قلَّ، والنفل المطلق في الليل أفضل من المطلق في النهار، وأفضله السدس الرابع والخامس إن قسمه أسداساً، فإن قسمه نصفين فأفضله الأخير، أو أثلاثاً فالأوسط.
ويكره قيام كل الليل دائماً.
ويندب افتتاح التهجد بركعتين خفيفتين، وينوي التهجد عند نومه، ولا يعتاد منه إلا ما يمكنه الدوام عليه بلا ضرر.
ويسلم من كل ركعتين، فإن جمع ركعات بتسليمة -أو تَطَوَّع بركعة- جاز. وله التشهد في كل ركعتين أو ثلاث أو أربع وإن كثرت التشهدات، وله أن يقتصر على تشهد واحد في الأخيرة، ولا يجوز في كل ركعة.
وإذا نوى عدداً فله الزيادة والنقص، بشرط أن يغير النية قبلهما، فلو نوى أربعاً فسلَّم من ركعتين بنية النقص جاز، أو بلا نِيَّة عمداً بطلت، أو سهواً: أتم أربعاً وسجد للسهو.
[تحية المسجد]:
(1/61)


ويندب لمن دخل المسجد أن يصلي ركعتين تحيته كلما دخل، وإن كثر دخوله في ساعة، وتفوت بالقعود.
ولو نوى ركعتين مطلقاً، أو منذورةً أو راتبةً أو فريضةً فقط أو الفرض والتحية حصلا.
[نوافل مكروهة]:
وإذا دخل الإمام في المكتوبة أو شرع المؤذن في الإقامة كره افتتاح كل نفل: التحية والرواتب وغيرهما.
والنفل في بيته أفضل من المسجد.
ويكره تخصيص ليلة الجمعة بصلاة. وصلاة الرغائب في رجب وصلاة نصف شعبان بدعتان مكروهتان.

باب سجود السهو
أسباب سجود السهو اثنان: ترك مأمور به، وارتكاب منهيٍّ عنه.
[أ- ترك مأمور به]:
فإن ترك ركناً واشتغل بما بعده، ثم ذكر، تداركه وأتى بما بعده، وسجد للسهو.
ولو ترك بعضاً -ولو عمداً- سجد، ولو ترك غيرهما لم يسجد.
[ب- ارتكاب منهي عنه]:
وإن ارتكب منهيّاً: فإن لم يُبْطِلْ عَمْدُهُ الصلاة لم يسجد، وإن أبطل سجد لسهوه إن لم يبطل سهوه أيضاً.
ويستثنى مما لا يبطل عمده ما إذا
(1/62)


قرأ الفاتحة أو التشهد أو بعضهما في غير موضعه؛ فإنه يسجد لسهوه، ولا يُبْطِل عمده.
والاعتدال من الركوع والجلوس بين السجدتين ركنان قصيران، تبطل الصلاة بإطالتهما عمداً، فإن طوَّلهما سهواً سجد.
ولو نسي التشهد الأول، فذكره بعد انتصابه، حرُم العود إليه، فإن عاد عمداً بطلت، أو سهواً أو جاهلاً سجد، ويلزمه القيام إذا ذكره.
وإن عاد قبله لم يسجد إن لم يكن إلى القيام أقرب، وإلا فيسجد.
ولو نهض عامداً، ثم عاد بعد ما صار إلى القيام أقرب بطلت، وإلا فلا.
والقنوت كالتشهد، ووضع الجبهة بالأرض كالانتصاب.
ولو نهض الإمام لم يجز للمأموم القعود له إلا أن ينوي مفارقته، فلو انتصب مع الإمام فعاد الإمام إليه حرمت موافقته، بل يفارقه أو ينتظره قائماً، فإن وافقه عمداً بطلت.
ولو قعد الإمام وقام المأموم سهواً لزمه العود لموافقة إمامه.
ولو شك: هل سها، أو هل زاد ركناً، أو: هل ارتكب منهياً، لم يسجد.
أو: هل ترك بعضاً معيناً، أو: هل سجد للسهو، أو: هل صلى ثلاثاً أو أربعاً، بنى على أنه لم يفعله، ويسجد. لكن إن
(1/63)


زال شكه قبل السلام يسجد أيضاً لما صلاه متردداً واحْتُمِل أنه زائد، وإن وجب فعله على كل حال لم يسجد.
مثال ذلك: شك في الثالثة: أهي ثالثةٌ أم رابعةٌ؟ فتذكر فيها، لم يسجد، أو بعد قيامه للرابعة سجد.
وسجود السهو وإن تعددت أسبابه سجدتان.
ولو سجد المسبوق مع إمامه أعاده في آخر صلاته.
وإن سها خلف الإمام لم يسجد، فإن سها قبل الاقتداء به أو بعد سلام الإمام سجد، ولو سها الإمام -ولو قبل الاقتداء به- وجب متابعته في السجود، فإن لم يتابع بطلت صلاته، فإن ترك الإمام سجد المأموم.
ولو نسي المسبوق فسلّم مع الإمام، ثم ذكر، تدارك، وسجد للسهو.
وسجود السهو سنة، ومحله قبل السلام: سواء سها بزيادة أو نقص، فإن سلَّم قبله عمداً مطلقاً -أو سهواً وطال الفصل- فات، وإن قصُر وأراد السجود سجد، وكان عائداً إلى الصلاة، فيعيد السلام.
فصل [في سجود التلاوة والشكر]
سجود التلاوة سنةٌ للقارئ والمستمع والسامع.
ويسجد المصلي المنفرد والإمام لقراءة نفسه، فإن سجدا لقراءة غيرهما بطلت صلاتهما.
ويسجد المأموم
(1/64)


لقراءة إمامه معه، فلو سجد لقراءة نفسه أو غير إمامه أو دونه أو تخلف عنه بطلت.
وهو أربعَ عشْرة سجدة، منها ثنتان في الحج.
وليس منها سجدة (ص) بل هي سجدة شكر تفعل خارج الصلاة، ويُبْطِلُ تعمدها الصلاة.
وإذا سجد في الصلاة كبَّر للسجود والرفع ندباً، ويجب أن ينتصب قائماً، ويندب أن يقرأ شيئاً ثم يركع. وفي غير الصلاة تجب تكبيرة الإحرام والسلام، وتندب تكبيرة السجود والرفع، لا التشهد وإن أخَّر السجود وقَصُرَ الفصل سجد، وإلا لم يقض.
ولو كرر آية في مجلس أو ركعة ولم يسجد للأولى كفته سجدة. ويندب لمن قرأ في الصلاة وغيرها آية رحمة: أن يسأل الله الرحمة، أو آية عذاب: أن يتعوذ منه. ولمن تجدد له نعمة ظاهرة، أو اندفعت عنه نقمة ظاهرة -ومنه رؤية مبتلىً بمعصية أو مرض- أن يسجد شكراً لله تعالى، ويخفيها، إلا لفاسق فيظهرها ليرتدع، إن لم يخف ضرراً.
وهي كسجدة التلاوة خارج الصلاة، وتبطل بفعلها الصلاة.
ولو خضع فتقرب لله بسجدة منفردة بلا سبب حَرُمَ.
وحكم سجود التلاوة حكم صلاة النفل في القبلة والطهارة والستارة.
(1/65)


باب صلاةِ الجماعةِ
هي فرضُ كفايةٍ في حقِّ الرجالِ المقيمينَ، في المكتوباتِ الخمس المؤدياتِ، بحيثُ يظهرُ الشِّعَارُ، وتُسنُّ للنساء، وللمسافرينَ، وللمقضيةِ خلفَ مثلها، لا خلفَ مؤداةٍ ومقضيةٍ غيرها، وهي في الجُمعةِ فرضُ عينٍ.
وآكدُ الجماعاتِ الصبحُ ثمَّ العِشاءُ ثمَّ العصْرُ.
وأقلُّ الجماعة إمامٌ ومأمومٌ، وهيَ للرجالِ في المساجدِ أفضلُ، وأكثرُها جماعةً أفضلُ، فإنْ كانَ بجوارِهِ مسجدٌ قليلُ الجمعِ فالبعيدُ الكثيرُ الجمعِ أولى، إلا أنْ يكونَ إمامُهُ مبتدعاً، أوْ فاسقاً، أوْ لا يعتقد بعض الأركانِ، أوْ يتعطلَ بذهابهِ إلى البعيدِ جماعةُ مسجدِ الجوارِ فمسجدُ الجوارِ أولى، والنساءُ في بيوتهنَّ أفضلُ، ويُكرهُ حضورُ المسجدِ لمشتهاةٍ أوْ شابَّةٍ، لا غيرِهِما عندَ أمنِ الفتنةِ.
[أعذارُ الجماعةِ]:
وتسقطُ الجماعةُ بالعذْرِ، كمطرٍ أوْ ثلجٍ يَبُلُّ الثوبَ، أوْ وَحَلٍ، أوْ ريحٍ بالليلِ، أو حرٍّ أوْ بردٍ شديدينِ، أوْ حضورِ طعامٍ أوْ شرابٍ يتوقُ إليهِ، أوْ مدافعةِ حدَثٍ، أوْ خوفٍ على نفسٍ أوْ مالٍ، أوْ مرضٍ، أوْ تمريضِ منْ يخافُ ضياعَه، أوْ كانَ يأنسُ بهِ، أوْ
(1/66)


حضورِ موتِ قريبٍ أوْ صديقٍ، أوْ فوتِ رفقةٍ ترحلُ، أوْ أكلِ ذي رائحةٍ كريهةٍ، أو ملازمةِ غريمهِ وهو معسرٌ.
وشروط الجماعة:
[1 - نيةُ القدوةِ والإمامةِ]: أنْ ينويَ المأمومُ الاقتداءَ، فإنْ أهملَهُ انعقدتْ فرادى، فإنْ تابعَ بلا نيةٍ بطلتْ صلاتُهُ إن انتظرَ أفعالَهُ انتظاراً طويلاً، فإنْ قلَّ، أوْ اتفقَ فلا، ولوِ اقتدى بمأمومٍ حالَ اقتدائهِ بطلتْ صلاتهُ.
ولينو الإمامُ الإمامةَ، فإنْ أهملَهُ انعقدتْ فرادى، وصحَّ الاقتداءُ بهِ، وفاتَ الإمامَ ثوابُ الجماعةِ، ويشترطُ نيةُ الإمامةِ في الجمعةِ.
ويندبُ لقاصدِ الجماعةِ المشيُ بسكينةٍ، ويحافظُ على إدراكِ فضيلةِ تكبيرةِ الإحرامِ، وتحصُلُ بأنْ يشتغلَ بالتحرُّمِ عقبَ تحرُّمِ الإمامِ، ولوْ دخلَ في نفلٍ فأقيمت الجماعةُ أتمَّهُ إنْ لمْ يخشَ فواتَ الجماعةِ، وإلا قطعَهُ، ولوْ دخلَ في الفرضِ منفرداً فأقيمتِ الجماعةُ نُدبَ قلبُهُ نفلاً ركعتينِ ثمَّ يقتدي، فإنْ لمْ يفعلْ ونوى الاقتداءَ في أثناءِ الصلاةِ صحَّ وكُرِهَ، ولزمَهُ المتابعةُ، فإنْ تمتْ صلاةُ المقتدي أولاً انتظرَ في التشهد أوْ سلَّمَ، ولوْ أحرمَ معَ الإمامِ ثمَّ أخرجَ نفسهُ منَ الجماعةِ وأتمَّ منفرداً جازَ، لكنْ يُكرهُ بلا عُذرٍ.
[صلاة المسبوق]:
ولوْ وجدَ الإمامَ راكعاً، أحرمَ منتصباً ثمَّ كبَّرَ للركوعِ، فإنْ وقعَ بعضُ تكبيرةِ الإحرامِ في غيرِ القيامِ لمْ تنعقدْ، فإنْ وصلَ
(1/67)


إلى حدِّ الركوعِ المجزئ، واطمأنَّ قبلَ رفعِ الإمام ِعنْ حدِّ الركوعِ المجزئ حصلتْ لهُ الركعةُ، فإنْ شكَّ هلْ رفعَ الإمامُ عنِ الحدِّ المجزئ قبلَ وصولهِ إلى الحدِّ المجزئ، أوْ بعدَهُ، أوْ كانَ الركوعُ غيرَ محسوبٍ للإمامِ، كمحدثٍ، وكذا من بهِ نجاسةٌ خفيّةٌ، أو ركوعَ خامسةٍ، لمْ يدركْ.
ومتى أدركَ الاعتدالَ فما بعدَهُ انتقلَ معَهُ مكبِّراً، ويسبحُ ويتشهدُ معهُ في غير موضعهِ، ولوْ أدركهُ ساجداً أوْ متشهداً سجدَ أوْ جلسَ بلا تكبيرٍ، ولوْ سلمَ الإمامُ وهوَ موضعُ جلوسِ المسبوقِ قامَ مكبراً، فإنْ لمْ يكنْ موضعَهُ فلا تكبيرَ.
وإنْ أدركَ الإمامَ قبلَ أنْ يسلمَ أدركَ فضيلةَ الجماعةِ، وما أدركَهُ فهوَ أولُ صلاتهِ، وما يأتي بهِ بعدَ سلامِ الإمامِ فهوَ آخرُ صلاتهِ فيعيدُ فيِ القنوتَ.
[2 - الثاني من شروط الجماعة: متابعة الإمام]:
ويجبُ متابعةُ الإمامِ في الأفعالِ، وليكن ابتداءُ فعلهِ متأخراً عن ابتدائهِ، ومتقدِّماً على فراغهِ، ويتابعُهُ في الأقوالِ أيضاً، إلا التأمينَ فيقارنهُ فيهِ، ولوْ قارنَهُ في تكبيرةِ الإحرامِ، أوْ شكَّ هلْ قارنَهُ لمْ تنعقدْ، أوْ في غيرهِ كُرِهَ وفاتتْهُ فضيلةُ الجماعةِ. وإنْ سبقهُ إلى ركنٍ، بأنْ ركعَ قبلهُ كُرهَ، وندبَ العَودُ إلى متابعتهِ، وإنْ سبقهُ بركنٍ، بأن ركعَ
(1/68)


ورفعَ ثمَّ مكثَ حتى رفعَ الإمامُ حرُمَ ولمْ تبطلْ، أوْ بركنينِ عمداً بطلتْ صلاتهُ، أوْ سهواً فلا، ولا يُعتدُّ بهذهِ الركعةِ.
وإنْ تخلفَ بركنٍ بلا عذرٍ كُرهَ، أوْ بركنينِ بطلتْ، فإنْ ركعَ واعتدلَ والمأمومُ بعدُ قائمٌ لمْ تبطلْ، فإنْ هوى ليسجدَ وهوَ بعدُ قائمٌ بطلتْ وإنْ لمْ يبلغ السجودَ، لأنهُ كمَّلَ الركنينِ، وإنْ تخلفَ بعذرٍ -كبطءِ قراءتهِ لعجزٍ لا لوسوسةٍ- حتى ركعَ الإمامُ لزمَهُ إتمامُ الفاتحةِ، ويسعى خلفَهُ ما لمْ يسبقْهُ بأكثرَ منْ ثلاثةِ أركانٍ، فإنْ زادَ وافقَهُ فيما هوَ فيهِ ثمَّ يتداركُ ما فاتهُ بعدَ سلامهِ.
وإذا أحسَّ الإمامُ بداخلٍ وهوَ راكعٌ أوْ في التشهدِ الأخيرِ، نُدبَ انتظارُهُ بشرطِ أنْ يكونَ قدْ دخلَ المسجدَ، وأنْ لا يَفحُشَ الطولُ، وأنْ يقصدَ الطاعةَ لا تمييزَهُ وإكرامَهُ، بأنْ ينتظرَ الشريفَ دونَ الحقيرِ، ويُكرهُ في غيرِ الركوعِ والتشهدِ.
ولوْ كان لمسجدٍ إمامٌ راتبٌ ولمْ يكنْ مطروقاً، كُرهَ لغيرهِ إقامةُ الجماعةِ فيهِ بغيرِ إذنهِ، وإنْ كانَ مطروقاً أوْ لا إمامَ لهُ لمْ يكرهْ.
ومنْ صلى منفرداً أوْ في جماعةٍ ثمَّ وجدَ جماعةً تصلي، نُدبَ أنْ يعيدَ معهمْ بنيةِ الفريضةِ، وتقعُ نفلاً.
ويندبُ للإمامِ التخفيفُ، فإن علمَ رِضَى محصورينَ بالتطويلِ ندبَ حينئذٍ. ويندبُ تلقينُ إمامهِ إنْ وقفتْ قراءتُهُ، وإنْ نسيَ ذِكْراً جهرَ بهِ المأمومُ ليسمعَهُ، أوْ فعلاً سبَّحَ، فإنْ تذكرَهُ الإمامُ عملَ بهِ، وإنْ لمْ
(1/69)


يتذكرْهُ لمْ يجز العملُ بقولِ المأمومينَ ولا غيرهمْ وإنْ كثرُوا.
وإنْ تركَ فرضاً وجبَ فراقُهُ، أوْ سنةً لا تفعلُ إلا بتخلفٍ فاحش -كتشهدٍ- حرُمَ فعلُها، فإنْ فعلَها بطلتْ صلاتُهُ، ولهُ فراقُهُ ليفعلها، فإنْ أمكنتْ قريباً -كجَلْسَةِ الاستراحةِ- فعَلها.
[الاستخلاف]:
ومتى قطعَ الإمامُ صلاتَهُ بحدَثٍ أوْ غيرهِ فلهُ استخلافُ من يتمُّهَا، بشرطِ صلاحيتهِ لإمامةِ هذهِ الصلاةِ، فإنْ فعلوا ركناً قبلَ الاستخلافِ امتنعَ الاستخلافُ، فإنْ كانَ الخليفةُ مأموماً جازَ استخلافُهُ مطلقاً، ويراعي المسبوقُ نظمَ الإمامِ، فإذا فَرَغَ منهُ قامَ وأشارَ ليفارقوهُ، أوْ ينتظروهُ وهوَ أفضلُ، وإنْ جهلَ نظمَ الإمامِ راقبهمْ، فإنْ هَمُّوا بالقيامِ قامَ وإلا قعدَ.
وإنْ كان الخليفةُ غيرَ مأمومٍ جازَ في الأولى وفي الثالثةِ مِنَ الرباعيةِ، لا في الثانيةِ والرابعةِ، ولا تجبُ نيةُ الاقتداء بالخليفةِ، بلْ لهمْ أنْ يُتمُّوا فرادى، ولوْ قدَّمَ الإمامُ واحداً والقومُ آخرَ فمقدمُهُمْ أولى.
فصل [في الإمامة]:
أولى الناسِ بالإمامةِ الأفقهُ، ثمَّ الأقرأُ، ثمَّ الأورعُ، ثمَّ الأقدمُ هجرةً وولدُهُ، ثمَّ الأسنُّ في الإسلامِ، ثمَّ النسيبُ، ثمَّ الأحسنُ سيرةً، ثمَّ الأحسنُ ذِكْراً، ثمَّ الأنظفُ بدناً وثوباً، ثمَّ الأحسنُ صوتاً، ثمَّ الأحسنُ صورةً، فمتى
(1/70)


وُجدَ واحدٌ منْ هؤلاءِ قُدِّمَ، وإن اجتمعوا أوْ بعضُهم رُتِّبوا هكذا، فإن استويا وتشاحّا أُقرعَ.
وإمامُ المسجدِ وساكنُ البيتِ ولوْ بإجارةٍ مقدَّمانِ على الأفقهِ وما بعدَهُ، ولهما تقديمُ منْ أرادا. والسلطانُ الأعظم، والأعلى فالأعلى منَ القضاةِ والولاةِ، يُقدَّمونَ على الساكنِ وإمامِ المسجدِ وغيرهما.
ويُقدَّمُ حاضرٌ وحرٌّ وعدلٌ وبالغٌ على مسافرٍ وعبدٍ وفاسقٍ وصبيٍّ، وإنْ كانوا أفقهَ. والبصيرُ والأعمى سواءٌ.
ويكرهُ أنْ يؤمَّ قوماً يكرهُهُ أكثرهم بسببٍ شرعيٍّ.
ولا يجوزُ الاقتداءُ بكافرٍ ولا مجنونٍ ولا ذي نجاسةٍ ظاهرةٍ، ولا رجلٌ وخنثى بامرأةٍ، ولا من يحفظُ الفاتحة بمنْ يخلُّ بحرفٍ منها، أوْ بأخرسَ أوْ أرتَّ أوْ ألثغَ، فإنْ ظهرَ بعدَ الصلاةِ أنَّ إمامهُ واحدٌ منْ هؤلاءِ لزمَهُ الإعادةُ، إلا إذا كانَ عليهِ نجاسةٌ خفيةٌ، أو كانَ محدثاً في غيرِ الجمعةِ، أوْ فيها وهوَ زائدٌ على الأربعينَ، فإنْ كملتْ بهِ الأربعونَ وجبتِ الإعادةُ.
ويصحُّ فرضٌ خلفَ نفلٍ، وصبحٌ خلفَ ظهرٍ، وقائمٌ خلفَ قاعدٍ، وأداءٌ خلفَ قضاءٍ، وبالعكسِ. ولوِ اقتدى بغيرِ شافعيٍّ صحَّ إنْ لمْ يتيقنْ أنهُ أخلَّ بواجبٍ، وإلا فلا، والاعتبارُ باعتقادِ المأمومِ، وتكرهُ وراءَ فاسقٍ، وفأفاءٍ، وتمتامٍ، ولاحنٍ. فصل [شروطُ القدوةِ وآدابُها]:
السنةُ أنْ يقفَ الذكرانِ فصاعداً خلفَ
(1/71)


الإمامِ، والذكرُ الواحدُ عن يمينهِ، فإنْ جاءَ آخرُ أحرمَ عنْ يسارهِ، ثمَّ يتأخرانِ إنْ أمكنَ، وإلا تقدمَ الإمامُ.
وإنْ حضرَ رجالٌ وصبيانٌ ونساءٌ، تقدمَ الرجالُ، ثمَّ الصبيانُ، ثمَّ النساءُ، وتقفُ إمامةُ النساءِ وسْطهنَّ.
ويكرهُ أنْ يرتفعَ موقفُ الإمامِ على المأمومِ وعكسُهُ، إلا أنْ يريدَ الإمامُ تعليمَهم أفعالَ الصلاةِ، أوْ يكونَ المأمومُ مبلِّغاً عن الإمامِ فيندبُ، لكنْ إنْ كانا في غيرِ مسجدٍ وجبَ أنْ يحاذيَ الأسفلُ الأعلى ببعضِ بدنهِ، بشرطِ اعتدالِ الخلقةِ.
ومنْ لمْ يجدْ في الصفِّ فُرْجةً أحرمَ، ثمَّ يَجْذِبُ لنفسهِ واحداً منَ الصفِّ ليقفَ معهُ، ويندبُ لذلكَ مساعدتُهُ. ولوْ تقدَّمَ عَقِبُ المأمومِ على عقبِ الإمامِ لمْ تصحَّ صلاتُهُ.
ومتى اجتمعَ المأمومُ والإمامُ في مسجدٍ صحَّ الاقتداءُ مطلقاً، وإنْ تباعدا أو اختلفَ البناءُ، مثل أنْ يقفَ أحدهما في السطحِ، والآخرُ في بئرٍ في المسجدِ، وإنْ أُغلقَ باب السطحِ، لكنْ يشترطُ العلمُ بانتقالاتِ الإمامِ، إما بمشاهدةٍ أو سماعٍ مبلِّغٍ.
والمساجدُ المتلاصقةُ المتنافذةُ كمسجدٍ واحدٍ.
ولوْ
(1/72)


كانا في غيرِ مسجدٍ، في فضاءٍ كصحراءَ أوْ بيتٍ واسعٍ صحَّ اقتداءُ المأمومِ بالإمامِ إنْ لمْ يزدْ ما بينهما على الثلاثمئةِ ذراعٍ تقريباً، وإلا فلا، ولوْ صلى خلفَهُ صفوفٌ اعتُبرتْ الأذرعُ بين كلِّ صفٍّ والصفِّ الذي قُدامهُ، وإنْ بلغَ ما بينَ الأخيرِ والإمامِ أميالٌ، سواءٌ حال بينهما نارٌ أو بحرٌ يُحوِجُ إلى سباحةٍ أوْ شارعٌ مطروقٌ أمْ لا.
ولوْ وقفَ كلٌّ منهما في بناءٍ كبيتينِ، أوْ أحدُهُما في صحنٍ والآخرُ في صُفّةٍ مِنْ دارٍ أوْ خانٍ أوْ مدرسةٍ فحكمُهُ حكمُ الفضاءِ، بشرطٍ أنْ لا يحولَ ما يمنعُ الاستطراقَ كشباكٍ، أو الرؤيةَ كبابٍ مردودٍ.
وقيلَ: إنْ كانَ بناءُ المأمومِ عنْ يمينهِ أوْ شمالهِ وجبَ الاتصال، بحيثُ لا يبقى ما يسعُ واقفاً، وإنْ كانَ خلفَهُ وجبَ أنْ لا يزيدَ على ثلاثةِ أذرعٍ.
ولوْ وقفَ الإمامُ في المسجدِ والمأمومُ في فضاءٍ متصلٍ بهِ صحَّ، إنْ لمْ يزدْ ما بينهُ وبينَ آخرِ المسجدِ على ثلاثمئةِ ذراعٍ، ولمْ يحُلْ حائلٌ، مثلُ أنْ يقفَ قُبالَةَ البابِ وهوَ مفتوحٌ، فإذا صحتْ لهذا صحت لمنْ خلفَهُ أوِ اتصلَ بهِ، وإنْ خرجوا عنْ قُبالةِ البابِ، فإنْ عدلَ عنْ قُبالةِ البابِ، أوْ حالَ جدارُ المسجدِ، أوْ شباكُهُ، أوْ بابُهُ المردودُ -وإنْ لمْ يُقفَلْ- لمْ يصحَّ.

باب: الأوقاتُ التي نُهي عن الصلاة فيها
تحرمُ الصلاةُ ولا تنعقدُ:
1 - عندَ طلوعِ الشمسِ حتى
(1/73)


ترتفعَ قدرَ رمحٍ.
2 - وعندَ الاستواءِ حتى تزولَ.
3 - وعندَ الاصفرارِ حتى تغربَ.
4 - وبعدَ صلاةِ الصبحِ.
5 - وبعدَ صلاةِ العصرِ.
ولا يَحرُمُ فيها ما لهُ سببٌ كجنازةٍ، وتحيةِ مسجدٍ، وسنةِ وضوءٍ، وفائتةٍ، لا ركعتيْ إحرامٍ.
ولا تكرهُ الصلاةُ في حرمِ مكةَ مطلقاً، ولا عندَ الاستواءِ يومَ الجمعةِ.

بابُ صلاة المريض
للعاجزِ صلاةُ الفرضِ قاعداً، والمرادُ منَ العجْزِ أنْ يشقَّ عليهِ القيامُ مشقةً ظاهرةً، أو يخافَ منْه مرضاً أوْ زيادتَهُ، أوْ دورانَ الرأسِ في سفينةٍ.
ويقعدُ كيفَ شاءَ، ويندبُ الافتراشُ، ويكرهُ الإقعاءُ ومدُّ رجلهِ.
وأقلُّ ركوعهِ: محاذاةُ جبهتهِ قدَّامَ ركبتيهِ، وأكملُهُ: محاذاتُها موضعَ سجودهِ، فإنْ عَجَزَ عنْ ركوعٍ وسجودٍ فعلَ نهايةَ الممكنِ من تقريبِ الجبهةِ منَ الأرض، فإنْ عجزَ أومأَ بهما، ولو عجزَ عن القعودِ فقطْ لدمَّلٍ ونحوهِ أتى بالقعودِ قائماً، ولو أمكنهُ القيامُ -وبهِ رمدٌ أو غيرُهُ- فقالَ لهُ طبيبٌ معتمدٌ: إنْ صليتَ مستلقياً أمكنَ مداواتُكَ، جازَ الاستلقاءُ.
(1/74)


ولوْ عَجَزَ عنْ قيامٍ وقعودٍ اضطجعَ على جنبهِ الأيمن مستقبلاً بوجههِ ومُقدَّمِ بدنهِ، ويركعُ ويسجدُ إنْ أمكنَ، وإلا أومأ برأسهِ، والسجودُ أخفضُ، فإنْ عجزَ فبطرفهِ، فإنْ عجزَ فبقلبهِ، فإنْ خرَسَ قرأَ بقلبهِ. ولا تسقطُ الصلاةُ ما دامَ يعقلُ. فإنْ عجزَ في أثنائها قعدَ، ويجبُ الاستمرارُ في الفاتحةِ إنْ عجزَ في أثنائها، وإنْ خفَّ قام، فإنْ كانَ في أثناء الفاتحةِ وجبَ الإمساكُ ليقرأَ قائماً، فإنْ قرأَ في نهوضهِ لمْ يعتدَّ بهِ، وإنْ خفَّ بعدَ الفاتحةِ قام ليركعَ منهُ، أو في الركوعِ قبلَ الطمأنينةِ ارتفعَ راكعاً، فإنْ انتصبَ بطلت، أوْ بعدها اعتدلَ قائماً ثمَّ يسجدُ، أوْ في اعتدالهِ قبلَ الطمأنينةِ قامَ ليعتدلَ، أو بعدَها سجدَ ولا يقومُ.

بابُ صلاةِ المسافرِِ
[شروطُ السفرِ المبيحِ للقصرِ]:
1 - إذا سافرَ في غيرِ معصيةٍ.
2 - سفراً تبلغُ مسيرتُهُ ذهاباً
(1/75)


ثمانيةً وأربعينَ ميلاً بالهاشميِّ، وهوَ يومانِ بلياليهما بسيْرِ الأثقالِ.
فلهُ أنْ يصليَ الظهرَ والعصرَ والعشاءَ ركعتينِ ركعتينِ إذا كانتْ مؤدياتٍ، أوْ فائتةً في السفرِ فقضاها في السفرِ، فإنْ فاتتْه في الحضر فقضاها في السفرِ أو عكسُهُ أتمَّ، وفي البحرِ تعتبرُ هذهِ المسافةُ كما في البرِّ، فلوْ قطعها في لحظةٍ قصَرَ، ولوْ قصَدَ بلداً لهُ طريقانِ أحدهما دونَ مسافةِ القصرِ، فسلكَ الأبعدَ لغرضٍ، كأمنٍ وسهولةٍ ونزهةٍ، قصرَ، وإنْ قصدَ مجردَ القصرِ أتمَّ.
[3 - معرفةُ القصدِ]: ولا بدَّ منْ مقصدٍ معلومٍ، فلوْ طلبَ آبقاً لا يعرفُ موضعهُ، أو سافرَ عبدٌ وامرأةٌ وجنديٌّ معَ سيدٍ وزوجٍ وأميرٍ ولمْ يعرفوا المقصدَ، لمْ يقصروا، وإنْ عرفوهُ قصَرُوا بشرطهِ، والعاصي بسفرهِ -كآبقٍ وناشزةٍ- يتمُّ.
[4 - مجاوزةُ العمران]: ثمَّ إنْ كانَ للبلدِ سورٌ قصَرَ بمجردِ مجاوزتهِ، سواءٌ كانَ خارجَهُ عمارةٌ أمْ لا، وإنْ لمْ يكنْ لهُ سورٌ فبمجاوزةِ العمرانِ كلِّهِ، ولا يُشترطُ مجاوزةُ المزارعِ والبساتينِ والمقابرِ.
والمقيمُ في الصحراءِ يقصُرُ بمفارقةِ خيامِ قومهِ.
ثمَّ إذا انتهى السفرُ أتمَّ، وينتهي بوصولهِ إلى وطنهِ، أوْ بنيةِ إقامةِ أربعةِ أيامٍ غيرَ يوميِ الدخولِ والخروجِ، أو بنفس
(1/76)


الإقامةِ وإن لم ينوها، فمتى أقامَ أربعةَ أيامٍ غيرَ يومي الدخولِ والخروجِ أتمَّ، اللهمَّ إلا أنْ يقيمَ لحاجةٍ يتوقعُ نجازَها وينوي الارتحالَ إذا انقضتْ، فإنهُ يقصُرُ إلى ثمانيةَ عشَرَ يوماً، فإنْ تأخرَتْ عنها أتمَّ، وسواءٌ الجهادُ وغيرُهُ.
ولوْ وصلَ مقصدَهُ فإنْ نوى الإقامةَ المؤثِّرةَ أتمَّ، وإلا قصرَ إلى أربعةِ أيامٍ، أوْ ثمانيةَ عشَرَ إنْ توقعَ حاجتَهُ كلَّ وقتٍ.
وشروط القصر:
1 - وقوعُ الصلاةِ كلِّها في السفرِ.
2 - ونيةُ القصرِ في الإحرامِ.
3 - وأن لا يقتديَ بمتمٍّ في جزءٍ منَ الصلاةِ.
فلوْ نوى الإقامةَ في الصلاةِ، أوْ شكَّ هلْ نوى القصرَ أمْ لا، ثمَّ ذكرَ قريباً أنهُ نواهُ، أوْ تردَّدَ هلْ يتمُّ أمْ لا، أوْ هلْ إمامُهُ مقيمٌ أمْ لا، أتمَّ. ولوْ جهلَ نية إمامهِ فنوى إنْ قصرَ قصرتُ، وإنْ أتمَّ أتممْتُ صحَّ، فإنْ قصرَ قصرَ، وإنْ أتمَّ أتمَّ.
[جمعُ الصلاةِ بسبب السفر]:
ويجوزُ الجمعُ بينَ الظهرِ والعصرِ في وقتِ أحدِهما، وبينَ المغربِ والعشاءِ كذلكَ، في كلِّ سفرٍ تُقصَرُ الصلاةُ فيهِ، فإنْ كانَ نازلاً في وقتِ الأولى فالتقديمُ أفضلُ، وإنْ كانَ سائراً فالتأخيرُ أفضلُ.
وإذا جمعَ تقديماً فشرطُهُ:
1 - دوامُ السفرِ.
2 - وتقديمُ الأولى.
3 - ونيةُ الجمعِ قبلَ فراغِ الأولى: إمّا في الإحرامِ، أوْ في أثنائها.
4 - وأنْ لا يُفرقَ بينهما، فإنْ فرَّقَ
(1/77)


يسيراً لمْ يضرَّ، فيغتفرُ للمتيممِ طلبٌ خفيفٌ.
فإنْ قدّمَ الثانيةَ فباطلةٌ، وإنْ أقامَ قبلَ شروعهِ في الثانيةِ، أوْ لمْ ينوِ الجمعَ في الأولى، أوْ فرقَ كثيراً، وجبَ تأخيرُ الثانيةِ إلى وقتها، وإنْ أقامَ بعدَ فراغهما مضتا على الصِّحَّةِ.
وإذا جمعَ تأخيراً لمْ يلزمْهُ إلا أنْ ينويَ قبلَ خروجِ وقتِ الأولى بقدرِ ما يَسعُ فعلَها أنهُ يؤخرُ ليجمعَ، فلوْ لمْ ينوِهِ أثمَ وكانت قضاءً. ويندبُ الترتيبُ، والموالاةُ، ونيةُ الجمعِ في الأولى.
[جمع الصلاة بسبب المطر]:
ويجوزُ للمقيمِ الجمعُ تقديماً لمطرٍ يَبُلُّ الثوبَ، بشرطِ أنْ يقصدَ جماعةً في مسجدٍ بعيدٍ، وأنْ يوجدَ المطرُ عندَ افتتاحِ الأولى والفراغِ منها وافتتاحِ الثانيةِ، ويشترطُ مع ذلكَ ما تقدمَ في جمعِ السفرِ تقديماً، فإنْ انقطعَ بعدَهُما أوْ في أثناءِ الثانيةِ، مضتا على الصِّحَّةِ، ولا يجوزُ الجمعُ بالمطرِ تأخيراً.

بابُ صلاةِ الخوفِ
[العدو في غير جهة القِبلة]:
إذا كانَ القتالُ مباحاً والعدوُّ في غير جهةِ القِبلةِ فرَّق الإمامُ الناسَ فرقتينِ، فرقةً في وجهِ العدوِّ، ويصلي بفرقةٍ ركعةً، فإذا قامَ إلى الثانيةِ نوَوا مفارقتهُ، وأتموا منفردينَ، وذهبوا إلى وجهِ العدوِّ، وجاءَ أولئكَ إلى الإمامِ وهوَ قائمٌ في الصلاةِ يقرأُ، فيُحرِمونَ، ويمكثُ لهمْ بقدْرِ الفاتحةِ وسورةٍ
(1/78)


قصيرةٍ، فإذا جلسَ للتشهدِ قاموا وأتمُّوا لأنفسهمْ، ويُطيلُ هوَ التشهدَ ثمَّ يسلِّمُ بهمْ، فإنْ كانتْ مغرِباً صلى بالأولى ركعتينِ وبالثانيةِ ركعةً، أوْ رباعيةً صلى بكلِّ فرقةٍ ركعتينِ، فإنْ فرَّقهمْ أربعَ فرقٍ وصلى بكلِّ فرقةٍ ركعةً صحَّ.
[العدوُّ في جهة القِبلة]:
وإنْ كانَ العدوُّ في القِبلةِ يُشاهدونَ منْ في الصلاةِ، وفي المسلمينَ كثرةُ، صفهم الإمامُ صفينِ فأكثرَ، وأحرمَ وركعَ ورفعَ بالكلِّ، فإذا سجدَ سجدَ معهُ الصفُّ الذي يليهِ واستمرَّ الصفُّ الآخرُ قائماً، فإذا رفعوا رؤوسهمْ سجدَ الصفُّ الآخرُ، ثمَّ يركعُ ويرفعُ بالكلِّ، فإذا سجدَ سجدَ معهُ الصفُّ الذي حرسَ أولاً، وحرسَ الصفُّ الآخرُ، فإذا رفعوا سجدَ الصفُّ الآخرُ.
ويُندبُ حمْلُ السلاحِ في صلاة الخوف.
[حالة التحام القتال]:
وإذا اشتدَّ الخوفُ، أو التحمَ القتالُ، صلوا رجالاً وركباناً إلى القِبلةِ وغيرها، جماعةً وفرادى، ويومِئونَ بالركوعِ والسجودِ إنْ عجَزُوا، والسجودُ أخفضُ، وإنِ اضطروا إلى الضرْبِ المتتابعِ ضربوا، ولا إعادةَ عليهمْ، ولا يجوزُ الصياحُ. بابُ ما يحرُمُ لبسُهُ
يَحرُمُ على الرجلِ لبسُ الحريرِ وسائرُ وجوهِ استعمالِهِ، ولوْ بطانةً، ويجوزُ حشوُ جُبَّةٍ ومخدَّةٍ وفرْشٍ بهِ، ويجوزُ
(1/79)


للنساءِ استعمالُهُ، وقيلَ: يحرُمُ عليهنَّ افتراشُهُ، ويجوزُ للوليِّ إلباسُهُ للصبيِّ ما لم يبلغِ، والمركَّبُ من حريرٍ وغيرهِ إنْ زادَ وزنُ الحريرِ حرُمَ، وإنِ استويا جازَ، ويجوزُ مطرزٌ بهِ لا يجاوزُ أربعَ أصابعَ، ومطرَّفٌ ومجيَّبٌ معتادٌ.
ولهُ أنْ يبسطَ على فرشِ الحريرِ منديلاً ونحوَهُ ويجلسُ فوقهُ، ويجوزُ لبسُهُ لحرٍّ وبردٍ مُهْلِكَيْنِ، وسترِ عورةٍ، ومفاجأةِ حربٍ إذا فُقدَ غيرُهُ، ولحكَّةٍ ودفعِ قملٍ، ويجوزُ ديباجٌ ثخينٌ لا يقومُ غيرُهُ مقامَهُ في الحربِ.
ويجوزُ لبسُ ثوبٍ نجسٍ في غيرِ الصلاةِ، ويَحرُمُ جلدُ ميتةٍ إلا لضرورةٍ، كمفاجأةِ حربٍ ونحوهِ، ويجوزُ أنْ يُلبِسَ دابتهُ الجلدَ النجسَ سوى جلدِ الكلبِ والخنزيرِ.
ويحرُمُ على الرجال حليُّ الذهبِ، حتى سنُّ الخاتمِ، والمطليُّ بهِ، فلوْ صدئ وصار بحيثُ لا يبينُ جازَ، ويباحُ شدُّ سنٍّ وأنملةٍ بذهبٍ، واتخاذُ أنفٍ وأنملةٍ منهُ، لا أصبعٍ، ويجوزُ درعٌ نسجتْ بذهبٍ، وخوذةٌ طُليتْ بهِ، لمفاجأةِ حربٍ ولمْ يجدْ غيرَهُما.
ويجوزُ خاتمُ الفضةِ، وتحليةُ آلةِ الحربِ بها، كسيفٍ، ورمحٍ، وطَبْرٍ، وسهمٍ، ودِرْعٍ، وجوشَنٍ،
(1/80)


وخوذةٍ، وخفٍّ، لا سَرْجٍ، ولجامٍ، وركابٍ، وقلادةٍ، وطرفِ سُيُورٍ، ودواةٍ ومِقْلَمَةٍ وسكينِ مهنةٍ ومِهفّةٍ، وتعليقِ قنديلٍ ولوْ بمسجدٍ، وغيرِ الخاتمِ منَ الحليِّ كطوقٍ ودُمْلُجٍ وسوارٍ وتاجٍ، وفي سقفِ البيتِ والمسجدِ وجدرانهما، فلوْ استُهلِكَ بحيثُ لا يجتمعُ منهُ شيءٌ بالسبْكِ جازتْ الاستدامةُ وإلا فلا.
ويجوزُ تحليةُ المصحفِ والكَتْبُ بالفضةِ للمرأة والرجلِ، ويجوزُ تحليةُ المصحفِ بالذهبِ للمرأةِ، ويحرُمُ على الرجلِ.
ويجوزُ للمرأةِ حليُّ الذهبِ كلُّهُ حتى النعْلُ، والمنسوجُ بهِ، بشرطِ عدمِ الإسرافِ، فإنْ أسرفتْ كخَلخالٍ مئتا دينارٍ حرُمَ، ويحرُمُ عليهنَّ تحليةُ آلةِ الحربِ ولوْ بفضةٍ. بابُ صلاةِ الجمعةِ
منْ لزمَهُ الظهرُ لزمتْهُ الجمعةُ، إلا العبدَ والمرأةَ والمسافر في غير معصيةٍ، ولوْ سفراً قصيراً، وكلُّ ما أسقطَ الجماعةَ يسقطُ الجمعةَ، كالمرضِ والتمريضِ وغيرِ ذلك.
والمقيمُ بقريةٍ ليسَ فيها أربعونَ كاملونَ: فإنْ كانَ بحيثُ لوْ نادى رجلٌ عالي الصوتِ بطرفِ بلدِ الجمعةِ الذي من جهةِ القريةِ -والأصواتُ والرياحُ ساكنةٌ- لسمعَهُ مصغٍ صحيحُ السمعِ، واقفٌ بطرفِ القريةِ الذي من جهة بلد الجمعةِ لزمتِ الجمعة كلَّ أهلِ
(1/81)


القريةِ، وإنْ لمْ يسمعْ فلا تلزمُهُمْ.
ومنْ لا تلزمُهُ إذا حضرَ الجامعَ لهُ الانصرافُ، إلا المريضَ الذي لا يشقُّ عليهِ الانتظارُ، وجاءَ بعدَ دخولِ الوقتِ، والأعمى، ومنْ في طريقهِ وحلٌٌ فتلزمهمُ الجمعةُ.
ومنْ لا تلزمُهُ مخيرٌ بينها وبينَ الظهرِ، ويُخفون الجماعةَ في الظهرِ إنْ خفيَ عذرُهمْ، ويُندبُ لمنْ يرجو زوالَ عذرهِ -كمريضٍ وعبدٍ- تأخيرُ الظهرِ إلى اليأسِ منَ الجمعةِ، وإنْ لمْ يرجُ زوالَهُ كالمرأةِ فيندبُ تعجيلهُ.
ومنْ لزمتْهُ الجمعةُ لمْ يصحَّ ظهرُهُ قبلَ فواتِ الجمعةِ، ويحرُمُ عليه السفرُ منْ طلوعِ الفجرِ، إلا أنْ يكونَ في طريقهِ موضعُ جمعةٍ، أوْ ترحَلَ رفقتُهُ ويتضررُ بالتخلفِ.
[شروطُ الجمعة]:
وشروطُ صحةِ الجمعةِ بعدَ شروطِ الصلاة ستةٌ:
1 - أنْ تقامَ جماعةً.
2 - في وقتِ الظهرِ.
3 - بعدَ خطبتينِ.
4 - في خطةِ أبنيةٍ مجتمعةٍ.
5 - بأربعينَ رجلاً أحراراً بالغينَ عقلاءَ، مستوطنينَ حيثُ تقامُ الجمعة، لا يظعَنونَ عنهُ إلا لحاجةٍ.
6 - وأنْ لا تسبِقها ولا تقارِنَها جمعةٌ أخرى حيثُ لا يَشُقُّ الاجتماعُ في موضعٍ واحدٍ.
والإمامُ واحدٌ منَ الأربعينَ، فلوْ نقصُوا في الصلاةِ عن الأربعينَ، أوْ خرجَ الوقتُ في أثنائها، أتمُّوها ظهراً، ولوْ شكوا قبلَ افتتاحها في بقاءِ الوقتِ صلوا ظهراً، وإنْ شقَّ الاجتماعُ بموضعٍ، كمصرَ وبغدادَ جازتْ زيادةُ الجُمَعِ
(1/82)


بحسَبِ الحاجةِ، وإنْ لمْ يشقَّ كمكةَ والمدينةِ فأقيمتْ جمعتانِ فالجمعةُ هيَ الأولى والثانيةُ باطلةٌ، وإنْ وقعتا معاً، أوْ جُهلَ السَّبقُ، استؤنفتْ جمعةٌ.
[أركانُ الخطبةِ]:
وأركانُ الخطبةِ خمسةٌ:
1 - الحمدُ لله.
2 - والصلاةُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
3 - والوصيةُ بالتقوى.
يجب ذلك في كلٍّ من الخُطبتين، ويتعينُ لفظُ الحمدُ لله والصلاةِ، ولا يتعينُ لفظُ الوصيةِ فيكفي: أطيعوا الله.
4 - والرابعُ: قراءةُ آيةٍ في إحداهُما.
5 - والخامس: الدعاء للمؤمنين في الثانية.
[شروط الخطبةِ وسننُها]:
وشرطُهما: الطهارةُ، والستارةُ، ووقوعُهُما في وقتِ الظهرِ قبلَ الصلاةِ، والقيامُ فيهما، والقعودُ بينهما، ورفعُ الصوتِ بحيثُ يسمعُهُ أربعونَ تنعقدُ بهم الجمعةُ.
وسننُهُما: منبرٌ أوْ موضعٌ عالٍ، وأنْ يُسلِّمَ إذا دخلَ وإذا صعدَ، ويجلسَ حتى يؤذنَ، ويعتمدَ على سيفٍ أوْ قوسٍ أوْ عصا، ويُقبِلَ عليهم في جميعهما.
[فصل]:
والجمعةُ ركعتانِ، يقرأُ في الأولى (الجمعة) وفي الثانيةِ (المنافقون). ومنْ أدركَ معَ الإمامِ ركوعَ الثانيةِ واطمأنَّ فقدْ أدركَ الجمعةَ، وإنْ أدركهُ بعدَهُ فاتتْهُ الجمعةُ، فينوي الجمعةَ خلفَهُ، فإذا سلمَ أتمَّ الظهرَ.
[سننُ مريد الجمعة]:
ويندبُ لمريدها: أنْ يغتسلَ عندَ الذهابِ إليها، ويجوزُ منَ الفجرِ،
(1/83)


فإنْ عجَزَ تيمَّمَ، وأنْ يتنظفَ بسواكٍ، وأخذِ ظفرٍ وشعرٍ، وقطعِ رائحةٍ كريهةٍ، ويتطيبَ، ويلبسَ أحسنَ ثيابهِ، وأفضلُها البيضُ، والإمامُ يزيدُ عليهمْ في الزينةِ.
ويكرهُ للمرأةِ إذا حضرت: الطيبُ وفاخرُ الثيابِ. ويُبَكِّرَ وأفضلهُ منَ الفجرِ، ويمشي بسكينةٍ ووقارٍ، ولا يركبَ إلا لعذرٍ، ويدنوَ مِنَ الإمامِ، ويشتغلَ بالذكرِ والتلاوةِ والصلاةِ، ولا يتخطى رقابَ الناسِ، فإذا وجدَ فرجةً لا يصلُ إليها إلا بالتخطي لمْ يكرهْ.
ويحرُمُ أنْ يقيمَ رجلاً ويجلسَ مكانهُ، فإنْ قامَ باختيارهِ جازَ.
ويكرهُ أنْ يؤثرَ غيرَهُ بالصفِّ الأولِ، أوْ بالقربِ منَ الإمامِ، وبكلِّ قربةٍ. ويجوزُ أنْ يبعثَ منْ يأخذُ لهُ موضعاً يبسطُ شيئاً فيهِ، ولكنْ لغيرهِ إزالتُهُ والجلوسُ مكانهُ.
ويكرهُ الكلامُ والصلاةُ حالَ الخُطبةِ ولا يحرمانِ، فإنْ دخلَ صلى التحيةَ فقطْ ويخففها.
[سنن يوم الجمعة]:
ويُندبُ الكهفُ، والصلاةُ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم ليلةَ الجمعةِ ويومها، ويُكثرُ في يومها الدعاءَ رجاءَ ساعةِ الإجابةِ، وهيَ ما بينَ جلوسِ الإمامِ على المنبرِ إلى فراغِ الصلاةِ.

باب صلاةِ العيدينِ
هيَ سنةٌ مؤكدةٌ، ويندبُ لها الجماعةُ، ووقتُها منْ طلوعِ
(1/84)


الشمسِ، ويندبُ من ارتفاعها قدرَ رمحٍ إلى الزوالِ، وفعلُها في المسجدِ أفضلُ إن اتسعَ، فإنْ ضاقَ فالصحراءُ أفضلُ، ويندبُ أنْ لا يأكلَ في الأضحى حتى يصلي، ويأكلَ في الفطرِ قبلَ الصلاةِ تمراتٍ وتراً، ويغتسلَ بعدَ الفجِر وإنْ لمْ يصلِّ، ويجوزُ منْ نصفِ الليلِ، ويتطيبَ ويلبسَ أحسنَ ثيابهِ.
ويندبُ حضورُ الصبيانِ بزينتهم، ومنْ لا تُشتهى منَ النساءِ بغيرِ طيبٍ ولا زينةٍ، ويكرهُ لمشتهاةٍ، ويبكرَ بعدَ الفجرِ ماشياً، ويرجعَ في غيرِ طريقهِ، ويتأخرَ الإمامُ إلى وقتِ الصلاةِ، وينادى لها وللكسوفِ والاستسقاءِ: الصلاةُ جامعةٌ.
وهي ركعتانِ، ويكبرُ في الأولى بعدَ الاستفتاحِ وقبلَ التعوذِ سبعَ تكبيراتٍ، وفي الثانيةِ قبلَ التعوذِ خمساً غيرَ تكبيرةِ القيامِ، يرفعُ فيها اليدين، ويذكرُ الله تعالى بينهنَّ، ويضعُ اليمنى على اليسرى، ولوْ تركَ التكبيرَ أوْ زادَ فيهِ لمْ يسجدْ للسهوِ، ولوْ نسيهُ وشرع في التعوذِ فاتَ، ويقرأُ في الأولى (ق) وفي الثانيةِ (اقْتَرَبَتِ)، وإنْ شاءَ قرأ (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى) و (الْغَاشِيَةِ)، ثمَّ يخطبُ بعدهما خطبتينِ كالجمعةِ، ويفتتحُ الأولى ندباً بتسعِ تكبيراتٍ والثانيةَ بسبعٍ، ولوْ خطبَ قاعداً جازَ.
[سنة التكبير]:
والتكبيرُ
(1/85)


مرسلٌ ومقيدٌ.
فالمُرسلُ: وهوَ ما لا يتقيدُ بحالٍ، بلْ في المساجدِ والمنازلِ والطرقِ، يُسنُّ في العيدينِ مِنْ غروبِ الشمسِ ليلتيِ العيدينِ إلى أنْ يُحْرِمَ الإمامُ بصلاةِ العيدِ.
والمُقيَّدُ: هوَ ما يؤتى به عقيب الصلواتِ، يسنُّ في النحرِ فقطْ منْ صلاةِ ظهرِ النحرِ إلى صلاةِ صبحِ آخرِ التشريقِ وهوَ رابعُ العيدِ، يكبرُ خلفَ الفرائضِ المؤدَّاةِ والمقضيةِ، مِنَ المدةِ وقبلها، والمنذورةِ والجنازةِ والنوافلِ، ولوْ قضى فوائتَ المدةِ بعدها لمْ يكبّر.
وصيغتُهُ: اللهُ أكبرُ اللهُ أكبرُ اللهُ أكبرُ، فإنْ زادَ ما اعتادهُ الناسُ فحسنٌ وهوَ: اللهُ أكبرُ كبيراً إلى آخرهِ، ولوْ رأى في عشرِ ذي الحجةِ شيئاً منَ الأنعامِ فليكبّر.

بابُ صلاةِ الكسوفِ
هيَ سنةٌ مؤكدةٌ، ويندبُ لها الجماعةُ في الجامعِ، ويحضرُها من لا هيئةَ لها منَ النساءِ.
وهيَ ركعتانِ، وأقلُّها: أنْ يحرِمَ فيقرأَ الفاتحةَ ثمَّ يركع، ثمَّ يرفع فيقرأ الفاتحةَ ثمَّ يركعَ فيطمئنَّ، ثمَّ يسجدَ سجدتينِ، فهذهِ ركعةٌ فيها قيامانِ وقراءتانِ وركوعانِ، ثمَّ يصليَ الثانيةَ كذلكَ، ولا يجوزُ زيادةُ قيامٍ وركوعٍ لتمادي الكسوف، ِ ولا يجوزُ النقصُ لتجليةٍ.
وأكملها: أنْ يقرأَ بعدَ الافتتاحِ والتعوذِ والفاتحةِ:
(1/86)


البقرةَ في القيامِ الأولِ، وآلَ عمرانَ في الثاني، والنساءَ في الثالثِ، والمائدةَ في الرابعِ، أوْ نحوَ ذلكَ، ويسبحُ في الركوعِ الأولِ بقدرِ مئةِ آيةٍ منَ البقرةِ، وفي الثاني بقدرِ ثمانينَ، وفي الثالث بقدرِ سبعينَ، وفي الرابعِ بقدرِ خمسينَ، وباقيها كغيرها منَ الصلواتِ، ثمّ يخطبُ خطبتينِ كالجمعةِ، فإنْ لمْ يصلِّ حتى تَجلَّى الجميعُ، أو غابتْ كاسفةً، أوْ طلعتِ الشمسُ والقمرُ خاسفٌ، لمْ يصلِّ، ولوْ أحرمَ فتجلتْ أوْ غابتْ كاسفةً أتمَّها. بابُ صلاةِ الاستسقاءِ
هيَ سنةٌ مؤكدةٌ، ويندبُ لها الجماعةُ، فإذا أجدبت الأرضُ، أو انقطعتِ المياهُ أوْ قلَّت، وعظَ الإمامُ الناسَ، وأمرهم بالتوبةِ والصدقةِ ومصالحةِ الأعداء، وصومِ ثلاثةِ أيامٍ، ثمَّ يخرجونَ في الرابعِ إلى الصحراءِ صياماً، في ثيابٍ بِذْلَةٍ، ويخرجُ غيرُ ذواتِ الهيئةِ منَ النساءِ، والبهائمُ والشيوخُ والعجائزُ والأطفالُ والصغارُ والصلحاءُ وأقاربُ رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ، ويستسقونَ بهم، ويذكرُ كلٌّ في نفسهِ صالحَ عملهِ ويستشفعُ بهِ، وإنْ خرجَ أهلُ الذمةِ لم يُمنعوا لكنْ لا يختلطونَ بنا.
(1/87)


وهي ركعتانِ كالعيدِ، ثمَّ يخطبُ خطبتين كالعيدِ، إلا أنهُ يفتتحهُما بالاستغفارِ بدل التكبيرِ، ويُكثرُ فيهما منَ الاستغفارِ والصلاةِ على النبي صلى الله عليه وسلم والدعاءِ، ومن: (استغفروا ربكمْ إنهُ كانَ غفاراً) الآية، ويستقبلُ القِبلةَ في أثناءِ الخُطبةِ الثانيةِ، ويحوِّلُ رداءهُ، ويفعلُ الناسُ كذلكَ، ويبالغُ في الدعاءِ سراً وجهراً، فإن صلُّوا ولمْ يُسقَوْا أعادوها، وإنْ تأهبوا فسُقُوا قبلَ الصلاةِ صلوا شكراً وسألوا الزيادةَ.
ويُندبُ لأهلِ الخِصْبِ أنْ يدعوا لأهلِ الجدْبِ خلفَ الصلواتِ.
ويندبُ أنْ يكشفَ بعضَ بدنهِ ليصيبهُ أولُ مطرٍ يقعُ في السنةِ.
ويُسبحُ للرعدِ والبرقِ، وإذا كثرَ المطرُ وخشيَ ضررَهُ دعا برفعهِ بما وردَ في السنةِ: "اللهمَّ حوالينا ولا علينا" إلى آخرهِ.
(1/88)


كتابُ الجنائزِ
يندبُ لكلِّ أحدٍ أنْ يكثرَ ذكرَ الموتِ، والمريضُ آكدُ، ويستعد لهُ بالتوبةِ.
ويعودُ المريضَ ولوْ منْ رمدٍ، ويعمُّ بها العدوَّ والصديقَ، فإنْ كانَ ذمياً فإن اقترنَ بهِ قرابة أوْ جِوار ندبتْ عيادتهُ وإلا أبيحتْ.
ويكرهُ إطالةُ القعودِ عندهُ، وتندبُ غِبّاً إلا لأقاربهِ ونحوهم -مما يأنسُ أوْ يتبركُ بهِ- فكل وقتٍ ما لم يُنْهَ، فإنْ طمعَ في حياتهِ دعا لهُ وانصرفَ، وإلا رغَّبهُ في التوبةِ والوصيةِ، وإنْ رآه منزولاً بهِ أطمعهُ في رحمةِ الله، ووجَّههُ إلى القِبْلةِ على جنبهِ الأيمنِ، فإنْ تعذرَ فالأيسرِ، فإنْ تعذرَ فقفاهُ، ولقَّنه قولَ لا إلهَ إلا الله ليسمعها، فيقولها بلا إلحاحٍ، ولا يَقُل: قُلْ. فإذا قالها تُركَ حتى يتكلمَ بغيرها، وأنْ يكونَ الملَقِّنُ غيرَ متهمٍ بإرثٍ وعداوةٍ. فإذا ماتَ ندبَ لأرفقِ محارمهِ تغميضُهُ، وشدُّ لَحيَيْهِ، وتليينُ مفاصلهِ، ونزعُ ثيابهِ، ثمَّ يُسترُ بثوبٍ خفيفٍ، ويُجعلُ على بطنهِ شيءٌ ثقيلٌ.
ويبادرُ إلى قضاءِ دينهِ أوْ إبرائِهِ منهُ، وتنفيذِ وصيتهِ، وتجهيزهِ، فإذا ماتَ فجأةً تُركَ ليُتيقنَ موتُهُ.
وغسلُهُ وتكفينُهُ والصلاةُ عليهِ وحملهُ ودفنُهُ فروضُ كفايةٍ.
(1/89)


فصلٌ [في غسل الميت]:
ثمَّ يغسَّلُ، فإذا كانَ رجلاً فالأولى بغسلهِ الأبُ، ثمَّ الجدُّ، ثمَّ الابنُ، ثمَّ الأخُ، ثمَّ العمُّ، ثمَّ ابنهُ، على ترتيبِ العصباتِ، ثمَّ الرجالُ الأقاربُ، ثمَّ الأجانبُ، ثمَّ الزوجةُ، ثمَّ النساءُ المحارمُ، وإنْ كانَ امرأةً غسَّلها النساءُ الأقاربُ، ثمَّ الأجانبُ، ثمَّ الزوجُ، ثمَّ الرجالُ المحارمُ، وإنْ كانَ كافراً فأقاربُهُ الكفارُ أحقُّ.
ويندبُ كونُ الغاسلِ أميناً، ويُسترُ الميتُ في الغسلِ، ولا يحضُرُ سوى الغاسلِ ومعينهِ، ويبخّرُ منْ أولِ غُسْلهِ إلى آخرهِ، والأوْلى تحتَ سقفٍ وبماءٍ باردٍ إلا لحاجةٍ.
ويحرُمُ نظرُ عورتهِ ومسُّها إلا بخِرْقةٍ، ويندبُ أنْ لا ينظرَ إلى غيرها، ولا يمسّهُ إلا بخرقةٍ.
ويُخرجُ ما في بطنهِ من الفضلاتِ، ويستنجيهِ ويوضئهُ، وينوي غُسْلَهُ، ويغسِل رأسَه ولحيتَه وجسدَه بماءٍ وسدرٍ ثلاثاً، يتعهدُ كلَّ مرةٍ إمرارَ اليدِ على البطنِ، فإنْ لمْ ينظفْ زادَ وتراً، ويجعلُ في الماء قليلَ كافورٍ، وفي الأخيرةِ آكدُ.
وواجبهُ: تعميمُ البدنِ بالماءِ، ثمَّ ينشِّفُ بثوبٍ، فإنْ خرجَ منهُ شيءٌ بعدَ الغُسلِ كفاهُ غَسْلُ المحلِّ.
فصلٌ [في بيانِ الكفن]:
ثمَّ يكفنُ، فإنْ كانَ رجلاً ندبَ لهُ ثلاثُ لفائفَ بيضٍ مغسولةٍ، كلُّ واحدةٍ تسترُ كلَّ البدنِ، لا
(1/90)


قميصَ فيها ولا عمامةً، فإنْ زادَ عليها قميصاً وعمامةً جازَ، ويحرمُ الحريرُ، وللمرأةِ إزارٌ وخمارٌ وقميصٌ ولفافتانِ سابغتانِ، ويُكرهُ لها حريرٌ ومزعفرٌ ومعصفرٌ، والواجبُ في الرجلِ والمرأةِ ما يسترُ العورةَ.
ويُبخرُ الكفنُ ويُذرُّ عليهِ الحَنوطُ والكافورُ، ويجعلُ قطناً بحنوطٍ على منافذِهِ ومواضعِ السجودِ، ولوْ طيَّب جميعَ بدنهِ فحسنٌ، فإنْ ماتَ مُحْرِماً حرُمَ الطيبُ والمَخيطُ وتغطيةُ رأس الرجلِ ووجهُ المرأةِ، ولا يندبُ أنْ يعدَّ لنفسهِ كفناً إلا أنْ يقطعَ بحلهِ، أوْ منْ أثرِ أهلِ الخيرِ.
فصلٌ [في الصلاةِ على الميت]:
ثمَّ يُصلَّى عليهِ، ويسقطُ الفرضُ بذَكَرٍ واحدٍ دونَ النساءِ إنْ حضرهنَّ رجلٌ، فإنْ لمْ يوجدْ غيرهنَّ لزمهنَّ، ويسقطُ الفرضُ بهنَّ.
وتندبُ فيها الجماعةُ وتكرهُ في المقبرةِ، وأولى الناس بالصلاةِ أوْلاهم بالغُسلِ منْ أقاربهِ إلا النساءَ فلا حقَّ لهنَّ، ويقدمُ الوليُّ على السلطانِ، والأسنُّ على الأفقهِ وغيرهِ، فإنِ استوَوا في السنِّ رُتِّبوا كباقي الصلوات، ولوْ أوصى أنْ يصليَ عليهِ أجنبيٌّ قُدِّمَ الوليُّ عليهِ.
ويقفُ الإمامُ عندَ رأس الرجلِ وعجيزةِ المرأةِ، فإنِ
(1/91)


اجتمعَ جنائزُ فالأفضلُ إفرادُ كلِّ واحدٍ بصلاةٍ، ويجوزُ أنْ يصليَ عليهم دُفعةً واحدةً، ويضعُهُم بينَ يديهِ بعضَهُمْ خلفَ بعضٍ هكذا إلى القبلةِ، ويليهِ الرجُلُ ثمَّ الصبيُّ ثمَّ المرأةُ، ثمَّ الأفضلُ فالأفضلُ، ولا اعتبارَ بالرِّقِّ والحريةِ، ولو جاء واحدٌ بعدَ واحدٍ قُدِّمَ إلى الإمامِ الأسبقُ، ولوْ مفضولاً وصبياً، إلا المرأةَ فتؤخَّرُ للذَّكرِ المتأخرِ مجيئهُ، ثمَّ ينوي، ويجبُ التعرضُ للفريضةِ دونَ فرض الكفايةِ، ولوْ صلى على غائبٍ خلفَ من يصلي على حاضرٍ صحَّ.
ويكبرُ أربعاً رافعاً يديهِ، ويضعُ يمناهُ على يسراهُ بينَ كلِّ تكبيرتينِ، فإنْ كبَّر خمساً ولو عمداً لمْ تبطلْ، لكنْ لا يتابعُهُ المأمومُ في الخامسةِ بل ينتظرهُ ليسلمَ معهُ، ويقرأُ الفاتحةَ بعدَ الأولى، ويندبُ التعوذُ والتأمينُ دونَ الاستفتاحِ والسورةِ، ويصلي على النبيِّ صلى الله عليه وسلمَ بعدَ الثانيةِ، ثمّ يدعو للمؤمنينَ، ثمَّ يدعو للميتِ بعد الثالثةِ فيقولُ: اللهمَّ هذا عبدُكَ وابنُ عبدِكَ، خرجَ منْ رَوْحِ الدنيا وسعتِها، ومحبوبُهُ وأحباؤهُ فيها، إلى ظلمةِ القبرِ وما هو لاقيهِ، كانَ يشهدُ أنْ لا إله إلا أنتَ وحدكَ لا شريكَ لكَ، وأنَّ محمداً عبدُكَ ورسولُكَ، وأنتَ أعلمُ به منا، اللهمَّ إنهُ نزلَ بكَ وأنتَ خيرُ منزولٍ بهِ، وأصبحَ فقيراً إلى رحمتكَ وأنتَ غنيٌّ عنْ عذابهِ، وقدْ جئناكَ راغبينَ إليكَ شفعاءَ لهُ، اللهمَّ إنْ كانَ محسناً فزِدْ في
(1/92)


إحسانِهِ، وإنْ كانَ مسيئاً فتجاوزْ عنهُ، ولقِّهِ برحمتكَ رضاكَ، وقِهِ فتنةَ القبرِ وعذابهُ، وافسحْ لهُ في قبرهِ، وجافِ الأرضَ عن جنبيهِ، ولقِّهِ برحمتكَ الأمنَ منْ عذابكَ، حتى تبعثه آمناً إلى جنتكَ، يا أرحمَ الراحمينَ.
وحَسُنَ أنْ يُقَدِّمَ عليهِ: اللهمَّ اغفرْ لِحَيِّنا وميِّتنا، وشاهدنا وغائبنا، وصغيرِنا وكبيرِنا، وذكرنا وأنثانا، اللهمَّ منْ أحييتَهُ منا فأحيِهِ على الإسلامِ، ومنْ توفيتَهُ منا فتوفَّهُ على الإيمانِ.
ويقولُ في الصلاةِ على الطفلِ مع هذا الثاني: اللهمَّ اجعلهُ فَرَطاً لأبويهِ، وسلَفاً وذُخْراً وعظةً واعتباراً وشفيعاً، وثقّلْ بهِ موازينَهُما، وأفْرِغِ الصبرَ على قلوبهما.
ويقولُ بعد الرابعةِ: اللهمَّ لا تحرمْنا أجرَهُ، ولا تفْتِنّا بعدهُ، واغفرْ لنا ولهُ.
ثمَّ يسلمُ تسليمتينِ.
وواجباتُها سبعةٌ: النيةُ، والقيامُ، وأربعُ تكبيراتٍ، والفاتحةُ، والصلاةُ على النبيِّ صلى الله عليه وسلمَ، وأدنى الدعاءِ للميتِ، وهوَ: اللهمَّ اغفرْ لهذا الميتِ، والتسليمةُ الأولى.
وشرطُها كغيرها، ويزيدُ تقديمَ الغُسلِ، وأن لا يتقدمَ على الجَنازةِ. وتكرهُ قبلَ الكفنِ، فإنْ ماتَ في بئرٍ أوْ تحتَ هدمٍ وتعذرَ إخراجُهُ وغسلُهُ لمْ يصلَّ عليهِ.
ومنْ سبقهُ الإمامُ ببعضِ التكبيراتِ أحرمَ وقرأَ وراعى في الذكرِ ترتيبَ نفسهِ، فإذا سلمَ الإمامُ كبرَ ما بقيِ، ويأتي بذِكْرِهِ ثمَّ يسلِّمُ،
(1/93)


ويندبُ أنْ لا تُرفَعَ الجنازةُ حتى يتمَّ المسبوقُ صلاتهُ، فلوْ كبرَ الإمامُ عقيبَ تكبيرتهِ الأولى كبرَ معهُ وحصلتا وسقطَ عنهُ القراءةُ، ولوْ كبرَ وهوَ في الفاتحةِ قطعها وتابعَ، ولوْ كبرَ الإمامُ تكبيرةً فلمْ يكبرها المأمومُ حتى كبرَ الإمامُ بعدها بطلتْ صلاتُهُ.
ومنْ صلى يندبُ لهُ أنْ لا يعيدَ، ومنْ فاتتهُ صلى على القبرِ إنْ كانَ يومَ موتهِ بالغاً عاقلاً وإلا فلا. ويجوزُ أنْ يصلي على الغائبِ عنِ البلدِ وإنْ قرُبتْ مسافتُهُ، ولا يجوزُ على غائبٍ في البلدِ، ولوْ وُجِدَ بعضُ منْ تُيُقِّنَ موتهُ غُسِّلَ وكُفِّنَ وصُلِّيَ عليهِ.
ويحرُمُ غسْلُ الشهيدِ والصلاةُ عليهِ، وهوَ منْ ماتَ في معركةِ الكفارِ بسببِ قتالهمْ، فتُنزَعُ عنهُ ثيابُ الحربِ، ثمَّ الأفضلُ أنْ يُدفنَ ببقيةِ ثيابهِ الملطخةِ بالدمِ، وللوليِّ نزعُها وتكفينُهُ. والسِّقطُ إنْ بكى أوِ اختلجَ فحكمُهُ حكمُ الكبيرِ، وإلا فإنْ بلغَ أربعةَ أشهر غُسِّلَ ولمْ يُصلَّ عليه، وإلا وجبَ دفنُهُ فقط.
وليبادَرْ بالدفنِ بعدَ الصلاةِ، ولا يُنتظرُ إلا الولي إنْ قرُبَ ولمْ يُخشَ تغيرُ الميتِ، والأفضلُ أنْ يحمِلَ الجنازةَ تارةً أربعةٌ منْ قوائمها، وتارةً خمسةٌ والخامسُ يكونُ بينَ العمودينِ المقدمينِ.
(1/94)


ويندبُ الإسراعُ فوقَ العادةِ دونَ الخَببِ إنْ لمْ يَضُرَّ الميت، وإنْ خيفَ انفجارُهُ زيدَ على الإسراعِ. ويندبُ للرجالِ اتباعُها إلى الدفنِ بقربها بحيثُ ينسبُ إليها، ويكرهُ اتباعها بنارٍ، والبخورُ في المجمرةِ، وكذا عندَ الدفنِ.
فصلٌ [في الدفنِ]:
ثمَّ يُدفنُ وفي المقبرةِ أفضلُ، ولا يُدفنُ ميتٌ على ميتٍ إلا أنْ يبْلى الأولُ كُلُّهُ، ولا ميتانِ في قبرٍ واحدٍ إلا لضرورةٍ، ككثرةِ القتلِ والفناءِ، ويُجعلُ بينهما حائلٌ منْ ترابٍ، وبينَ المرأةِ والرجلِ آكدٌ سيما الأجنبيَّيْنِ.
ولوْ ماتَ في سفينةٍ ولم يمكن دفنُهُ في البرِّ جُعِلَ بينَ لوحينِ وأُلقيَ في البحرِ.
وأقلُّ القبرِ ما يكتمُ الرائحةَ ويمنعُ السباعَ، ويندبُ توسيعهُ وتعميقهُ قامةً وبسطةً، واللحدُ أفضلُ منَ الشَّقِّ، إلا أنْ تكونَ الأرضُ رِخوةً فيندب الشق. ويكره في تابوت إلا أن تكون الأرض رخوة أو ندية.
ويتولاهُ الرجالُ ولوْ لامرأةٍ، وأولاهمُ الزوجُ
(1/95)


إن صلحَ للدفنِ، ثمَّ أولاهم بالصلاةِ، لكنِ الأفقهُ مقدمٌ على الأسنِّ، عكسُ الصلاةِ، ويندبُ أنْ يكونوا وتراً، ويُغطى بثوبٍ عندَ الدفنِ، ويوضعُ رأسُهُ عندَ رجلِ القبرِ ويُسلُّ منْ جهةِ رأسهِ، ويقولُ الدافنُ: بسمِ اللهِ وعلى ملةِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلمَ، ويدعو لهُ ويوسِّدُهُ لَبِنةً، ويفضي بخدهِ إلى الأرضِ، ويوضعُ على جنبهِ الأيمنِ ندباً، مستقبلَ القِبلةِ حتماً، ويُنصبُ عليهِ اللبِنُ، ويحثو من دنا ثلاثَ حثياتٍ ثمَّ يهالُ بالمساحي، ويمكثُ ساعةً بعدَ الدفنِ يلقنُهُ ويدعو لهُ ويستغفرُ لهُ، ويُرفعُ القبرُ شبراً إلا في بلادِ الحربِ، وتسطيحُهُ أفضلُ، ولا يزادُ على ترابهِ، ويُرَشُّ عليه الماء ويوضعُ عليهِ حصى، ويكرهُ تجصيصٌ وبناءٌ، وخلوقٌ وماءُ وردٍ، وكتابةٌ ومخدةٌ ومضربةٌ تحتهُ. ويندبُ للرجالِ زيارةُ القبورِ، ولا بأسَ بمشيهِ في النعلِ، ويدنو منهُ كحياتهِ، ويقولُ إذا زارَ: "سلامٌ عليكمْ دارَ قومٍ مؤمنينَ، وإنا إنْ شاءَ اللهُ بكمْ لاحقونَ"، ويقرأُ ويدعو لهم بالمغفرةِ.
وتكرهُ للنساء.
فصلٌ [في التعزيةِ]:
يندبُ تعزيةُ كلِّ أقاربِ الميتِ -إلا الشابةَ الأجنبيةَ- منَ الموتِ إلى ثلاثةِ أيامٍ تقريباً بعدَ الدفنِ. ويكرهُ الجلوسُ لها، فلوْ كانَ غائباً فقدِمَ بعدَ مدةٍ عزَّاهُ،
(1/96)


ويقولُ في تعزيةِ المسلمِ بالمسلمِ: "أعظمَ اللهُ أجركَ وأحسنَ عزاكَ وغفرَ لميتكَ"، وفي المسلمِ بالكافرِ: "أعظمَ الله أجركَ وأحسنَ عزاكَ"، وفي الكافرِ بالمسلمِ: "أحسنَ الله عزاكَ وغفرَ لميتكَ"، وفي الكافرِ بالكافرِ: "أخلفَ اللهُ عليكَ ولا نقصَ عددكَ"، وينوي به تكثيرُ الجزيةِ.
والبكاءُ قبلَ الموتِ جائزٌ وبعدهُ خلافُ الأولى، ويحرمُ الندْبُ والنياحةُ واللطمُ وشقُّ الثوبِ ونشرُ الشَّعرِ.
ويُندبُ لأقاربِ الميتِ البُعداء وجيرانهِ أنْ يصلحوا طعاماً لأهلِ الميتِ الأقربينَ يكفيهم يومَهُم وليلتهم، ويلحُّ عليهمْ ليأكلوا، وما يفعلُهُ أهلُ الميتِ منْ إصلاحِ طعامٍِ وجمعِ الناسِ عليهِ بدعةٌ غيرُ حسنةٍ.
(1/97)


كتابُ الزكاةِ
[وجوبُ الزكاةِ]:
تجبُ الزكاةُ على كلِّ حرٍّ مسلمٍ تمَّ ملكُهُ على نصابٍ حَوْلاً، فلا تلزمُ المُكاتَبَ ولا الكافرَ، وأما المرتدُّ فإنْ رجعَ إلى الإسلامِ لزمَهُ لما مضى، وإنْ ماتَ مرتداً فلا.
ويلزمُ الوليُّ إخراجها منْ مال الصبيِّ والمجنونِ، فإنْ لمْ يُخرجْ عصى، ويَلزمُ الصبيَّ والمجنونَ إذا صارا مكلفينِ إخراجُ ما أهملَهُ الوليُّ.
ولوْ غُصبَ مالُهُ، أوْ سُرقَ، أوْ ضاعَ، أوْ وقعَ في البحرِ، أوْ كان لهُ دينٌ على مماطلٍ، فإنْ قدرَ عليهِ بعدَ ذلكَ لزمهُ زكاة ما مضى، وإلا فلا.
ولوْ أجّرَ داراً سنتينِ بأربعينَ ديناراً وقبضها وبقيتْ في ملكهِ إلى آخرِ سنتينِ، فإذا حالَ الحولُ الأولُ زكى عشرينَ فقطْ، وإذا حالَ الحولُ الثاني زكى العشرينَ التي زكاها لسنةٍ، وزكى العشرينَ التي لمْ يزكِّها لسنتينِ، ولوْ ملكَ نصاباً فقطْ وعليهِ منَ الدينِ مثلُهُ لزمهُ زكاةُ ما بيدهِ، والدَّيْنُ لا يَمنعُ الوجوبَ.
[الأموالُ التي تجبُ فيها الزكاةُ]:
ولا تجبُ الزكاةُ إلا في المواشي، والنباتِ، والذهبِ والفضةِ، وعُروضُ التجارةِ، وما يوجدُ منَ المعدنِ والرِكازِ، وتجبُ الزكاةُ في عينِ المالِ، لكنْ لوْ أخرجَ منْ غيرهِ جازَ، فبمجردِ حَوَلانِ الحولِ يملكُ الفقراءُ منَ المالِ قدرَ الفرضِ، حتى لوْ ملكَ
(1/98)


مئتي درهمٍ فقطْ ولمْ يزكِّها أحوالاً لزمَهُ الزكاةُ للسنةِ الأولى فقط.
ولوْ تلفَ مالُهُ كله بعدَ الحولِ وقبلَ التمكنِ منَ الإخراجِ سقطتِ الزكاةُ، وإنْ تلفَ بعضُهُ بحيثُ نقص عنِ النصابِ لزمَهُ بقسْطِ الباقي وسقطَ بقسطِ التالفِ، وإنْ تلفَ مالهُ كلُّهُ أوْ بعضهُ بعدَ الحولِ والتمكنِ لزمهُ زكاةُ الباقي والتالفِ، ولوْ زالَ ملكُهُ في الحولِ -ولوْ لحظةً- ثمَّ عادَ إلى ملكهِ في الحولِ، أوْ لمْ يعدْ، أوْ ماتَ في أثناءِ الحولِ سقطتِ الزكاةُ.
ويبتدئُ المشتري والوارثُ الحولَ منْ حينِ ملكِ المالِ، لكنْ لوْ أزالَ ملكَهُ في الحولِ فِراراً منَ الزكاةِ فإنهُ يكرهُ، والأصحُّ أنَّهُ حرامٌ، ويصحُّ البيعُ، ولوْ باعَ بعدَ الحولِ وقبلَ الإخراجِ بطلَ في قدرِ الزكاةِ وصحَّ في الباقي.

1 - باب صدقة المواشي
[شروطُ زكاةِ المواشي]:
لا تجبُ الزكاةُ إلا في الإبلِ والبقرِ والغنمِ، فمتى ملكَ منها نصاباً، حولاً كاملاً، وأسامَهُ كلَّ الحولِ لزمتهُ الزكاةُ إلا أنْ تكونَ ماشيتُهُ عاملةً، مثلَ أنْ تكونَ معدةً للحراثةِ، أو الحملِ، أو للنضحِ فلا زكاةَ فيها، والمرادُ بالإسامةِ أنْ ترعى منَ الكلأ المباحِ، فلوْ علفها زماناً لا تعيشُ دونهُ لوْ تركتِ الأكلَ سقطتِ الزكاةُ، وإنْ كانَ أقلَّ فلا يؤثرُ.
(1/99)


[زكاةُ الإبلِ]:
أولُ نصابِ الإبلِ خمسٌ، فتجبُ فيها شاةٌ منْ غنمِ البلدِ وهيَ جَذْعةٌ منَ الضأنِ، وهي ما لها سنةٌ، أوْ ثنيةٌ منَ المعزِ وهيَ ما لها سنتانِ، ويجزئُ الذكرُ، ولوْ كانت الإبلُ إناثاً. وفي عشرٍ شاتانِ.
وفي خمسةَ عشَرَ ثلاثُ شياهٍ.
وفي عشرينَ أربعُ شياهٍ، فإنْ أخرجَ عنِ العشرينَ فما دونها بعيراً يجزئ عنْ خمسٍ وعشرينَ قُبلَ منهُ.
وفي خمسٍ وعشرينَ بنتُ مخاضٍ، وهي التي لها سنةٌ ودخلتْ في الثانيةِ، فإنْ لمْ يكنْ في إبلهِ بنتُ مخاضٍ، أوْ كانتْ وهي معيبةً، قُبلَ منهُ ابنُ لبونٍ، ذكراً أوْ أنثى، وهوَ مالهُ سنتانِ ودخلَ في الثالثةِ، ولوْ ملكَ بنتَ مخاضٍ كريمةً لمْ يكلّفْ إخراجها، لكنْ ليسَ لهُ العدولُ إلى ابنِ لبونٍ، فيلزمهُ تحصيلُ بنتِ مخاضٍ، أوْ يسمحُ بالكريمةِ إنْ شاءَ.
وفي ستٍّ وثلاثين بنتُ لبونٍ.
وفي ستٍّ وأربعينَ حِقَّةٌ، وهيَ التي لها ثلاثُ سنينَ ودخلتْ في الرابعةِ.
وفي إحدى وستينَ جَذَعةٌ، وهي التي لها أربعُ سنينَ ودخلتْ في الخامسةِ.
وفي ستٍّ وسبعينَ بنتا لبونٍ، وفي إحدى وتسعينَ حقتانِ.
وفي مئةٍ وإحدى وعشرينَ ثلاثُ بناتِ لبونٍ.
فإنْ زادتْ إبلُهُ على ذلكَ وجب َفي كلِّ أربعينَ بنتُ لبونٍ، وفي كلِّ خمسينَ حِقّةٌ، ففي مئةٌ وثلاثينَ حقّةٌ وبنتا لبونٍ، وفي مئةٍ وأربعينَ بنتُ لبونٍ وحقتانِ، وفي مئةٍ وخمسينَ ثلاثُ حقاقٍ، وفي مئتينِ أربعُ حقاقٍ
(1/100)


خمسيناتٍ، أو خمسُ بناتٍ لبونٍ أربعيناتٍ.
[جبرُ الزكاةِ]:
فإنْ كانَ في ملكهِ خمسُ بناتِ لبونٍ وأربعُ حقاقٍ لزمهُ الأغبطُ للفقراءِ، فإنْ فقدهما حصّل ما شاء منهما، وإنْ كانَ في ملكهِ أحدُ الصنفينِ دونَ الآخرِ دفعهُ، ومنْ لزمهُ سنٌّ وليسَ عندهُ صعدَ درجةً واحدةً وأخذَ شاتينِ تُجزيانِ في عشرٍِ من الإبلِ، أو عشرينَ درهماً، أوْ نزلَ درجةً ودفعَ شاتينِ، أوْ عشرينَ درهماً، ولوْ أرادَ أنْ ينزلَ أو يصعدَ درجتينِ بجُبرانينِ، فإنْ فقدَ أيضاً الدرجةَ القربى جازَ، وإنْ وجدها فلا.
والاختيارُ في الصعودِ والنزولِ للمزكي، وفي الغنمِ والدراهمِ لمنْ أعطاهُ، ولا يدخلُ الجبرانُ في الغنمِ والبقرِ. [زكاةُ البقرِ]:
وأولُ نصابِ البقرِ ثلاثونَ، فيجبُ فيها تبيعٌ، وهوَ ما لهُ سَنةٌ ودخلَ في الثانيةِ.
وفي أربعينَ مسنةٌ، وهي ما لها سنتانِ ودخلتْ في الثالثةِ.
وفي ستينَ تبيعانِِ، وعلى هذا أبداً في كلِّ ثلاثينَ تبيعٌ، وفي كلِّ أربعينَ مسنةٌ، فإذا بلغت مئة وعشرين فهي كبلوغ الإبل مئتين.
[زكاةُ الغنمِ]:
وأولُ نصابِ الغنمِ أربعونَ، فتجبُ فيها شاةٌ جَذَعةُ ضأنٍ، أوْ ثنيةُ معزٍ.
وفي مئةٍ وإحدى وعشرينَ شاتانِ.
وفي مئتين وواحدةٍ ثلاثُ شياهٍ.
وفي أربعمئةٍ أربعُ شياهٍ، ثمَّ هكذا أبداً في كلِّ مئةِ شاةٌ.
وهذهِ الأوقاصُ التي بينَ
(1/101)


النُّصُبِ عفْوٌ لا شيءَ فيها، وما نُتجَ منَ النصابِ في أثناءِ الحولِ يُزكَّى لحولِ أصلهِ وإنْ لمْ يمضِ عليهِ حولٌ، سواءٌ بقيتِ الأمهاتُ أو ماتتْ كلُّها، فلوْ ملكَ أربعينَ شاةً فولدتْ قبلَ تمامِ الحولِ بشهرٍ أربعينَ وماتتِ الأمهاتُ لزمهُ شاةٌ للنتاجِ.
[كيفيةُ إخراجِ الزكاةِ منَ المواشي]:
فإنْ كانتْ ماشيتُهُ مِراضاً أخذَ منها مريضةً متوسطةً، أوْ صحاحاً أخذَ منها صحيحةً، أوْ بعضُها صحاحاً وبعضُها مراضاً أخذَ صحيحةً بالقسطِ، فإذا ملكَ أربعينَ نصفُها صحاحٌ، قلنا لوْ كانتْ كلها صحاحاً كمْ تساوي واحدةٌ منها، فإذا قيلَ أربعةُ دراهم مثلاً، قلنا ولوْ كانتْ كلها مراضاً كمْ تساوي واحدةٌ منها، فإذا قيلَ درهمينِ مثلاً، قلنا لهُ حصِّلْ لنا شاةً صحيحةً بثلاثة دراهمَ، ولوْ كانتِ الصحاحُ ثلاثينَ لزمهُ شاةٌ تساوي ثلاثة دراهمَ ونصفاً، ومتى قَوَّمَ الجملةَ وأخرجَ صحيحةً تساوي رُبُعُ عُشْرٍ كفى، نعمْ لوْ كانَ الصحيحُ فيها دونَ الواجبِ أجزأهُ صحيحةٌ ومريضةٌ.
وإنْ كانت إناثاً، أو ذكوراً وإناثاً، لمْ يؤخذْ في فرضها إلا أنثى، إلا ما تقدَّمَ في خمسٍ وعشرينَ عندَ فقْدِ بنتِ مخاضٍ، وفي ثلاثينَ بقرةٌ، وفي خمسٍ منَ الإبلِ، فإنهُ يجزئ ابنُ لبونٍ، وتبيعٌ، وجذعُ ضأنٍ، أوْ ثنيُّ معزٍ، وإنْ تمحَّضتْ ذكوراً أجزأهُ الذكرُ مطلقاً، لكنْ يؤخذُ في ستٍّ وثلاثينَ ابنُ لبونٍ أكثرُ قيمةً من ابنِ لبونٍ يؤخذُ في خمسٍ
(1/102)


وعشرينَ بالتقويمِ والنِّسبةِ.
وإنْ كانتْ كلها صغاراً دونَ سنِّ الفرضِ أخذَ منها صغيرةً، ويجتهدُ بحيثُ لا يُسوِّي بينَ القليلِ والكثيرِ، ففصيلُ ستٍّ وثلاثينَ يكونُ خيراً منْ فصيلِ خمسٍ وعشرينَ، وإنْ كانتْ كباراً وصغاراً لزمهُ كبيرةٌ، وهوَ سنُّ الفرضِ المتقدمِ.
وإنْ كانتْ معيبةً أخذَ الأوسطَ في العيبِ، وإنْ كانتْ أنواعاً كضأنٍ ومعزٍ أخذَ منْ أيِّ نوعٍ شاءَ بالقسطِ، فيقالُ: لوْ كانتْ كلُّها ضأناً كمْ تساوي واحدةٌ منها ... إلى آخرِ ما تقدمَ.
ولا تُؤخذُ الحاملُ، ولا التي ولدتْ، ولا الفحلُ، ولا الخيارُ، ولا المسمَّنةُ للأكلِ، إلا أنْ يرضى المالكُ.
[الخليطان والنِّصابُ المشترك]:
ولوْ كانَ بينَ نفسينِ منْ أهلِ الزكاةِ نصابٌ مشتركٌ منَ الماشيةِ أوْ غيرها مثلَ أنْ ورثاهُ، أو غيرَ مشتركٍ بلْ لكلٍّ منهما عشرونَ شاةً مثلاً مميزةً، إلا أنهما اشتركا في المُراحِ والمسْرَح والمرعى والمشْرَبِ وموضعِ الحلبِ والفحلِ والراعي، وفي غيرها -منَ الناطورِ والجَرين والدكان ومكانِ الحفظِ- زكّيا زكاةَ الرجلِ الواحدِ.

2 - باب زكاة النباتِ
لا تجبُ الزكاةُ في الزرعِ إلا فيما يُقتاتُ منْ جنسِ ما يستنبتهُ الآدميونَ وييبسُ ويُدّخرُ، كحنطةٍ وشعيرٍ وذرةٍ وأرزٍ وعدسٍ وحمصٍ وباقلا وجُلبانٍ وعَلَسٍ، ولا تجبُ
(1/103)


في الثمارِ إلا في الرُّطبِ والعِنبِ، ولا تجبُ في الخضراواتِ ولا الأبازيرِِ مثلِ الكمونِ والكزبرةِ، فمنِ انعقدَ في ملكهِ نصابُ حبٍّ، أوْ بَدَا صلاحُ نصابِ رطبٍ أوْ عنبٍ لزمتهُ الزكاةُ، وإلا فلا.
[نصابُ الزروع والثمار]:
والنصابُ أنْ يبلغَ جافاً خالصاً منَ القشرِ والتبنِ خمسةَ أوسقٍ، وهوَ ألفٌ وستمئةِ رطلٍ بغداديةٍ، إلا الأرزَّ والعَلَسَ، وهوَ صنفٌ منَ الحنطةِ يُدَّخرُ معَ قشرهِ، فنصابُهُما عشَرَةَ أوسقٍ بقشْرهما، ولا تُخرجُ الزكاةُ في الحبِّ إلا بعدَ التصفيةِ، ولا في الثمرةِ إلا بعدَ الجفافِ. وتُضمُّ ثمرةُ العامِ الواحدِ بعضها إلى بعضٍ في تكميلِ النصابِ، حتى لوْ أطلعَ البعضُ بعدَ جداد البعضِ لاختلافِ نوعهِ أوْ بلدهِ، والعامُ واحدٌ والجنسُ واحدٌ، ضمَّهُ إليهِ في تكميلِ النصابِ.
ويُضمُّ أنواعُ الزرعِ بعضُهُ إلى بعضٍ في النصابِ إنِ اتفقَ حصادُهُما في عامٍ واحدٍ.
ولا تُضمُّ ثمرةُ عامٍ أوْ زرعُهُ إلى ثمرةِ عامٍ آخرَ أوْ زرْعهِ، ولا عنبٌ لرُطَبٍ ولا بُرٌّ لشعير.
ثمَّ الواجبُ العُشرُ إنْ سُقيَ بلا مؤنةٍ كالمطرِ ونحوهِ، ونصفُ العشرِ إنْ سُقيَ بمؤنةٍ كساقيةٍ ونحوها، والقِسطُ إنْ سُقيَ بهما، ثمَّ لا شيءَ فيهِ وإنْ دامَ في ملكهِ سنينَ.
[حرمةُ التصرفِ بالمالِ قبلَ إخراجِ الزكاةِ]:
يحرُمُ على المالكِ أنْ يأكلَ شيئاً منَ الثمرةِ، أوْ يتصرفَ
(1/104)


فيها ببيعٍ وغيرهِ قبلَ الخَرْصِ، فإنْ فعلَ ضمنهُ، ويُندبُ للإمامِ أنْ يبعثَ خارصاً عدلاً يَخرِصُ الثمارَ، ومعناهُ أنهُ يدورُ حولَ النخلةِ فيقولُ: فيها منَ الرطبِ كذا، ويأتي منهُ منَ التمرِ كذا، ويُضمِّنُ المالكَ نصيبَ الفقراءِ بحسابهِ في ذمتهِ، ويقبلُ المالكُ ذلكَ، فينتقلُ حينئذٍ حقُّ الفقراءِ منهُ إلى ذمتهِ، ولهُ بعدَ ذلكَ التصرفُ، فإنْ تلفَ بآفةٍ سماويةٍ بعدَ ذلكَ سقطت الزكاةُ.

3 - بابُ زكاةُ الذهبِ والفضةِ
منْ ملكَ منَ الذهبِ والفضةِ نصاباً حوْلاً لزمتهُ الزكاةُ، ونصابُ الذهبِ عشرونَ مثقالاً، وزكاتُهُ نصفُ مثقالٍ.
ونصابُ الفضةِ مئتا درهمٍ خالصةٍ، وزكاتهُ خمسةُ دراهمَ خالصةٍ، ولا زكاةَ فيما دونَ ذلكَ، وتجبُ فيما زادَ على النصابِ بحسابهِ، سواءٌ في ذلكَ المضروبُ، والسبائكُ، والحليُّ المعدُّ لاستعمالٍ محرَّمٍ، أوْ مكروهٍ، أوْ للقنيةِ، فإنْ كانَ الحليُّ مُعدّاً لاستعمالٍ مباحٍ فلا زكاةَ فيه.

4 - باب زكاة العروض
إذا ملكَ عَرْضاً حولاً، وكانَ قيمتُهُ في آخرِ الحولِ نصاباً، لزمتهُ زكاتُهُ، وهي ربعُ العشرِ، بشرطينِ: أنْ يتملكهُ بمعاوضةٍ، وأنْ ينويَ حالَ التملكِ التجارةَ. فلوْ ملكهُ
(1/105)


بإرثٍ، أوْ هبةٍ، أوْ بيعٍ ولمْ ينوِ التجارةَ فلا زكاةَ. فإن اشتراهُ بنصابٍ كاملٍ منَ النقدينِ، بنى حولَهُ على حول النقدِ، وإنِ اشتراهُ بغيرِ ذلكَ إما بدونِ نصابٍ، أوْ بغيرِ نقدٍ، فحَوْلُهُ منَ الشراءِ.
ويُقوِّمُ مالَ التجارةِ آخرَ الحولِ بما اشتراهُ بهِ إن اشتراهُ بنقدٍ ولوْ بدونِ النصابِ، فإنِ اشتراهُ بغيرِ نقدٍ قوَّمهُ بنقدِ البلدِ، فإذا بلغَ نصاباً زكَّاهُ، وإلا فلا حتى يحولَ عليهِ حولٌ آخرُ، فيقوَّمُ ثانياً، وهكذا، ولا يُشترطُ كونُهُ نصاباً إلا في آخرِ الحولِ فقطْ.
ولوْ باعَ عرْضَ التجارةِ في الحولِ بعرضِ تجارةٍ لمْ ينقطعِ الحولُ، ولوْ باعَ الصيرفيُّ النقودَ بعضها ببعَضٍ في الحولِ للتجارةِ انقطعَ، ولوْ باعَ في الحولِ بنقدٍ وربحٍ وأمسكهُ إلى آخرِ الحولِ، زكَّى الأصلَ بحولهِ والربحَ بحولهِ، وأولُ حولِ الربحِ منْ حينِ نضوضهِ لا منْ حينِ ظهورهِ.

5 - بابُ زكاة المعدنِ والركاز
إذا استُخرِجَ من معدنٍ في أرضٍ مباحةٍ أوْ مملوكةٍ لهُ نصابُ ذهبٍ أوْ فضةٍ، في دفعةٍ أوْ دفعاتٍ، لمْ ينقطعْ فيها عن العملِ بتركٍ أوْ إهمالٍ، ففيهِ في الحالِ ربعُ العُشْرِ، ولا تُخرَجُ إلا بعدَ التصفيةِ، فإنْ تركَ العملَ بعذرٍ كسفرٍ
(1/106)


وإصلاحِ آلةٍ، ضُمَّ، وإنْ وجِدَ في أرض الغيرِ فهوَ لصاحبها.
وإنْ وجد ركازاً منْ دفينِ الجاهليةِ وهوَ نصابُ ذهبٍ أوْ فضةٍ في أرض مواتٍ، ففيهِ الخمسُ في الحالِ، وإنْ وجدهُ في ملكٍ فهوَ لصاحبِ الملكِ، أوْ في مسجدٍ أوْ في شارعٍ أوْ كانَ منْ دفينِ الإسلامِ فهوَ لُقطةٌ.

باب زكاة الفطر
[وجوبُ زكاة الفطر وعلى من تلزم]:
تجبُ على كلِّ حرٍّ مسلمٍ، إذا وجدَ ما يؤديهِ في الفطرةِ فاضلاً عنْ قوتهِ وقوتِ من تلزمُهُ نفقتُهُ وكسوتُهُم ليلةَ العيدِ ويومَهُ، وعنْ دَيْنٍ ومسكنٍ وعبدٍ يحتاجهُ، فلوْ فضلَ بعضُ ما يؤديهِ لزمهُ إخراجهُ.
ومنْ لزمتهُ فطرتُهُ لزمتهُ فطرةُ كلِّ منْ تلزمُهُ نفقتهُ، منْ زوجةٍ وقريبٍ ومملوكٍ، إنْ كانوا مسلمينَ ووجدَ ما يؤدي عنهم، لكنْ لا تلزمُهُ فطرةُ زوجةِ الأبِ المعْسرِ ومستولدتهِ، وإنْ لزمتْهُ نفقتُهُما. ومنْ لزمَهُ فطرةٌ ووجدَ بعضها بدأ بنفسهِ، ثمَّ زوجتهِ، ثمَّ ابنهِ الصغيرِ، ثمَّ أبيهِ، ثمَّ أمهِ، ثمَّ ابنهِ الكبيرِ، ولوْ تزوجَ مُعسرٌ بموسرةٍ أوْ بأمةٍ، لزمتْ سيدَ الأمةِ فِطرةٌ لأمتهِ، ولا تلزمُ الحرةَ فطرةُ نفسها، وقيلَ يلزمُها.
[سببُ زكاةِ الفطرِ ومقدارها]:
سببُ الوجوبِ إدراكُ غروبِ الشمسِ ليلةَ الفطرِ، فلوْ ولِدَ لهُ ولدٌ، أوْ تزوجَ، أو اشترى قبلَ الغروبِ وماتَ
(1/107)


عقبَ الغروبِ لزمتْهُ فطرتهمْ، وإنْ وُجِدوا بعدَ الغروبِ لم تجب فطرتهم.
ثمَّ الواجبُ صاعٌ عنْ كلِّ شخصٍ، وهوَ خمسةُ أرطالٍ وثلُث بغداديةٌ، وبالمصريِّ أربعةٌ ونصفٌ ورُبْعٌ وسبعُ أوقيةٍ، منَ الأقواتِ التي تجبُ فيها الزكاةُ منْ غالبِ قوتِ البلدِ، ويجزئ الأقِطُ واللبنُ لمنْ قوتُهمْ ذلكَ، فإنْ أخرجَ منْ أعلى قوتِ بلدهِ أجزأهُ، أوْ دونه فلا.
ويجوزُ الإخراجُ في جميعِ رمضانَ، والأفضلُ يومَ العيدِ قبلَ الصلاةِ، ولا يجوزُ تأخيرها عنْ يومِ الفطرِ، فإنْ أخَّرَ عنهُ أثمَ ولزمهُ القضاءُ.

باب قَسْمُ الصدقاتِ
متى حالَ الحولُ وقدَرَ على الإخراجِ، بأنْ وجدَ الأصنافَ ومالُهُ حاضرٌ، حرُمَ عليهِ التأخيرُ، إلا أنْ ينتظرَ فقيراً أحقَّ منَ الموجودينَ، كقريبٍ وجارٍ وأصلحَ وأحوجَ.
[جوازُ تعجيلِ الزكاةِ]:
وكلُّ مالٍ وجبتْ زكاتُهُ بحولٍ ونصابٍ جازَ تقديمُ الزكاةِ على الحولِ بعدَ مِلكِ النصابِ لحولٍ واحدٍ، وإذا حالَ الحولُ -والقابضُ بصفةِ الاستحقاقِ، والدافعُ بصفةِ الوجوبِ، والمالُ بحالهِ- وقعَ المعجلُ عنِ الزكاةِ، وإنْ ماتَ الفقيرُ أو استغنى بغيرِ الزكاةِ، أو ماتَ الدافعُ أوْ نقصَ مالُهُ عنِ
(1/108)


النصابِ بأكثرَ منَ المعجلِ -ولوْ ببيعٍ- لمْ يقعِ المعجلُ عن الزكاةِ، ويستردُّهُ إنْ بيَّنَ أنهُ معجَّلٌ، فإنْ كانَ باقياً ردَّهُ بزيادتهِ المتصلةِ كالسّمَنِ، لا المنفصلةِ كالولدِ، وإنْْ تلفَ أخذَ بدلهُ، ثمَّ يُخرجُ ثانياً إنْ كانَ بصفةِ الوجوبِ، ثمَّ المُخرَجُ كالباقي على مِلكهِ، حتى لوْ عجّل شاةً عنْ مئةٍ وعشرينَ ثمَّ ولدَ لهُ سخلةٌ لزمهُ شاةٌ أخرى. ويجوزُ أنْ يفرِّقَ زكاتَهُ بنفسهِ أوْ بوكيلهِ، ويجوزُ أنْ يدفعها إلى الإمامِ، وهوَ أفضلُ إلا أنْ يكونَ جائراً فتفريقُهُ بنفسهِ أفضلُ.
ويُندبُ للفقيرِ والساعي أنْ يدعوَ للمعطي فيقولُ: آجركَ اللهُ فيما أعطيتَ، وباركَ لكَ فيما أبقيتَ، وجعلهُ لك طهوراً.
ومنْ شرطِ الإجزاءِ: النيةُ، فينوي عندَ الدفعِ إلى الفقيرِ أوْ إلى الوكيلِ أنَّ هذهِ زكاةُ مالي، فإذا نوى المالكُ لمْ تجبْ نيةُ الوكيلِ عندَ الدفعِ.
ويندبُ للإمامِ أنْ يبعثَ عاملاً مسلماً حراً عدلاً، فقيهاً في الزكاةِ، غيرَ هاشميٍّ ومطَّلبيٌّ.
[مصارفُ الزكاةِ]:
ويجبُ صرفُ الزكاةِ إلى ثمانيةِ أصنافٍ لكلِّ صنفٍ ثمُنُ الزكاةِ.
أحدها: الفقراء:
والفقيرُ منْ لا يقدرُ على ما يقعُ موقعاً منْ كفايتهِ، وعجزَ عنْ
(1/109)


كسبٍ يليقُ بهِ، أوْ شغلَهُ الكسبُ عن الاشتغالِ بعلمٍ شرعيٍّ، فإنْ شغلهُ التعبدُ فليسَ بفقيرٍ، ولوْ كانَ لهُ مالٌ غائبٌ بمسافةِ القصرِ أُعطيَ، وإنْ كانَ مستغنياً بنفقةِ منْ تلزمُهُ نفقتُهُ منْ زوجٍ وقريبٍ فلا.
والثاني: المساكينُ:
والمسكينُ منْ وجدَ ما يقعُ موقعاً منْ كفايتهِ ولا يكفيهِ، مثلُ أن يريدَ خمسةً فيجد ثلاثةً، أوْ أربعةً، ويأتي فيهِ ما قيلَ في الفقيرِ.
ويعطى الفقيرُ والمسكينُ ما يزيلُ حاجتَهُما منْ عدَّةٍ يكتسبُ بها، أوْ مالٍ يتّجرُ بهِ على حسبِ ما يليقُ بهِ، فيتفاوتُ بينَ الجوهريِّ والبزازِ والبقالِ وغيرهم، فإن لم يحترف أُعطيَ كفايةَ العمرِ الغالبِ لمثلهِ، وقيلَ كفايةَ سنةٍ فقطْ، وهذا مفروضٌ معَ كثرةِ الزكاةِ، إما بأنْ فرَّقَ الإمامُ الزكاةَ، أوْ ربُّ المالِ وكانَ المالُ كثيراً، وإلا فلكلِّ صنفٍ الثمُنُ كيفَ كان. الثالثُ: العاملون:
وهمُ الذينَ يبعثهمُ الإمامُ كما تقدمَ، فمنهمُ الساعي والكاتبُ والحاشرُ والقاسمُ، فيجعلُ للعاملِ الثمن، فإنْ كانَ الثمنُ أكثرَ من أجرتهِ ردَّ الفاضلَ على الباقينَ، وإنْ كانَ أقلَّ كمَّلهُ منَ الزكاةِ، هذا إذا فرَّقَ الإمامُ، فإنْ فرَّقَ المالكُ قسَّم على سبعةٍ وسقطَ العاملُ.
الرابعُ: المؤلفةُ قلوبُهُم:
فإنْ كانوا كفاراً لمْ يُعطَوْا، وإنْ كانوا مسلمينَ أُعطوا، والمؤلفة: قومٌ أشرافٌ يرجى حسنُ إسلامهم، أوْ إسلامُ نظرائهم، أوْ يَجْبونَ
(1/110)


الزكاةَ من مانعيها بقربهم، أو يقاتلونَ عنا عدواً يُحتاجُ في دَفعهِ إلى مؤنةٍ ثقيلةٍ.
الخامسُ: الرقاب:
وهمُ المكاتبونَ، فيعطَونَ ما يؤدونَ إن لم يكن معهم ما يؤدون.
السادس: الغارمون:
فإنْ غرِمَ لإصلاحٍ بأن استدانَ ديْناً لتسكينِ فتنةِ دمٍ أوْ مالٍ دُفعَ إليهِ معَ الغِنى، وإن استدانَ لنفقتهِ ونفقةِ عيالهِ دُفعَ إليهِ معَ الفقرِ دونَ الغِنَى، وإن استدانَ وصرفهُ في معصيةٍ وتابَ دُفعَ إليهِ في الأصحِّ.
السابع: في سبيلِ الله تعالى:
وهُمُ الغزاةُ الذينَ لا حقَّ لهمْ في الديوانِ، فيعطَونَ معَ الغِنَى ما يكفيهم لغزوهم من سلاحٍ وفرسٍ وكسوةٍ ونفقةٍ.
الثامنُ: ابنُ السبيلِ:
وهوَ المسافرُ المجتازُ بنا، أو المنشئ للسفرِ في غيرِ معصيةٍ، فيُعطى نفقةً ومركوباً معَ الحاجةِ وإنْ كانَ لهُ في بلدهِ مالٌ.
ومنْ فيهِ سببانِ لمْ يعطَ إلا بأحدهما، فمتى وجِدَتْ هذه الأصنافُ في بلدِ المالِ فَنَقْلُ الزكاةِ إلى غيرها حرامٌ ولمْ يَجُزِ، إلا أنْ يفرِّقَ الإمامُ فلهُ النقلُ، وإنْ كانَ مالهُ بباديةٍ أوْ فُقدتْ الأصنافُ كلُّها ببلدهِ نقلَ إلى أقربِ بلدٍ إليه.
[كيفيةُ تقسيمِ الزكاةِ]:
وتجبُ التسويةُ بينَ الأصنافِ لكلِّ صنفٍ الثُمُنُ إلا العاملُ فقدْرُ أجرتهِ، فإنْ فُقدَ صنفٌ في بلدهِ فرَّقَ نصيبهُ على الباقينَ فيعطي لكلِّ صنفٍ السُّبُعُ، أوْ صنفانِ فلكلِّ صنفٍ السُّدُسُ وهكذا، فإنْ قسَّمَ المالكُ وآحادُ الصنفِ
(1/111)


محصورونَ، أو قسَّمَ الإمامُ مطلقاً وأمكنَ الاستيعابُ لكثرةِ المالِ وجبَ، وإنْ قسَّمَ المالكُ وهم غيرُ محصورينَ فأقلُّ ما يجوزُ أنْ يدفعَ إلى ثلاثةٍ منْ كلِّ صنفٍ، إلا العاملَ فيجوزُ واحدٌ.
ويندبُ الصرفُ لأقاربهِ الذينَ لا يلزمهُ نفقَتهم، وأنْ يفرقَ على قدرِ الحاجةِ، فيعطي منْ يحتاجُ إلى مئةٍ مثلاً قدرَ نصفِ منْ يحتاجُ مئتينِ.
ولا يجوزُ أنْ يدفعَ لكافرٍ، ولا لبني هاشمٍ وبني المطلبِ، ولا لمن تلزمُهُ نفقتُهُ كزوجةٍ وقريبٍ، ولوْ دفعَ لفقيرٍ وشرط أنْ يردهُ عليهِ منْ دينٍ لهُ عليهِ، أوْ قالَ: جعلتُ مالي في ذمتكَ زكاةً فخذهُ لمْ يُجزِ، وإنْ دفعَ إليهِ بنيةِ أنهُ يقضيهِ منهُ، أوْ قالَ: اقضِ مالي لأعطيكهُ زكاةً، أوْ قالَ المديونُ: أعطني لأقضيكَهُ جازَ، ولا يلزمُ الوفاءُ بهِ.
وزكاةُ الفطرِ في جميعِ ما ذكرناهُ كزكاةِ المالِ منْ غيرِ فرْقٍ، فلوْ جمعَ جماعةٌ فطرتَهُمْ وخلطوا وفرقوها، أو فرَّقها أحدهُم بإذنِ الباقينَ جازَ.
[صدقةُ التطوعِ]:
تندبُ صدقةُ التطوعِ كلَّ وقتٍ، وفي رمضانَ وأمامَ الحاجاتِ وكلِّ وقتٍ ومكانٍ شريفٍ آكدٍ، وللصلحاءِ وأقاربهِ وعدوِّهِ منهمْ، وبأطيبِ مالهِ أفضلُ، ويحرُمُ التصدقُ
(1/112)


بما ينفقهُ على عيالهِ أوْ يقضي بهِ ديْنهُ الحالَّ، ويندبُ بكلِّ ما فضلَ إنْ صبرَ على الإضاقةِ.
ويكرهُ أنْ يسألَ بوجهِ اللهِ غيرَ الجنةِ، وإذا سألَ سائل بوجهِ اللهِ شيئاً كُرهَ ردُّهُ.
والمنُّ بالصدقةِ حرامٌ ويُبطلُ ثوابها.
(1/113)


كتابُ الصيامِ
[منْ يجبُ عليه الصوم]:
يجبُ صومُ رمضانَ على كلِّ: مسلمٍ بالغٍ عاقلٍ قادرٍ على الصومِ، معَ الخلوِّ عن حيضٍ ونفاسٍ. فلا يخاطبُ بهِ كافرٌ وصبيٌّ ومجنونٌ، ومنْ أجهدهُ الصومُ لكبرٍ أوْ مرضِ لا يرجى برؤه، بأداءِ ولا بقضاءٍ، لكنْ يلزمُ منْ أجهدهُ الصومُ لكلِّ يومٍ مدُّ طعامٍ، ويخاطبُ المريضُ والمسافرُ والمرتدُّ والحائضُ والنفساءُ بالقضاءِ دونَ الأداءِ، فإنْ تكلفَ المريضُ والمسافرُ فصاما صحَّ، دونَ المرتدِّ والحائضِ والنفساءِ. فإن أسلمَ أوْ أفاق أو بلغَ مفطراً في أثناءِ النهارِ نُدبَ الإمساكُ والقضاءُ ولا يجبانِ، وإنْ بلغَ صائماً لزمهُ الإمساكُ ونُدب القضاءُ، ولوْ طهُرَتِ الحائضُ أمسكتْ نَدباً وقضتْ حتماً، أوْ قدمَ المسافرُ أوْ برئَ المريضُ وهما مفطرانِ، أمسكا ندباً وقضيا حتماً، أو صائمانِ أمسكا حتماً.
ولوْ قامتِ البينةُ برؤيةِ يومِ الشكِّ وجبَ إمساكُ بقيتهِ وقضاؤهُ.
ويؤمرُ الصبيُّ بهِ لسبعٍ ويُضربُ لعشرٍ.
[مبيحاتُ الفطرِ]:
ويبيحُ الفطرَ:
1 - غلبةُ الجوعِ والعطشِ بحيثُ يخشى الهلاكَ أو المرضَ، ولوْ طرأ في أثناءِ اليومِ، إذا شقَّ الصومُ.
2 - وسفرُ القصرِ إنْ فارقَ العمرانَ قبلَ الفجرِ، وإنْ نواهُ منَ الليلِ،
(1/114)


فإنْ سافرَ بعدهُ فلا، والفطرُ للمسافرِ أفضلُ إنْ ضرَّهُ الصومُ، وإلا فالصومُ أفضلُ.
3 - [المرضعُ والحاملُ]: ولوْ خافتْ مرضعٌ أوْ حاملٌ على أنفسهما أوْ ولديهما أفطرتا وقضتا، لكن تفديانِ عندَ الخوفِ على الولدِ لكلِّ يومٍ مداً.
[وقتُ وجوبِ الصومِ]:
ولا يجبُ صومُ رمضانَ إلا برؤيةِ الهلالِ، فإنْ غمَّ وجبَ استكمالُ شعبانَ ثلاثينَ ثمَّ يصومونَ، فإنْ رؤيَ نهاراً فهوَ لليلةِ المستقبَلةِ، وإنْ رؤيَ في بلدٍ دونَ بلدٍ فإنْ تقاربا عمَّ الحكمُ، وإلا فلا، والبعدُ باختلافِ المطالعِ كالحجازِ والعراقِ ومصرَ، وقيلَ بمسافةِ القصرِ، ويقبلُ في رمضانَ بالنسبةِ إلى الصومِ عدلٌ واحدٌ، ذكرٌ حرٌّ مكلفٌ، ولا يقبلُ في سائرِ الشهورِ إلا عدلانِ، ولوْ عرَفَ رجلٌ بالحسابِ والنجومِ أنَّ غداً منْ رمضانَ لمْ يجب الصومُ، لكنْ يجوزُ للحاسبِ والمنَجِّمِ فقطْ، وإنِ اشتبهتِ الشهورُ على أسيرٍ ونحوهِ اجتهدَ وجوباً وصامَ، فإنِ استمرَّ الإشكالُ أوْ وافقَ رمضانَ أوْ ما بعدهُ صحَّ، وإنْ وافقَ ما قبلهُ لمْ يصحَّ.
[شروطُ الصومِ]:
وشرطُ الصومِ النيةُ، والإمساكُ عنِ المفطراتِ. [النيةُ]: فينوي لكلِّ يومٍ، فإنْ كانَ فرضاً وجبَ تعيينُهُ وتبييتهُ منَ الليلِ، وأكملُهُ: أنْ ينوي صومَ غدٍ عنْ أداءِ فرضِ رمضانَ هذهِ السنةِ للهِ تعالى.
ولوْ أخبرهُ بالرؤيةِ ليلةَ الشكِّ منْ يثقُ
(1/115)


بهِ ممنْ لا يقبلهُ الحاكمُ منْ نسوةٍ وعبيدٍ وصبيانٍ، فنوى بناءً على ذلكَ، فكانَ منهُ صحَّ، وإنْ نواهُ منْ غيرِ إخبارِ أحدٍ فكانَ منهُ لمْ يصحَّ، سواءٌ جزمَ النيةَ أوْ تردَّدَ فقالَ: إنْ كانَ غداً منْ رمضانَ فأنا صائمٌ وإلا فمفطرٌ، ولوْ قالَ ليلةَ الثلاثينَ منْ رمضانَ: إنْ كانَ غداً منْ رمضان فأنا صائمٌ وإلا فمفطرٌ، فكانَ منْ رمضانَ صحَّ. ويصحُّ النفلُ بنيةٍ مطلقةٍ قبلَ الزوالِ.
[الإمساكُ عنِ المفطراتِ]: وإنْ أكلَ الصائمُ أوْ شربَ، أو اسْتَعَطَ أو احْتَقَنَ، أوْ صبَّ في أذنهِ فوصلَ دماغهُ، أوْ أدخلَ أصبعاً أو غيرهُ في دبرهِ أوْ قُبُلِها وراءَ ما يبدو عندَ القَعْدَةِ، أوْ وصلَ إلى جوفهِ شيءٌ منْ طعنةٍ أو دواءٍ، أوْ تقيأَ، أو جامعَ، أوْ باشرَ فيما دونَ الفرجِ فأنزلَ، أوِ استمنى فأنزلَ، أوْ بالغَ في المضمضةِ أو الاستنشاقِ فنزلَ جوفهُ، أوْ أخرجَ ريقهُ منْ فمهِ، كما إذا جرَّ الخيطَ في فمهِ عندَ فتلهِ فانفصلَ عليهِ ريقٌ ثمّ ردّهُ وبلعَ ريقهُ، أوْ بلعَ ريقهُ متغيراً، كما إذا فتلَ خيطاً فتغيرَ بصبغهِ، أوْ كانَ نجِساً، كما إذا دميَ فمُهُ فبصقَ حتى صفا ريقهُ ولمْ يغسلهُ، أوْ إذا ابتلعَ نخامةً منْ أقصى الفمِ، إنْ قدرَ على قطعها ومجِّها فتركها حتى نزلتْ، أوْ طلعَ الفجرُ وهوَ مجامعٌ فاستدامَ ولوْ لحظةً، وهوَ في جميعِ ذلكَ ذاكرٌ للصومِ، عالمٌ بالتحريمِ،
(1/116)


بطُلَ صومهُ، وعليهِ قضاءٌ وإمساكُ بقيةِ النهارِ.
وضابطُ المفطّرِ:
1 - وصولُ عينٍ وإنْ قلَّتْ منْ منفدٍ مفتوحٍ إلى جوفٍ.
2 - والجماعُ.
3 - والإنزالُ عنْ مباشرةٍ أو استمناءٍ عالماً بالتحريمِ ذاكراً للصومِ.
[كفارةُ إفسادِ الصومِ]:
يلزمُ من فسدَ صومهُ في رمضانَ بالجماعِ مع القضاءِ الكفارةُ، وهيَ:
عتقُ رقبةٍ مؤمنةٍ، سليمةٍ منَ العيوبِ المضرةِ، فإنْ لمْ يجدْ فصيامُ شهرينِ متتابعينِ، فإنْ لمْ يستطعْ فإطعامُ ستينَ مسكيناً، فإنْ عجَزَ ثبتَِ في ذمتهِ، ولا يجبُ على الموطوءةِ كفارةٌ. [حكم الناسي والمكره والجاهل]:
فإنْ فعلَ جميعَ ذلكَ ناسياً، أوْ جاهلاً، أوْ مكرهاً، أوْ غلبهُ القيءُ، أوْ أنزلَ باحتلامٍ أوْ عنْ فكرٍ أوْ نظرٍ، أوْ نزلَ جوفهُ بمضمضةٍ أو استنشاقٍ بلا مبالغةٍ، أوْ جرى الريقُ بما بقيَ منَ الطعامِ في خلالِ أسنانهِ بعدَ تخليلهِ وعجَزَ عنْ مجِّهِ، أوْ جمع ريقهُ في فمهِ وابتلعهُ صِرْفاً، أوْ أخرجهُ على لسانهِ ثمَّ ردَّهُ وبلعهُ، أو اقتلعَ نخامةً منْ باطنهِ ولفظها، أوْ طلعَ الفجرُ وفي فمه طعامٌ فلفظهُ، أوْ كانَ مجامعاً فنزعَ في الحالِ، أوْ نامَ جميعَ النهارِ، أوْ أُغميَ عليهِ فيه وأفاقَ لحظةً منهُ، لمْ يضرُّهُ في جميعِ ذلكَ ويصحُّ صومُهُ.
وإذا أكلَ معتقداً أنهُ ليلٌ فبانَ أنهُ نهارٌ، أو أكل ظاناً للغروبِ واستمرَّ الإشكالُ وجبَ القضاءُ، وإنْ ظنَّ أن الفجرَ لمْ يطلعْ فأكلَ واستمرَّ الإشكالُ فلا قضاءَ.
وإنْ طرأَ في أثناءِ اليومِ جنونٌ ولوْ في
(1/117)


لحظة منهُ، أو استغرقَ نهارهُ بالإغماءِ، أوْ طرأَ حيضٌ أوْ نفاسٌ بطلَ الصومُ.
[سننُ الصومِ]:
ويندبُ السُّحورُ وإنْ قلَّ، ولوْ بماءٍ، والأفضلُ تأخيرُهُ ما لمْ يخف الصبحَ.
والأفضلُ تعجيلُ الفطرِ إذا تحققَ الغروبُ، ويُفطرُ على تمراتٍ وِتراً، فإنْ لمْ يجدْ فالماءُ أفضلُ، ويقولُ: اللهمَّ لكَ صمْتُ وعلى رزقكَ أفطرْتُ.
ويندبُ كثرةُ الجودِ، وصلةُ الرحمِ، وكثرةُ تلاوةِ القرآنِ، والاعتكافُ سيما العشر الأواخرُ، وأنْ يُفَطِّرَ الصوَّامَ ولوْ بماءٍ، وتقديمُ غُسْلِ الجنابةِ على الفجرِ، وتركُ الغيبةِ والكذبِ والفحشِ والشهواتِ، والفصدِ والحجامةِ، فإنْ شوتمَ فليقلْ: إني صائمٌ.
وتحرُمُ القُبْلةُ لمنْ حركت شهوتهُ، والوصالُ بأنْ لا يتناولَ في الليلِ شيئاً، فلوْ شربَ ماءً ولوْ جرعةً عندَ السحورِ فلا تحريمَ.
ويكرهُ ذوقُ الطعامِ وعِلْكٌ، وسواكٌ بعدَ الزوالِ، لا كُحْلٌ واستحمامٌ، ويكرهُ لكلِّ أحدٍ صمتُ يومٍ إلى الليلِ.
[قضاءُ الصومِ]:
ومنْ لزمهُ قضاءُ شيءٍ منْ رمضانَ يندبُ لهُ أنْ يقضيَهُ متتابعاً على الفورِ، ولا يجوزُ أنْ يؤخرَ القضاءَ إلى رمضانَ آخرَ بغيرِ عذرٍ، فإنْ أخَّرَ لزمهُ معَ القضاءِ عنْ كلِّ
(1/118)


يومٍ مدُّ طعامٍ، فإنْ أخرَ رمضانينِ فمدانِ، وهكذا يتكررُ بتكررِ السنينَ، ومنْ ماتَ وعليهِ صومٌ تمكَّنَ منْ فعلهِ، أطعمَ عنهُ عنْ كلِّ يومٍ مدَّ طعامٍ.
فصلٌ: [الأيامُ التي يندبُ صومها]:
يندبُ صومُ ستةٍ من شوالٍ، وتندبُ متتابعةً تلي العيدَ، فإنْ فرَّقها جازَ، وتاسوعاءَ وعاشوراءَ، وأيامِ البيضِ في كلِّ شهرٍ: الثالثَ عشَرَ وتالييهِ، والإثنينِ والخميسِ.
وعشْرِ ذي الحجةِ، والأشهُرِ الحُرُمِ، وهيَ أربعةٌ: ذو القعدةِ وذو الحجةِ والمحرَّم ورجب.
وأفضلُ الصومِ بعدَ رمضانَ المحرَّم ثمَّ رجبٌ ثمَّ شعبانَ، وصومُ يومِ عرفةَ إلا للحاجِّ بعرفةَ ففطرُهُ أفضلُ، فإنْ صامَ لمْ يكرهْ لكنَّهُ تركَ الأولى، ويكرهُ صومُ الدهرِ إنْ ضرَّهُ أوْ فوَّتَ حقاً، وإلا لمْ يكرهْ.
[الأيامُ التي يحرمُ صومها]:
ويحرُمُ ولا يصحُّ أصلاً صومُ العيدينِ، وأيامِ التشريقِ وهيَ ثلاثةٌ بعد الأضحى، ويومِ الشكِّ وهوَ أنْ يتحدَّثَ بالرؤيةِ يومَ الثلاثينَ منْ شعبانَ منْ لا يثبُتُ بقولهِ منْ عبيدٍ وفسقةٍ ونسوةٍ، وإلا فليسَ بيومِ شكٍّ، فلا يصحُّ صومهُ عنْ رمضانَ، بلْ عنْ نذرٍ وقضاءٍ، وأما التطوعُ بهِ فإنْ وافقَ عادةً لهُ أوْ وصلهُ بما قبلَ نصفِ شعبان صحَّ، وإلا حرمَ ولمْ
(1/119)


يصحَّ.
ويحرُمُ صومُ ما بعدَ نصفِ شعبانَ إنْ لمْ يوافقْ عادةً ولمْ يصلهُ بما قبلهُ، ومنْ دخلَ في صومٍ وصلاةٍ فرضاً -أداءً كانَ أوْ قضاءً أوْ نذراً- حرمَ قطعُهُما، فإنْ كانَ نفلاً جازَ قطعُهُما.
[الاعتكاف]
فصلٌ: الاعتكافُ سُنَّةٌ في كلِّ وقتٍ، ورمضانُ آكدُ، والعشرةِ الأخيرةِ آكدُ لطلبِ ليلةِ القدرِ، ويمكنُ أنْ تكونَ في جميعِ رمضانَ، وفي العشرةِ الأخيرةِ أرْجى، وفي أوتارهِ أرْجى، وفي الحادي والثالثِ والعشرينَ أرجى، ويُكثِرُ في ليلةِ القدْرِ: "اللهمَّ إنكَ عفوٌّ تحبُ العفوَ فاعفُ عني". وأقلُّ الاعتكافِ لُبْثٌ وإنْ قلَّ، بشرطِ النيةِ وزيادتهِ على أقلِّ الطمأنينةِ، وكونُهُ مسلماً، عاقلاً، صاحياً، خالياً منَ الحدثِ الأكبرِ، وفي المسجدِ ولوْ متردِّداً في جوانبهِ، ولا يكفي مجردُ المرورِ.
والأفضلُ كونُهُ بصوم، وفي الجامعِ، وأنْ لا ينقُصَ عنْ يومٍ.
ولوْ نذرَ الاعتكافَ في المسجدِ الحرامِ أو الأقصى أوْ مسجدِ المدينةِ تَعيَّنَ، لكنْ يجزئُ المسجدُ الحرامُ عنهما، بخلافِ العكسِ، ويجزئُ مسجدُ المدينةِ عن الأقصى، بخلافِ العكسِ، ولوْ عيَّنَ مسجداً غيرَ ذلكَ لمْ يتعيَّنْ.
ويفسُدُ الاعتكافُ بالجماعِ، وبالإنزالِ عنْ مباشرةٍ بشهوةٍ، وإنْ
(1/120)


نذرَ مدةً متتابعةً لزمهُ، فإنْ خرجَ لما لا بدَّ منهُ كأكلٍ وإنْ أمكنَ في المسجدِ، وشربٍ إنْ لمْ يمكنْ فيهِ، وقضاءِ حاجةِ الإنسانِ، والمرضِ والحيضِ ونحوِ ذلكَ لمْ يبطلْ، وإنْ خرجَ منَ المسجدِ لزيارةِ مريضٍ، أوْ صلاةِ جنازةٍ أوْ صلاةِ جمعةٍ، بطَلَ اعتكافُهُ، وإنْ خرجَ لمنارةِ المسجدِ وهي خارجةٌ عنهُ ليؤذِّنَ جازَ إنْ كانَ هوَ المؤذنُ الراتبُ، وإلا فلا، وإنْ خرجَ لما لا بدَّ منهُ فسألَ عنِ المريضِ وهوَ مارٌّ ولمْ يعرِّجْ جازَ، وإنْ عرَّجَ لأجلِهِ بطلَ.
وتحرُمُ المباشرةُ بشهوةٍ.
ويحرُمُ على العبدِ والزوجةِ دونَ إذنِ سيدٍ وزوجٍ.
(1/121)


كتاب الحج
[شروطُ الحجِ والعمرةِ]:
الحجُّ والعمرةُ فرضانِ، ولا يجبانِ في العُمُرُ إلا مرةً واحدةً إلا أنْ يُنذَرا.
وإنما يلزمانِ كلَّ مسلمٍ بالغٍ عاقلٍ حرٍّ مستطيعٍ. فيصحُّ حجُّ العبدِ وغيرِ المستطيعِ، ولا يصحُّ منَ الكافرِ وغيرِ المميزِ استقلالاً، فإنْ أحرمَ الصبيُّ المميزُ بإذنِ الوليِّ، أوْ أحرمَ الوليُّ عن المجنونِ أو الطفلِ الذي لا يميزُ جازَ، ويكلفُهُ الوليُّ ما يقدرُ عليهِ، فيغسلُهُ ويجرِّدهُ عنِ المخيطِ ويلبسُهُ ثيابَ الإحرامِ، ويجنبهُ المحظورَ كالطيبِ ونحوهِ، ويحضرُهُ المشاهدَ ويفعلُ عنهُ ما لا يمكنُ منهُ كالإحرامِ وركعتي الطواف والرميِ.
[الاستطاعة]:
والمستطيعُ اثنانِ: مستطيعٌ بنفسهِ، ومستطيعٌ بغيرهِ.
أما الأولُ [مستطيعٌ بنفسهِ]: فهوَ أنْ يكونَ صحيحاً واجداً للزَّادِ والماءِ بثمنِ مثلهِ في المواضعِ التي جرتِ العادةُ بكونهِ فيها، وراحلةٍ تصلحُ لمثلهِ إنْ كانَ منْ مكةَ على مسافةِ القصْرِ وإنْ أطاقَ المشيَ، وكذا دونها إنْ لمْ يطقْهُ، ومحْمِلاً إنْ شقَّ عليهِ ركوبُ القَتَبِ، وشريكاً يعادلُهُ، يشترطُ ذلك كلهُ ذاهباً وراجعاً، وأنْ يكونَ ذلكَ فاضلاً عنْ نفقةِ عيالهِ وكسوتهمْ
(1/122)


ذهاباً وإياباً، وعن مسكنٍ يناسبُهُ وخادمٍ يليقُ بهِ لمنصبٍ أو عجزٍ، وعنْ دينٍ ولوْ مؤجلاً، وأنْ يجدَ طريقاً آمناً يأمنُ فيها على نفسهِ ومالهِ منْ سبُعٍ وعدوٍّ ولوْ كانَ كافراً أوْ رصدِيّاً يريدُ مالاً وإنْ قلَّ، وإنْ لمْ يجدْ طريقاً إلا في البحرِ لزمهُ إنْ غلبتِ السلامةُ وإلا فلا.
والمرأةُ في كلِّ ذلكَ كالرجلِ، وتزيدُ بأنْ يكونَ معها منْ تأمنُ معهُ على نفسها منْ زوجٍ أوْ محرمٍ أوْ نسوةٍ ثقاتٍ وإنْ لمْ يكنْ معَ أحدٍ منهنَّ محرمٌ.
فمتى وُجدتْ هذه الشروطُ ولمْ يدركْ زمناً يمكنُهُ فيهِ الحجُّ على العادةِ لمْ يلزمهُ، وإنْ أدركَ ذلكَ لزمهُ.
ويُندبُ المبادرةُ بهِ، ولهُ التأخيرُ، لكنْ لوْ ماتَ بعدَ التمكنِ قبلَ فعلهِ ماتَ عاصياً، ووجبَ قضاؤهُ منْ تركتهِ.
وأما [الثاني] المستطيعُ بغيرهِ:
فهوَ منْ لا يقدرُ على الثبوتِ على الراحلةِ لزمانَةٍ أوْ كِبَرٍ ولهُ مالٌ أوْ منْ يطيعهُ ولوْ أجنبياً، فيلزمُهُ أنْ يستأجرَ بمالهِ أوْ يأذنَ للمطيعِ في الحجِّ عنهُ، ويجوزُ أنْ يحجَّ عنهُ تطوعاً أيضاً.
ولا يجوزُ لمنْ عليهِ فرضُ الإسلامِ أنْ يحجَّ عن غيرهِ ولا أنْ يتنفلَ ولا أنْ يحجَّ نذراً ولا قضاءً، فيحجُّ أولاً الفرضَ وبعدهُ القضاءَ إنْ كانَ عليهِ، وبعدهُ النذرَ إنْ كانَ، وبعدهُ النفلَ أو النيابةَ،
(1/123)


فإنْ غيَّرَ هذا الترتيبَ فنوى التطوعَ أوِ النذرَ مثلاً وعليهِ فرضُ الإسلامِ لغَتْ نيتهُ ووقعَ عنْ حجَّةِ الإسلامِ، وقسْ عليهِ.
[كيفيةُ الدخولِ في النسك]:
ويجوزُ الإحرامُ بالحجِّ: إفراداً وتمتُّعاً وقراناً وإطلاقاً، وأفضلُ ذلكَ الإفرادُ ثمَّ التمتعُ ثمَّ القِرانُ ثمَّ الإطلاقُ. أفالإفرادُ: أنْ يحجَّ أولاً منْ ميقاتِ بلدهِ ثمَّ يخرج إلى الحلِّ فيُحرمَ بالعمرةِ.
ب والتمتعُ: أنْ يعتمرَ أولاً منْ ميقاتِ بلدهِ في أشهرِ الحجِّ، ثمَّ يحُجَّ منْ عامهِ منْ مكةَ. ويندبُ أنْ يُحرمَ المتمتعُ -إنْ كانَ واجداً للهديِ- بالحجِّ ثامنَ ذي الحجةِ، وإلا فسادسَهُ في مكةَ منْ بابِ دارِهِ، فيأتي المسجدَ مُحرِماً كالمكيِّ.
ج والقِرانُ: أنْ يُحرمَ بهما معاً منْ ميقاتِ بلدهِ ويقتصرَ على أفعالِ الحجِّ فقطْ، أوْ يُحرمَ بالعمرةِ أولاً ثمَّ قبلَ أنْ يشرعَ في طوافها يُدخلُ عليها الحجَّ في أشهرهِ. ويلزمُ المتمتعَ والقارنَ دمٌ.
ولا يجبُ على القارنِ إلا: أنْ لا يكونَ منْ حاضري المسجدِ الحرامِ، وهمْ أهلُ الحرمِ ومنْ كانَ منهُ على دونِ مسافةِ القصْرِ.
ولا يجبُ على المتمتعِ إلا: أنْ لا يعودَ لإحرامِ الحجِّ منَ الميقاتِ، وأنْ لا يكونَ منْ حاضري المسجدِ الحرامِ.
فإنْ فقدَ الدَّمَ هناكَ أوْ ثمنهُ أوْ
(1/124)


وجدهُ يُباعُ بأكثرَ منْ ثمنِ مثلهِ صامَ ثلاثةَ أيامٍ في الحجِّ، ويُندبُ كونُها قبلَ يومِ عرفةَ، وسبعةٍ إذا رجعَ إلى أهلهِ، وتفوتُ الثلاثةُ بتأخيرها عنْ يومِ عرفةَ، ويجبُ قضاؤُها قبلَ السبعةِ ويفرِّقُ بينها وبين السبعةِ بما كانَ يفرِّقُ في الأداءِ وهوَ مُدَّةُ السيرِ وزيادةُ أربعِ أيامٍ.
د- والإطلاقُ: أنْ ينويَ الدخولَ في النسُكِ من غيرِ أنْ يعينَ حالةَ الإحرامِ أنَّهُ حجٌّ أوْ عمرةٌ أوْ قرانٌ، ثمَّ له بعدَ ذلكَ صرفُهُ كما شاء.
[ميقاتُ الحجِّ والعمرةِ]:
ولا يجوزُ الإحرامُ بالحجِّ إلا في أشهرهِ وهيَ: شوالٌ وذو القَعْدَةِ وعشْرُ ليالٍ منْ ذي الحجَّةِ، فإنْ أحرَمَ بهِ في غيرها انعقدَ عمرةً، وينعقدُ الإحرامُ بالعمرةِ كلَّ وقتٍ إلا للحاجِّ المقيمِ للرميِ بمنى.
فصل: ميقاتُ الحجِّ والعمرةِ:
1 - ذو الحليفةِ لأهلِ المدينةِ.
2 - والجُحْفةُ للشامِ ومصرَ والمغربِ.
3 - ويَلَمْلَمُ لتهامةِ اليمنِ. 4 - وقَرْنٌ لنجدِ اليمنِ ونجدِ الحجازِ.
5 - وذاتُ عِرْقٍ للعراقِ وخراسانَ، والأفضلُ العقيقُ.
ومنْ في مكةَ ولوْ ماراً، ميقاتُ حجِّهِ مكةَ وميقاتُ عمرتِهِ أدنى الحلِّ، والأفضلُ منهُ الجِعْرانةُ ثمَّ التنعيمُ ثمَّ الحُدَيْبيةُ.
ومنْ مسكنهُ أقربُ منَ الميقاتِ إلى مكةَ فميقاتُهُ موضعُهُ.
ومنْ سلكَ طريقاً لا ميقاتَ فيهِ أحرمَ إذا حاذى أقربَ المواقيتِ
(1/125)


إليهِ.
ومنْ دارُهُ أبعدُ منَ الميقاتِ إلى مكةَ، فالأفضلُ أنْ لا يُحرمَ إلا منَ الميقاتِ وقيلَ منْ دارهِ.
ومنْ جاوزَ الميقاتَ وهوَ يريدُ النسُكَ وأحرمَ دونهُ لزمهُ دمٌ، فإنْ عادَ إليهِ مُحرماً قبلَ التلبُّسِ بنسكٍ سقطَ الدَّمُ.
فصل [سننُ ما قبل الإحرامِ]:
إذا أرادَ أنْ يُحرمَ اغتسلَ -ولوْ حائضاً- بنيةِ غُسْلِ الإحرامِ، فإنْ قلَّ ماؤهُ توضأَ فقطْ، وإنْ فقدهُ بالكليةِ تيمَّمَ، ويتنظفُ بحلقِ العانةِ ونتف الإبطِ وقصِّ الشاربِ وإزالةِ الوسخِ بأنْ يغسلَ رأسهُ بسدرٍ ونحوهِ، ثمَّ يتجرَّدُ عن المخيطِ ويلبَسُ إزاراً ورداءً أبيضينِ نظيفينِ، ونعلينِ غيرَ محيطينِ، ويطيِّبُ بدنهُ ولا يطيب ثيابهُ، والمرأةُ في ذلكَ كالرجلِ إلا في نزعِ المخيطِ فإنها لا تنزعُهُ، وتخضِبُ كفيها كليهِما بالحناءِ وتلطخُ بها وجهها، هذا كلُّهُ قبلَ الإحرامِ، ثمَّ يصلي ركعتينِ في غيرِ وقتِ الكراهةِ ينوي بهما سنةَ الإحرامِ، ثمَّ ينهضُ ليشرعَ في السيرِ فإذا شرعَ فيهِ أحرمَ حينئذٍ.
[أركانُ الحجِّ]:
[1 - الركن الأول: النيةُ والإحرامُ]:
والإحرامُ هوَ نيةُ الدخولِ في النسُكِ فينوي بقلبهِ الدخولَ في الحجِّ لله تعالى إنْ كان يريدُ حجّاً، أو العمرةِ إنْ كانَ يريدها، أو الحجِّ والعمرةِ إنْ كانَ يريدُ القرانَ.
ويُندبُ أنْ يتلفظَ بذلكَ أيضاً بلسانهِ ثمَّ يلبي رافعاً
(1/126)


صوتهُ والمرأةُ تخفضُهُ، فيقول: (لبيكَ اللهمَّ لبيكَ، لبيكَ لا شريكَ لكَ لبيكَ، إنَّ الحمدَ والنِّعمةَ لكَ والملكَ، لا شريكَ لكَ). ثمَّ يصلي ويسلمُ على النبيِّ صلى الله عليه وسلمَ بصوتٍ أخفضَ منْ ذلكَ، ويسألُ الله تعالى الجنةَ ويستعيذُ بهِ منَ النارِ، ويكثرُ التلبيةَ في دوامِ إحرامهِ قائماً وقاعداً، وراكباً وماشياً ومضطجعاً، وجُنُباً وحائضاً، ويتأكدُ استحبابُها عندَ تغيرِ الأحوالِ والأزمانِ والأماكنِ، كصُعودٍ وهبوطٍ، وركوبٍ ونزولٍ، واجتماعِ الرفاقٍ، وعندَ السَّحرِ وإقبالِ الليلِ والنهارِ، وأدبارِ الصلاةِ وفي سائرِ المساجدِ، ولا يلبي في طوافهِ وسعيهِ، ولا يقطعُ التلبيةَ بكلامٍ، فإنْ سلمَ عليهِ إنسانٌ ردَّ عليه، وإذا رأى شيئاً فأعجبهُ قالَ: لبيكَ إنَّ العيشَ عيشُ الآخرةِ.
[محرماتُ الإحرامِ]:
وإذا أحرمَ حَرُمَ عليهِ خمسةُ أشياءٍ:
أحدها: لبسُ المخيطِ: القميصِ والسراويلِ والخفِّ والقباءِ وكلِّ مخيطٍ، وما استدارتُهُ كاستدارةِ المخيطِ بنسجٍ وتلبيدٍ ونحوِ ذلكَ.
ويحرمُ عليهِ أيضاً سترُ رأسهِ بمخيطٍ وغيرهِ مما يعدُّ في العادةِ ساتراً، فلا يضرُّهُ الاستظلالُ بالمحمِلِ، وحملُ عِدْلٍ وزنبيلٍ ونحوِ ذلكَ، وليسَ لهُ أنْ يزرَّ رداءهُ ولا أنْ يعقدَهُ ولا أنْ يخلَّهُ بخلالٍ، ولا أنْ يربطَ خيطاً في طرفهِ ثمَّ يربطهُ بالطرفِ الآخرِ، ولهُ عقدُ الإزارِ وشدُّ خيطٍ عليهِ.
الثاني: يحرمُ بعدَ الإحرامِ الطيبُ في الثوبِ والبدنِ
(1/127)


والفراشِ كالمسكِ والكافورِ والزعفرانِ، وشمُّ الوردِ والبنفسجِ والنيلوفرِ وكلِّ مشمومِ طيبٍ، ويحرمُ رشُّ ماءِ الوردِ وماءِ الزهرِ، وكذلكَ الدُّهنُ المطيبُ يحرمُ شمُّهُ ودهْنُ جميعِ بدنهِ بهِ كدهنِ الوردِ والبنفسجِ وما أشبهَ ذلكَ، وإنْ كانَ غيرَ مطيبٍ كزيتٍ وشَيْرَجٍ ونحوهِ، حرمَ أنْ يدهنَ بهِ لحيتهُ ورأسهُ إلا أنْ يكونَ أصلعَ، ولا يحرمُ شمُّهُ ودهْنُ جميع بدنهِ.
ويحرُمُ عليهِ أكلُ طعامٍ فيهِ طيبٌ ظاهرٌ طعمُهُ أو لونهُ أوْ ريحُهُ، كرائحةِ ماءِ الوردِ ولونِ الزعفرانِ وطعمهِ، وطعمُ العنبرِ في الجوارشِ ونحوهِ.
ويحرمُ دواءُ العَرَقِ والكُحْلِ المطيبينِ.
الثالث: يحرمُ [بعدَ الإحرامِ] حلْقُ شعرهِ ونتفه، ولوْ بعضَ شعرةٍ تقصيراً منْ رأسهِ أوْ إبطهِ أوْ عانتهِ أوْ شاربهِ وسائرِ جسدهِ، وتقليمُ أظافرهِ ولوْ بعضَ ظفرٍ.
فإذا تطيبَ أوْ لبسَ أوْ حلقَ ثلاثَ شعراتٍ، أوْ قلَّمَ ثلاثةَ أظفارٍ، أوْ باشرَ فيما دونَ الفرجِ بشهوةٍ، أوْ دَهَنَ، لزمهُ شاةٌ، وهو مخيرٌ: بينَ ذبحها، وبينَ أنْ يُطعمَ ثلاثةَ آصعٍ لكلِّ مسكينٍ نصفُ صاعٍ، وبينَ صومِ ثلاثةِ أيامٍ، فإنْ علمَ أنهُ إنْ سرَّحَ لحيتهُ أوْ خللها انتتف شعرٌ
(1/128)


حرُمَ ذلكَ، فلوْ خلَّلَ أوْ غسلَ وجههُ فرأى في كفهِ شَعْراً وعلمَ أنهُ هوَ الذي نتفهُ حين غسلَ وجههُ أوْ خلَّلَ لزمهُ الفديةُ، وإنْ علمَ أنهُ كانَ قدِ انتتفَ بنفسهِ أوْ لمْ يعلمْ هذا ولا ذاكَ فلا شيءَ عليهِ، وإنِ احتاجَ إلى حلْقِ الشعرِ لمرضٍ أوْ حرٍّ أوْ كثرةِ قملٍ، أو احتاجَ إلى لبسِ المخيطِ للحرِّ أو البردِ، أوْ إلى تغطيةِ الرأسِ فلهُ ذلكَ ويفدي.
الرابعُ: [يحرمُ بعد الإحرامِ] الجِماعُ في الفرجِ والمباشرةُ فيما دونَ الفرجِ بشهوةٍ كالقُبلةِ والمعانقةِ واللمسِ بشهوةٍ.
فإنْ جامعَ عمداً في العمرةِ قبلَ فراغها، أوْ في الحجِّ قبلَ التحللِ الأولِ، فسدَ نسكُهُ، ويجبُ عليهِ:
1 - إتمامهُ كما كانَ يتمُّهُ لوْ لمْ يفسدْهُ.
2 - والقضاءُ على الفورِ وإنْ كانَ الفاسدُ تطوعاً.
3 - والكفارةُ وهيَ بدنةٌ، فإنْ لمْ يجدْ فبقرةٌ، فإنْ لمْ يجدْ فسبعُ شياهٍ، فإنْ لم يجدْ قوَّمَ البدنةَ دراهمَ والدراهمُ طعاماً ويتصدَّقُ بهِ، فإنْ لمْ يجدْ صامَ عنْ كلِّ مدِّ يوماً.
4 - ويجبُ أنْ يُحرمَ بالقضاءِ منْ حيثُ أحرمَ بالأداءِ، فإنْ كانَ أحرمَ بهِ منْ دونِ الميقاتِ أحرمَ بالقضاءِ منَ الميقاتِ.
ويُندبُ أنْ يفارقَ الموطوءةَ في المكانِ الذي وطئَها فيهِ إنْ قضى وهيَ معهُ.
وإنْ جامعَ بعدَ التحللِ الأولِ لمْ يفسدْ وعليهِ شاةٌ.
وإنْ جامعَ ناسياً فلا شيءَ عليهِ.
ويحرُمُ عليهِ أنْ
(1/129)


يتزوجَ أوْ يزوِّجَ فإنْ فعلَ فالعقْدُ باطلٌ، ويكرهُ لهُ أنْ يخطبَ امرأةً وأنْ يشهدَ على نكاحٍ.
الخامس [من محرماتِ الإحرامِ]: يحرُمُ أنْ يصطادَ كلَّ صيدٍ بريٍّ مأكولٍ، أوْ ما تولدُ منْ مأكولٍ وغيرِ مأكولٍ، فإنْ ماتَ في يدهِ أوْ أتلفهُ أوْ أتلفَ جزءاً لزمهُ الجزاءُ، فإنْ كانَ لهُ مثلٌ منَ النَّعمِ وجبَ مثلُهُ من النعمِ، يخيرُ بينهُ وبينَ طعامٍ بقيمتهِ وبينَ صومٍ لكلِّ مدٍّ يومٌ، وإنْ لمْ يكنْ لهُ مثلٌ وجبت القيمةُ، إلا في الحَمَامِ وما عبَّ وهَدَرَ فشاةٌ، ثمَّ إنْ شاءَ يُخرجُ بالقيمةِ طعاماً أوْ يصومُ لكلِّ مدٍّ يوماً.
ويحرمُ ذلكَ كلُّهُ على الرجلِ والمرأةِ، إلا فعلَ التجردِ منَ المخيطِ وكشفِ الرأسِ فيختصُّ وجوبُهُ بالرجلِ، لكن يلزمُ المرأة كشف وجهها، فإنْ أرادتِ السترَ عن الناس، سدلتْ عليهِ شيئاً بشرط أنْ لا يمسَ وجهها، فإنْ مسَّهُ منْ غيرِ اختيارها لمْ يضرّ، وللمحرمِ حكُّ رأسهِ وجسدهِ بأظفارهِ بحيثُ لا يقطعُ شعراً، ولهُ قتلُ القمْلِ، لكنْ يكرهُ أنْ يفلِّيَ المحرمُ رأسهُ، فإنْ قتلَ منها قملةً ندبَ أنْ يتصدَّقَ ولوْ بلقمةٍ.
فصل [سننُ دخولِ مكة]:
إذا أرادَ دخولَ مكةَ اغتسلَ خارجَ مكةَ بنيةِ دخولِ مكةَ، ويدخلُ بالنهارِ منْ بابِ المعلّى من ثنيةِ كَدَاءَ، ماشياً حافياً إنْ لمْ يخفْ نجاسةً.
ولا يؤذي أحداً
(1/130)


بمزاحمةٍ، وليمضِ نحوَ المسجدِ الحرامِ، فإذا وقعَ بصرُهُ على البيتِ رفعَ يديهِ حينئذٍ وهوَ يراهُ منْ خارجِ المسجدِ منْ موضعٍ يقالُ لهُ: رأسُ الرَّدْمِ، فهناكَ يقفُ ويرفعُ يديهِ ويقولُ: "اللهمَّ زدْ هذا البيتَ تشريفاً وتكريماً وتعظيماً ومهابةً، وزدْ منْ شرّفهُ وعظَّمهُ ممَّنْ حجّهُ واعتمرهُ تشريفاً وتكريماً وتعظيماً وبرّاً، اللهمَّ أنتَ السلامُ ومنكَ السلامُ فحيِّنا ربنا بالسلامِ". ويدعو بما أحبَّ منْ أمرِ الدينِ والدنيا، ثمَّ يدخلُ المسجدَ منْ بابِ شَيْبةَ قبلَ أنْ يشتغلَ بحطِّ رحلهِ وكراءِ منزلٍ وغير ذلكَ، بلْ يقفُ بعضُ الرفقةِ عندَ المتاعِ وبعضُهمْ يأتي المسجدَ بالنَّوبة، ويقصدُ الحجرَ الأسودَ ويدنو منهُ بشرط أنْ لا يؤذي أحداً بمزاحمةٍ فيستقبلُهُ، ثمَّ يقبلُهُ بلا صوتٍ ويسجدُ عليهِ، ويكررُ التقبيلَ والسجودَ عليهِ ثلاثاً، ومنْ هنا يقطعُ التلبيةَ، ولا يلبي في طوافٍ ولا سعيٍ حتى يفرُغَ منهما.
[كيفيةُ الطوافِ]:
ثمَّ يضطبعُ فيجعلُ وسطَ ردائهِ تحتَ عاتقِهِ الأيمنِ ويطرحُ طرفيهِ على عاتقِهِ الأيسرِ ويتركُ منكبَهُ الأيمَنَ مكشوفاً، ثمَّ يَشْرَعُ في الطوافِ فيقفُ مستقبلَ البيتِ، ويكونُ الحجرُ الأسودُ منْ جهةِ يمينهِ والركنُ اليمانيُّ منْ جهةِ شمالهِ، ويتأخرُ عنِ الحجرِ قليلاً إلى جهةِ الركنِ اليمانيِّ فينوي الطّوافَ للهِ تعالى، ثمَّ يستلمُ الحَجَرَ بيدهِ ثمَّ يُقَبّلهُ ويسجدُ
(1/131)


عليهِ ثلاثاً كما تقدمَ، ويكبِّرُ ثلاثاً ويقولُ: اللهمَّ إيماناً بكَ وتصديقاً بكتابكَ ووفاءً بعهدكَ واتباعاً لسنةِ نبيكَ محمدٍ صلى الله عليه وسلم.
ثمَّ يمشي إلى جهةِ يمينهِ، ماراً على جميعِ الحَجَرِ الأسودِ بجميعِ بدنهِ وهوَ مستقبلُهُ، فإذا جاوزهُ انفتلَ وجعلَ البيتَ عنْ يسارهِ، ويطوفُ ويقولُ عندَ البابِ: اللهمَّ إنَّ هذا البيتَ بيتكَ والحرم حرمكَ والأمن أمنكَ وهذا مقامُ العائذِ بكَ منَ النارِ.
فإذا وصلَ إلى الركنِ الذي عندَ فتحةِ الحِجْرِ قالَ: اللهمَّ إني أعوذُ بكَ منَ الشكِّ والشركِ والشقاقِ والنفاقِ وسوءِ الأخلاقِ وسوءِ المنقلبِ في المالِ والأهلِ والولدِ. ويقولُ قُبالةَ الميزابِ: اللهمَّ أظلَّني في ظلِّكَ يومَ لا ظلَّ إلا ظلُّكَ، واسقني بكأسِ نبيكَ محمدٍ صلى الله عليه وسلمَ مَشْرَباً هنيئاً لا أظمأُ بعدَهُ أبداً.
ويقولُ بينَ الركنِ الثالثِ واليمانيِّ: اللهمَّ اجعلهُ حجاً مبروراً وسعياً مشكوراً وعمَلاً مقبولاً وتجارةً لنْ تبورَ يا عزيزُ يا غفورُ.
فإذا بلغ الركنَ اليمانيَّ لمْ يُقبّلْهُ بلْ يستلمُهُ ويُقّبِّلُ يدَهُ بعدَ ذلكَ، ولا يُقبّلُ شيئاً من البيتِ إلا الحجرَ الأسودَ، ولا يستلمُ شيئاً إلا اليمانيَّ، وهوَ الذي قبْلَ الحجرِ الأسودِ، ثمَّ إذا وصلَ إلى الحجرِ الأسودِ فقدْ كمُلتْ لهُ طوفةٌ، يفعلُ ذلكَ سبعاً.
ويُسنُّ في الثلاثةِ الأوَلِ منها الإسراعُ، ويُسمى: الرَّمَلَ، وإنما يُشْرعُ هوَ والاضطباعُ في
(1/132)


طوافٍ يعقبُهُ سعيٌ، فإنْ رامَ السعيَ عقبَ طوافِ القدومِ فعلهما، وإنْ رامهُ عقبَ طوافِ الإفاضةِ أخَّرهُما إليهِ.
ويقولُ في رمَلهِ: اللهمَّ اجعلهُ حجاً مبروراً وسعياً مشكوراً وذنباً مغفوراً.
وأنْ يمشيَ على مهلهِ في الأربعةِ الأخيرةِ ويقولُ فيها: ربِّ اغفرْ وارحمْ واعفُ عما تعلمُ إنكَ أنتَ الأعزُّ الأكرمُ، (رَبَّنَا آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةَ) الآية، وهوَ في الأوتارِ آكدُ، ويقبِّلُ الحجرَ الأسودَ في كلِّ طوفةٍ، وكذا يستلمُ اليمانيَّ، وفي الأوتارِ آكدُ، فإنْ عجزَ عنْ تقبيلهِ لزحمةٍ أوْ خافَ أنْ يؤذيَ الناسَ استلمهُ بيدهِ وقبلها، فإنْ عجزَ استلمهُ بعصا وقبّلها، فإنْ عجزَ أشارَ إليهِ بيدهِ.
وهنا دقيقةٌ وهوَ أنَّ بجدارِ البيتِ شاذروانَ كالصُّفَّةِ والزَّلاقةِ وهوَ منَ البيتِ، فعندَ تقبيلِ الحجرِ يكونُ الرأسُ في هواءِ الشاذروانِ فيجبُ أنْ يثبتَ قدميهِ إلى فراغهِ منَ التقبيلِ ويعتدلَ قائماً، ثمَّ بعدَ ذلكَ يمرُّ، فإنْ انتقلتْ قدماهُ إلى جهةِ البابِ وهوَ مطامنٌ في التقبيلِ، ولوْ قدرَ أُصبعٍ، ومضى كما هوَ لمْ تصحَّ تلكَ الطوفةُ، فالاحتياطُ إذا اعتدلَ منَ التقبيلِ أنْ يرجعَ إلى جهةِ يسارهِ -وهيَ جهةُ الركنِ اليمانيِّ- قدراً يتحققُ بهِ أنهُ كما كانَ قبلَ التقبيلِ.
واجباتُ الطوافِ:
1 - سترُ العورةِ، فمتى ظهرَ شيءٌ منها
(1/133)


ولوْ شعرةً منْ شعرِ رأسِ المرأةِ لمْ تصحّ.
2 - وطهارةُ الحدثِ والنجسِ في البدنِ والثوبِ وموضعِ الطوافِ.
3 - وأنْ يطوفَ داخلَ المسجدِ الحرامِ.
4 - وأنْ يستكملَ سبْعَ طوفاتٍ.
5 - وأنْ يبتدئ طوافهُ منَ الحجرِ الأسودِ كما تقدّمَ، وأنْ يمرَّ عليهِ بكلِّ بدنهِ، فإنْ بدأَ منْ غيرهِ لمْ يعتدَّ بذلكَ إلى أنْ يصلَ إليهِ، فمنهُ ابتداءُ طوافهِ.
6 - وأنْ يجعلَ البيتَ على يسارهِ ويمرَّ إلى جهةِ البابِ.
7 - وأنْ يطوفَ خارجَ الحِجْرِ، ولا يدخلَ منْ إحدى فتحتيهِ ويخرُجُ منَ الأخرى. 8 - وأنْ يكونَ كلُّهُ خارجاً عنْ كلِّ البيتِ، فإذا طافَ لا يجعلُ يدهُ في هواءِ الشاذَرْوانِ، فيكونُ ما خرجَ بكلِّهِ عنْ كلِّ البيتِ.
وما سوى ذلكَ سننٌ، كالرَّمَلِ والدعاءِ وغيرهما مما تقدَّمَ.
ثمَ إذا فرغَ من الطوافِ صلى ركعتينِ سنةَ الطوافِ خلفَ المَقامِ، ويزيلُ هيئةَ الاضطباعِ فيهما، ويقرأُ في الأولى، بعدَ الفاتحةِ: (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ) وفي الثانيةِ: (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ)، ثمَّ يدعو خلفَ المَقامِ، ثمَّ يرجعُ فيستلمُ الحجرَ الأسودَ، ثمَّ يخرجُ منْ بابِ الصفا إنْ أرادَ أنْ يسعى الآنَ، ولهُ تأخيرُهُ إلى بعدِ طوافِ الإفاضةِ.
[2 - الركنُ الثاني من أركانِ الحجِّ: السعي]:
يبدأُ منْ أرادَ السعيَ بالصَّفا فيرقى عليها الرجُلُ قدرَ قامةٍ حتى يرى البيتَ منْ بابِ المسجدِ، فيستقبلُ القِبلةَ ويهللُ ويكبرُ ويقول: لا إله إلا
(1/134)


اللهُ وحدهُ لا شريكَ لهُ، لهُ الملكُ ولهُ الحمدُ يحيي ويميتُ بيدهِ الخيرُ وهوَ على كلِّ شيءٍ قديرٌ، لا إلهَ إلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ لهُ، أنجزَ وعدهُ، ونصرَ عبدهُ، وهزمَ الأحزابَ وحدهُ، لا إلهَ إلا اللهُ، ولا نعبدُ إلا إياهُ مخلصينَ لهُ الدينَ ولوْ كرهَ الكافرونَ، ثمَّ يدعو بما أحبَّ، ثمَّ يعيدُ هذا الذكرَ كلَّهُ والدعاءَ ثانياً وثالثاً.
ثمَّ ينزلُ من الصفا فيمشي على هِينَتهِ حتى يبقى بينَهُ وبينَ الميلِ الأخضرِ -المعلَّقِ بركنِ المسجدِ على يسارهِ- قدرَ ستةِ أذرعٍ، فحينئذٍ يسعى سعياً شديداً حتى يتوسطَ بينَ الميلينِ الأخضرينِ اللذينِ أحدهما في ركنِ المسجدِ والآخرُ متصلٌ بدارِ العباسِ، فحينئذٍ يتركُ السعيَ الشديدَ ويمشي على هِينَتهِ حتى يأتيَ المروةَ فيصعدَ عليها، ويأتي بالذكرِ الذي قيلَ على الصفا والدعاءِ، فهذهِ مرةٌ.
ثمَّ ينزلُ فيمشي في موضعِ مشيهِ ويسعى في موضعِ سعيهِ إلى الصفا فهذه مرتانِ، فيعيدُ الذكرَ والدعاءَ، ثمَّ يذهبُ إلى المروةِ، فهذهِ ثلاثةٌ، يفعلُ ذلكَ حتى تكمُلَ سبعاً يختمُ بالمروةِ.
وواجباتُ السعيِ أربعةٌ:
أحدها: أنْ يبدأَ السعيَ بالصفا، فلو بدأ بالمروةِ إلى الصفا لمْ تُحتسبْ هذهِ المرةُ، وحينئذٍ ابتدأ السعيَ.
ثانيها: قطعُ جميعِ المسافةِ، فلوْ تركَ شبراً أوْ أقلَّ
(1/135)


منهُ لمْ يصحَّ، فيجبُ أنْ يلصقَ عقبَهُ بحائطِ الصفا، فإذا انتهى إلى المروةِ ألصقَ رؤوسَ الأصابعِ بحائطِ المروةِ، ثمَّ إذا ابتدأَ الثانيةَ ألصقَ عقبهُ بحائطِ المروةِ ورؤوسَ أصابعهِ بحائطِ الصفا، وهكذا أبداً يُلصقُ عقبَهُ بما يذهبُ منهُ ورؤوسَ أصابعهِ بما يذهبُ إليهِ.
ثالثها: استكمالُ سبعِ مراتٍ، يحسبُ ذهابهُ منَ الصفا إلى المروةِ مرةً، ومنَ المروةِ إلى الصفا مرةً، وهكذا كما تقدمَ، فلوْ شكَّ فيهِ أوْ في أعدادِ الطوفاتِ أخذَ بالأقلِّ وكمَّلَ.
رابعها: أنْ يسعى بعدَ طوافِ الإفاضةِ أو القدومِ بشرطِ أنْ لا يفصلَ بينهما الوقوفُ بعرفة.
[سننُ السعي]:
وسننُهُ ما تقدَّمَ، وأنْ يكونَ على طهارةٍ وسِتارةٍ، وأنْ يقولَ بينهما: ربِّ اغفرْ وارحمْ وتجاوزْ عما تعلمْ إنكَ أنتَ الأعزُّ الأكرمُ.
اللهمَّ ربنا آتنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرةِ حسنةً وقنا عذابَ النّار. ولوْ قرأ القرآنَ فهوَ أفضلُ، ولا يُندبُ تكرارُ السعي. [الخروجُ إلى مِنى]:
فإذا كانَ سابعُ ذي الحجّةِ نُدبَ للإمامِ أنْ يخطبَ خُطبةً واحدةً بعدَ صلاةِ الظهرِ بمكةَ يعلمهُم فيها ما بين أيديهمْ منَ المناسكِ ويأمرُهم بالخروجِ إلى منى منَ الغدِ.
يخرجُ الإمامُ يومَ الثامنِ بعد صلاةِ الصبحِ إلى منى، فيصلي الظهرَ والعصرَ والمغربَ والعِشاءَ بمنى ويبيتُ بها ويصلي
(1/136)


الصبحَ، فإذا طلعت الشمسُ على جبلٍ بمنى يسمى ثبيراً سارَ إلى الموقفِ، وهذا المبيتُ بمنى والإقامةُ بها إلى هذا الوقتِ سنةٌ قدْ تركها كثيرٌ منَ الناسِ، فإنهم يأتون الموقفَ سَحَراً بالشَّمعِ الموقدِ، وهذا الإيقادُ بدعةٌ قبيحةٌ، ويقولُ في مسيرهِ: اللهمَّ إليكَ توجّهتُ، ولوجهكَ الكريمِ أردتُ، فاجعلْ ذنبي مغفوراً، وحجِّي مبروراً، وارحمني ولا تخيبني. ويُكثرُ التلبيةَ والذكرَ والدعاءَ والصلاةَ على النبي محمدٍ صلى الله عليه وسلم.
فإذا وصلوا إلى موضعٍ يسمى نَمِرَةً قبلَ دخولِ عرفةَ نزلوا هناكَ، ولا يدخلونَ حينئذٍ عرفةَ فإذا زالتِ الشمسُ فالسنةُ أنْ يخطبَ الإمامُ خطبتينِ قبلَ الصلاةِ ثمَّ يصلي الظهرَ والعصرَ جَمْعاً وهي سنةٌ قلَّ منْ يفعلُها أيضاً.
[3 - الثالث من الأركان: الوقوفُ بعرفة]:
ثمَّ يدخلونَ عرفةَ بعدَ أن يغتسلوا للوقوفِ ملبينَ خاضعينَ، ويُندبُ أنْ يَقِفَ بارزاً للشمسِ مستقبلَ القِبْلةِ حاضرَ القلبِ فارغاً منَ الدنيا، ويُكثرُ التلبيةَ والصلاةَ على النبي صلى الله عليه وسلمَ والاستغفارَ والدعاءَ والبكاءَ، فثمَّ تُسكبُ العبراتُ وتقالُ العثراتُ وليكنْ أكثرَ قولهِ: لا إله إلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ لهُ، لهُ الملكُ ولهُ الحمدُ وهوَ على كلِّ شيءٍ قديرٌ، وليدعُ لأهلهِ وأصحابهِ ولسائرِ المسلمينَ.
(1/137)


ويندبُ أنْ يقفَ عندَ الصَخَراتِ الكبارِ المفروشةِ أسفلَ جبلِ الرحمةِ، وأما الصعودُ إلى جبلِ الرحمةِ الذي في وسطِ عرفةَ فليسَ في طلوعهِ فضيلةٌ زائدةٌ، فالوقوفُ صحيحٌ في جميعِ تلكَ الأرضِ المتسعةِ وذلكَ الجبلُ جزءٌ منها هو وغيرُهُ سواءٌ، والوقوف عند الصخرات أفضل، والأفضلُ للمرأةِ الجلوسُ في حاشيةِ الناس.
وواجباتُ الوقوفِ:
حضورُ جزءٍ منْ عرفاتٍ عاقلاً، ووقتُهُ: من الزوالِ إلى طلوعِ الفجرِ الثاني منْ يومِ النحرِ. فمنْ حضَرَ بعرفةَ في شيءٍ منْ هذا الوقت وهوَ عاقلٌ ولوْ ماراً في لحظةٍ فقدْ أدركَ الحجَّ، ومنْ فاتهُ ذلكَ أوْ وقفَ مغمىً عليهِ فقدْ فاتهُ الحجُّ، فيتحللُ بفعلِ عمرةٍ: فيطوفُ ويسعى ويحلِقُ وقدْ حلَّ منْ إحرامهِ، ويجبُ عليهِ القضاءُ ودمٌ للفواتِ مثلُ دمِ التمتعِ.
[الإفاضةُ إلى المزدلفةِ]:
فإذا غربت الشمسُ أفاضوا إلى مزدلفةَ ذاكرينَ ملبينَ بسكينةٍ ووقارٍ، بغيرِ مزاحمةٍ وإيذاءٍ وضربِ دوابٍ، فمنْ وجدَ فُرجةً أسرعَ، ويؤخِّرونَ المغربَ، وليجمعوها بمزدلفةَ معَ العِشاءِ فإذا وصلوها نزلوا وصلُّوا وباتوا بها، وصلّوا الصبحَ أولَ الوقتِ، ويأخذونَ منها حصى الجمارِ سبعَ حَصَياتٍ لقطاً لا تكسيراً، والأفضلُ بقدْرِ الباقلا، ويقفونَ بعدَ الصلاةِ على
(1/138)


المشعرِ الحرامِ، وهوَ جبلٌ صغيرٌ في آخرِ المزدلفةِ، ويندبُ صعودهُ إنْ أمكنَ، وهنالكَ بناءٌ محدثٌ يقولُ العوامُّ إنهُ المشعرُ الحرامُ وليس كذلكَ، ويكثرونَ التلبيةَ والدعاء والذكرَ مستقبلينَ القِبلةَ، ويقولونَ: اللهمَّ كما أوقفتنا فيهِ وأريتنا إياهُ فوفقْنا لذكركَ كما هديتنا، واغفرْ لنا وارحمْنا كما وعدتنا بقولِكَ -وقولكَ الحقُّ-: (فَإِذَا أَفَضْتُم مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنتُم مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْضَالِّينَ، ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ). (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ).
[المسيرُ إلى مِنى]:
فإذا أسفرَ جدّاً ساروا إلى منى بوَقارٍ وسكينةٍ قبلَ طلوعِ الشمسِ، فإذا وصلوا إلى وادي مُحَسِّرٍ -وهو بقربِ منى- أسرعوا قدْرَ رميةِ حجرٍ، ثمَّ يسلكونَ الطريقَ الوسطى التي ترميهمْ على جمرةِ العقبةِ فكما يأتونها وهمْ ركبانٌ يرمونَ جمرةَ العقبةِ بتلكَ الحَصَياتِ السبْعِ الملتقطةِ منَ المزدلفةِ.
ومنْ أيِّ مكانٍ التقطَ الحصى جازَ، منَ المزدلفة وغيرها، لكنْ يكرهُ أخذها منَ المرمى والحُشِّ والمسجدِ، وكلما يشرعُ في الرميِ يقطعُ التلبيةَ، ولا يلبي بعدَ ذلكَ.
[الرمي]: وصورةُ الرمي: أنْ يقفَ ببطنِ الوادي بعدَ ارتفاعِ الشمسِ بحيثُ تكونُ عرفةُ عنْ يمينهِ ومكةُ عنْ يسارهِ، ويستقبلُ الجمرةَ، ويرمي حصاةً حصاةً بيمينهِ، ويكبرُ مع كلِّ حصاةٍ
(1/139)


ويرفعُ يديهِ حتى يُرى بياضُ إبطيهِ، ويرمي رمياً، ولا ينقُدُ نقداً.
[4 - الركن الرابع: الحلقُ]:
فإذا فرغَ منَ الرمي ذبحَ هدْياً إنْ كانَ معهُ هديٌ، أوْ ضحَّى، ثمَّ يحلقُ الرجلُ جميعَ رأسهِ، هذا هوَ الأفضلُ، ولهُ أنْ يقتصرَ على ثلاثِ شعراتٍ منهُ أوْ تقصيرها، والأفضلُ في التقصيرِ قدْرُ أنملةٍ منْ جميعِ شعرهِ، وأما المرأةُ فالأفضلُ لها التقصيرُ على هذا الوجه.
ويكونُ حالَ الحلقِ مستقبلَ القِبلةِ، ويبدأُُ الحالقُ بشقهِ الأيمنِ ويدفنُ شعرهُ.
والحلقُ ركنٌ لا يتمُّ الحجُّ إلا بهِ، ويبقى محرماً إلى أن يأتي بهِ، ومنْ لا شعرَ لهُ أمرَّ الموسى على رأسهِ.
[5 - طوافُ الإفاضةِ: وهو الركنُ الخامس من أركان الحج]:
ثمَّ يأتي مكةَ في يومهِ فيطوفُ طوافَ الإفاضةِ، وهوَ ركنٌ لا يتمُّ الحجُّ إلا بهِ، ويبقى محرماً إلى أنْ يأتي بهِ، وصفتُهُ كما تقدَّمَ، ثمَّ يصلي ركعتينِ، ثمَّ إنْ كانَ سعى مع طوافِ القدومِ لمْ يُعِدْهُ، وإلا سعى، ولأنَّ السعيَ أيضاً ركنٌ لا يتمُّ الحجُّ إلا بهِ ويبقى محرماً إلى أنْ يأتيَ بهِ.
واعلمْ أنَّ الرميَ والحلقَ وطوافُ الإفاضةِ الأفضلُ تقديمُ الرميِ ثمَّ الحلقِ ثمَّ الطوافِ، فلوْ أتى بها على غيرِ هذا الترتيبِ فقدَّم وأخَّرَ جازَ، ويدخلُ وقتُ الثلاثةِ بنصفِ الليلِ منْ ليلةِ النحرِ، ويخرجُ وقتُ رمي جمرةِ العقبةِ بخروجِ يومِ النحرِ، ويبقى وقتُ الحلقِ والطوافِ
(1/140)


متراخياً ولوْ إلى سنينَ.
[التحلل]:
وللحجِّ تحللانِ أولٌ وثانٍ:
فالأولُ: يحصلُ باثنينِ منْ هذهِ الثلاثةِ أيها كانَ: إما حلقٌ ورميٌ، أوْ حلقٌ وطوافٌ، أوْ رميٌ وطوافٌ، فمتى فعلَ اثنينِ منها حصلَ التحللُ الأولُ، ويحلُّ بهِ جميعُ ما حرمَ عليهِ ما عدا النساءَ منْ وطءٍ وعقدِ نكاحٍ ومباشرةٍ.
[والثاني]: فإذا فعلَ الثالثَ حلَّ لهُ كلُّ ما حرَّمهُ الإحرامُ. فصل [المبيتُ في مِنى]:
فإذا فرغَ منْ طوافِ الإفاضةِ والسَّعي رجعَ إلى مِنى وباتَ بها، ويلتقطُ في أولِ أيامِ التشريقِ -وهوَ ثاني العيدِ- إحدى وعشرينَ حصاةً منْ منى ويتجنبُ المواضعَ الثلاثةَ المتقدِّمة، فإذا زالتِ الشمسُ رمى بها قبلَ الصلاةِ، فيرمي الجمرةَ الأولى وهيَ التي تلي مسجدَ الخَيفِ، فيصعدُ إليها ويجعلُها عنْ يسارهِ ويستقبلُ القِبلةَ ويرميها بسبعِ حصياتٍ، حصاة حصاة كما تقدم.
ثمَّ ينحرفُ قليلاً بحيثُ لا ينالهُ الحصى الذي يرميهِ الناسُ وتبقى الجمرةُ خلفهُ ويستقبلُ القِبلةَ ويدعو ويذكرُ بخشوعٍ وتضرعٍ بقدْرِ سورةِ البقرةِ.
ثمَّ يأتي الجمرةَ الثانيةَ فيفعلُ كما فعلَ في الأولى، فإذا فرغَ منها وقفَ ودعا قدرَ سورةِ البقرةِ.
ثمَّ يأتي الجمرةَ الثالثةَ وهيَ جمرةُ العقبةِ التي رماها يومَ النحرِ فيرميها بسبعٍ كما فعلَ يومَ النحرِ سواءً، فيستقبلُها
(1/141)


والقِبلةُ عنْ يسارهِ، فإذا فرغَ لا يقفُ عندها ويبيتُ بمنى.
ثمَّ يلتقطُ منَ الغدِ وهوَ ثاني أيامِ التشريقِ إحدى وعشرينَ حصاةً فيرمي بها الجمراتِ الثلاث كلَ جمرةٍ بسبْعٍ بعدَ الزوالِ كما تقدّمَ، ولا يجوزُ رميُ الجمارِ في أيامِ التشريقِ إلا بعدَ الزوالِ.
ويجبُ الترتيبُ فيرمي ما يلي مسجدَ الخَيْفِ أولاً، والوسطى ثانياً، والعقبةَ ثالثاً.
ويندبُ الغُسلُ كلَّ يومٍ للرمي، فإذا رمى في ثاني التشريقِ نُدبَ للإمامِ أنْ يخطبَ خطبةً يعلمهُمْ فيها جوازَ النَفْرِ ويودعُهم، ثمَّ يتخيرُ: بينَ أنْ يتعجلَ في يومينِ، وبينَ أنْ يتأخَّرَ. فإذا أرادَ التعجيلَ فلينفرْ بشرطِ أنْ يرتحلَ منْ منى قبلَ الغروبِ، فإنْ غربتْ وهو بمنى امتنعَ التعجيلُ ولزمهُ المبيتُ ورميُ الغدِ، وإنْ لمْ يرِدِ التعجيلَ باتَ بمنى والتقطَ إحدى وعشرينَ حصاةً يرميها منَ الغدِ بعدَ الزوالِ كما تقدمَ، ثمَّ ينفرُ.
ويُندبُ أنْ ينزلَ المحصَّبُ -وهو عندَ الجبلِ الذي عندَ مقابرِ مكةَ- وقدْ فرغَ منْ حجِّهِ، وإذا أرادَ الاعتمارَ اعتمرَ منَ الحلِّ كما سيأتي في صفةِ العمرةِ.
[طوافُ الوداعِ]:
فإذا أرادَ الرجوعَ إلى بلدهِ أتى مكةَ وطافَ للوداعِ، ثمَّ ركعَ ركعتيهِ ووقفَ في الملتزمِ بينَ الحجرِ الأسودِ والبابِ وقالَ: اللهمَّ إنَّ البيتَ
(1/142)


بيتُكَ والعبد عبدكَ وابنُ عبديكَ، حمَلْتني على ما سخَّرْتَ لي منْ خلقكَ حتى صيّرْتني في بلادكَ وبلَّغتني بنعمتكَ حتى أعنْتَني على قضاءِ مناسككَ، فإنْ كنتَ رضيتَ عني فازددْ عني رضاً، وإلا فمُنَّ الآنَ قبلَ أنْ تنأى عنْ بيتكَ داري ويبعُدَ عنهُ مزاري، هذا أوانُ انصرافي إنْ أذِنتَ لي غيرَ مستبدلٍ بكَ ولا ببيتكَ ولا راغبٍ عنكَ ولا عنْ بيتكَ، اللهمَّ فأصحبني العافيةَ في بدني والعصمةَ في ديني، وأحسنْ منقلبي وارزقني العملَ بطاعتكَ ما أبقيتني، واجمعْ لي خيريِ الدنيا والآخرةِ، إنكَ على كلِّ شيءٍ قديرٌ.
ثمَّ يصلي على النبيِّ صلى اللهُ عليه وسلمَ ثمَّ يمضي على عادتهِ ولا يرجعُ القَهْقَرى.
ثمَّ يعجِّلُ الرحيلَ، فإنْ وقفَ بعد ذلكَ أوْ تشاغلَ بشيءٍ لا تعلُّقَ لهُ بالرحيلِ لمْ يُعتدَّ بطوافهِ عنِ الوداعِ وتلزمُهُ إعادتُهُ، فإنْ تعلقَ بالرحيلِ كشدِّ رحلٍ وشراءِ زادٍ ونحوهِ لمْ يضرَّ.
وللحائضِ أنْ تنفرَ بلا وداعٍ ولا دمَ عليها.
ويندبُ أنْ يدخلَ البيتَ حافياً إنْ لمْ يؤذِ أحداً بمزاحمةٍ ونحوها، فإذا دخلَ مشى تلقاءَ وجههِ حتى يبقى بينهُ وبينَ الجدارِ المقابلِ للبابِ ثلاثةُ أذرعٍ فهناكَ يصلي، فهوَ مصلى النبيِّ صلى اللهُ عليهِ وسلم.
ويكثرُ منَ الاعتمارِ
(1/143)


والنظرِ إلى البيتِ والطوافِ وشربِ ماءِ زمزمَ لما أحبَّ منْ أمرِ الدينِ والدنيا، وأنْ يتضلَّعَ منهُ، ويزورَ المواضعَ الشريفةَ بمكةَ.
ويحرمُ أخذُ شيءٍ من طينِ الكعبةِ وترابِ الحرمِ وأحجارهِ، ولا يستصحبُ شيئاً منَ الأكْوِزَةِ والأباريقِ المعمولةِ منْ حرمِ المدينةِ أيضاً.
فصلٌ [في العُمْرَةِ]:
صفةُ العمرةِ أنْ يُحرمَ بها كما يُحرمُ بالحجِّ، فإنْ كانَ مكياً فمنْ أدنى الحلِّ، وإنْ كان آفاقياً فمنَ الميقاتِ كما تقدمَ، ويحرُمُ بإحرامها جميع ما يحرمُ بإحرامِ الحجِّ.
ثمَّ يدخلُ مكةَ فيطوف طوافَ العمرةِ، ولا يُشْرعُ لها طوافُ قدومٍ، ثمَّ يسعى ثمَّ يحلقُ رأسهُ أوْ يُقصِّرُ وقدْ حلَّ منها. فأركانها: إحرامٌ، وطوافٌ، وسعيٌ، وحلقٌ.
وأركانُ الحجِّ: هذهِ الأربعةُ، والوقوفُ.
[واجباتُ الحجِّ]:
وواجباته: كونُ الإحرامِ منَ الميقاتِ، ورميُ الجمارِ، والمبيتُ بمزدلفةَ ولياليَ مِنى، وطوافُ الوداعِ.
وما عدا ذلك سننٌ.
فإنْ تركَ ركناً لمْ يحلَّ منْ إحرامهِ حتى يأتيَ بهِ، ومنْ تركَ واجباً لزمَهُ دمٌ، ومنْ تركَ سنةً لمْ يلزمهُ شيءٌ.
[الإحصار]:
ومنْ أحصرهُ عدوٌّ عنْ مكةَ ولمْ يكنْ لهُ طريقٌ آخرُ تحللَ، بأنْ ينويَ التحللَ ويحلقَ رأسهُ ويريقُ دماً مكانهُ إنْ وجدهُ، وإلا أخرجَ طعاماً بقيمتهِ، وإنْ عجزَ صامَ لكِّل مدٍّ يوماً ولا قضاءَ.
(1/144)


[زيارةُ قبرِ النبيِّ صلّى اللهُ عليهِ وسلمَ ومسجدهُ]:
ويُندبُ إذا فرغَ منْ حجهِ زيارةُ قبرِ النبيِّ صلى اللهُ عليه وسلمَ، فيصلي تحيةَ مسجدهِ، ثمَّ يأتي القبرَ الشريفَ المكرَّمَ فيستدبرُ القِبْلةَ ويجعلُ قنديلَ القِبلةِ الذي عندَ رأسِ القبرِ على رأسهِ، ويطرقُ رأسهُ ويستحضرُ الهيبةَ والخشوعَ، ثمَّ يسلمُ ويصلي على النبيِّ صلى الله عليه وسلم بصوتٍ متوسطٍ، ويدعو بما أحبَّ، ثمَّ يتأخرُ إلى جهةِ يمينهِ قدْرَ ذراعٍ فيسلمُ على أبي بكرٍ، ثمَّ يتأخرُ قدرَ ذراعٍ فيسلمُ على عمرَ رضي اللهُ عنهُما، ثمَّ يرجعُ إلى موقفهِ الأولِ ويكثرُ الدعاءَ والتوسلَ والصلاةَ عليهِ، ثمَّ يدعو عندَ المنبرِ، وفي الروضةِ.
ولا يجوزُ الطوافُ بالقبرِ، ويُكرهُ إلصاقُ الظهرِ والبطنِ بهِ، ولا يُقَبِّلُهُ ولا يستلمُهُ.
ومنْ أقبحِ البدعِ أكلُ التمرِ في الروضةِ.
ويزورُ البقيعَ، فإذا أرادَ الرحيلَ ودَّعَ المسجدَ بركعتينِ، والقبرَ الكريمَ بالزيارةِ والدعاءِ.
واللهُ تعالى أعلمُ.

بابُ الأضحية
هيَ سنةٌ مؤكدةٌ، يندبُ لمنْ أرادها أنْ لا يحلقَ شعرَهُ ولا يُقلِّمَ ظفرَهُ في عَشْرِ ذي الحجةِ حتى يضحِّي، ويدخُلُ وقتُها إذا طلعتِ الشمسُ ومضى قدْرُ صلاةِ العيدِ والخُطبتينِ، ويخرجُ بخروجِ أيامِ التشريقِ، وهي ثلاثةٌ
(1/145)


بعد العيدِ.
ولا تجوزُ إلا بإبلٍِ أوْ بقرٍ أوْ غنمٍ، وأقلُّ سِنِّهِ في الإبلِ خمسُ سنينَ ودخلَ في السادسةِ، وفي البقرِ والمعزِ سنتانِ ودخلتْ في الثالثةِ، وفي الضأنِ سنةٌ ودخلَ في الثانيةِ، وتجزئ البَدَنةُ عنْ سبعةٍ والبقرةُ عنْ سبعةٍ، ولا تجزئ شاةٌ إلا عنْ واحدٍ، وشاةٌ أفضلُ منْ شركةٍ في بَدَنةٍ، وأفضلها البَدَنةُ، ثمَّ البقرةُ، ثمَّ الضأنُ، ثمَّ المعزُ، وأفضلُها البيضاءُ، ثمَّ الصفراءُ، ثمَّ البلقاءُ، ثمَّ السوداءُ.
وتشترطُ سلامةُ الأضحية عن العيوبِ التي تنقص اللحمَ، فلا تجزئ العرجاءُ والعوراءُ والمريضةُ، فإنْ قلَّتْ هذهِ الأشياءُ جازَ، ولا تجزئ العجفاءُ والمجنونةُ والجرباءُ والتي قُطعَ بعضُ أذنيها وأُبينَ وإنْ قلَّ، أوْ قطعةٌ منْ فخذها ونحوهِ إنْ كانتْ كبيرةً، وتجزئ مشروطةُ الأذنِ ومكسورةُ كلِّ القَرْنِ أوْ بعضِهِ.
والأفضلُ أنْ يذبحَ بنفسهِ فإنْ لمْ يحسنْ فليحضُرْ، ويجبُ أنْ ينوي عندَ الذبحِ، ويندبُ أنْ يأكلَ الثلثَ، ويهديَ الثلثَ، ويتصدقَ بالثلثِ.
ويجبُ التصدُّقُ بشيءٍ وإنْ قلَّ، والجلدُ يتصدَّقُ بهِ، أوْ ينتفعُ بهِ في البيتِ، ولا يجوزُ بيعهُ ولا بيعُ شيءٍ منَ اللحمِ، ولا يجوزُ لهُ الأكلُ منَ الأضحيةِ المنذورةِ.
فصل [في العقيقة]:
يندبُ لمنْ وُلِدَ لهُ ولدٌ أنْ يحلقَ رأسهُ يومَ
(1/146)


السابعِ ويتصدَّقَ بوزنِ شعرهِ ذهباً أوْ فضةً، وأنْ يؤذنَ في أذنهِ اليمنى ويقيمَ في أذنهِ اليسرى، ثمَّ إنْ كانَ غلاماً ذُبحَ عنهُ شاتانِ تُجزيانِ في الأضحيةِ، وإنْ كانتْ جاريةً فشاةٌ، وتُطبخُ بحلوٍ، ولا يكسرُ العظمُ، ويفرِّقُ على الفقراءِ، ويسميهِ باسمٍ حسنٍ كمحمدٍ وعبدِ الرحمن.

بابُ الأطعمةِ
يؤكلُ بقرُ الوحشِ وحمارُ الوحشِ والضَّبْعُ والثعلبُ والأرنبُ والقنفذُ والوبرُ والظبيُ والضبُّ والنعامةُ والخيلُ.
ولا يؤكلُ السِّنَّوْرُ، ولا الحشراتُ المستخبثةُ كالنملِ والذبابِ ونحوهما، ولا ما يتقوى بنابهِ كالأسدِ والفهدِ والنمرِ والذئبِ والدبِّ والقردِ ونحوها، وما يصطادُ بالمخلبِ كالصقرِ والشاهينِ والحِدَأةِ والغرابِ، إلا غرابَ الزرعِ فيؤكلُ.
وما تولَّدَ من مأكولٍ وغيرِ مأكولٍ لا يؤكلُ كالبغلِ واليعفورِ.
ويؤكلُ كلُّ صيدِ البحرِ إلا الضفدعَ والتمساحَ.
وكلُّ ما ضرَّ أكلُهُ كالسمِّ والزجاجِ والترابِ، أوْ كانَ نجساً، أوْ طاهراً مستقذراً كالبصاقِ والمنيِّ، لا يحلُّ أكلُهُ، فإن اضطرَّ إلى أكلِ الميتةِ أكلَ منها ما يسدُّ رمقهُ، فإنْ وجدَ ميتةً وطعامَ الغيرِ، أوْ ميتةً وصيداً وهوَ مُحرِمٌ، أكلَ الميتةَ.
(1/147)


بابُ الصيدِ والذبائحِ
لا يحلُّ الحيوانُ إلا بالذكاةِ، إلا السمكَ والجرادَ فيحلُّ ميتتُهما، ويحرمُ ما ذبحهُ مجوسيٌّ ومرتدٌّ وعابدُ وثنٍ ونصرانيُّ العربِ، ويجوزُ الذبحُ بكلِّ ما لهُ حدٌّ يقطعُ إلا السنَّ والعظمَ والظفرَ منَ الآدميِّ وغيرهِ، متصلاً أوْ منفصلاً.
وما قدر على ذبحهِ اشترطَ قطعُ حلقومهِ ومريئهِ، ويندبُ أنْ يوجَّهَ إلى القِبلةِ، وأنْ يُحِدَّ الشفرةَ ويسرعَ إمرارها، ويسمي اللهَ تعالى، ويصلي على النبيِّ صلى اللهُ عليه وسلمَ، ويقطعَ الأوداجَ كلَّها، وأنْ ينحرَ الإبلَ قائمةً معقَّلةً، ويذبحَ ما عداها مضطجعةً على جنبها الأيسرِ، ولا يكسرَ عنقها ولا يسلخها حتى تموتَ.
ويشترطُ أنْ لا يرفعَ يدَهُ في أثناءِ الذبحِ، فإنْ رفعها قبلَ تمامِ قطعِ الحلقومِ والمرئِ ثمَّ قطعهما لمْ تحلَّ.
وأما الصيدُ: فحيثُ أصابهُ السهمُ أوِ الجارحةُ المعلَّمةُ فماتَ قبلَ القدرةِ على ذبحهِ حلَّ إذا أرسلهُ بصيرٌ تحلُّ ذكاتهُ، ولمْ يمت الصيدُ بثقلِ السهمِ بلْ بحدهِ، ولا أكلتِ الجارحةُ منهُ شيئاً، فإنْ ماتَ بثقلِ الجارحةِ حلَّ، وإنْ أصابهُ السهمُ فوقعَ في ماءٍ أوْ على جبلٍ ثمَّ تردى منهُ فماتَ، أوْ غابَ عنهُ بعدَ أنْ جرحَ ثمَّ وجدهُ ميتاً لمْ يحلَّ، وإذا ندَّ بعيرٌ ونحوهُ وتعذرَ ردُّهُ، أوْ تردى في
(1/148)


بئرٍ وتعذرَ إخراجُهُ فرماهُ بحديدةٍ في أيِّ موضعٍ كانَ منْ بدنهِ فماتَ حلَّ.
واللهُ أعلمُ.

بابُ النذرِ
لا يصحُّ النذرُ إلا منْ مسلمٍ مكلفٍ في قربةٍ، باللفظِ وهوَ: للهِ عليَّ كذا، أوْ عليَّ كذا، فيلزمهُ الإتيانُ بهِ.
ومنْ علَّقَ النذرَ على شيءٍ فقالَ: إنْ شفى اللهُ مريضي فعليَّ كذا، لزمهُ الوفاءُ بما التزمهُ عندَ الشفاءِ.
ومنْ نذرَ على وجهِ اللَّجاجِِ والغضبِ فقالَ: إنْ كلمتُ زيداً فعليَّ كذا، فهوَ بالخيارِ إذا كلمهُ بيَن الوفاءِ وبينَ كفارةِ اليمينِ.
فإنْ نذر الحجَّ راكباً فحجَّ ماشياً أوْ نذرَ الحجَّ ماشياً فحجَّ راكباً أجزأهُ وعليهِ دمٌ، وإنْ نذرَ المُضيَّ إلى الكعبةِ أوْ مسجدِ المدينةِ أو الأقصى لزمهُ ذلكَ، ويجبُ أنْ يقصدَ الكعبةَ بحجٍّ أوْ عمرةٍ، وأنْ يصليَ في مسجدِ المدينةِ أوِ الأقصى أوْ يعتكفَ، وإنْ نذرَ المضيَّ إلى غيرها منَ المساجدِ لمْ يلزمهُ.
ومنْ نذرَ صومَ سنةٍ بعينها لمْ يقضِ أيامَ العيدِ والتشريقِ ورمضانَ وأيامَ الحيضِ والنفاسِ.
ومنْ نذرَ صلاةًَ لزمهُ ركعتانِ، أوْ عتقاً أجزأهُ ما يقعُ عليهِ الاسمُ.
(1/149)


قسمُ المعاملات

كتابُ البيعِ
[أركانُ البيعِ]:
[1 - الصيغة]:
لا يصحُّ البيعُ إلا بالإيجابِ والقَبولِ، فالإيجابُ: هوَ قولُ البائعِ أوْ وكيلهِ: بعتُكَ، أوْ ملَّكتُكَ، والقَبولُ: هوِ قولُ المشتري أوْ وكيلهِ: اشتريتُ، أوْ تملَّكتُ، أوْ قبلتُ.
ويجوزُ أنْ يتقدَّمَ لفظُ المشتري مثل أنْ يقولَ: اشتريتُ بكذا، فيقولُ: بعتكَ، ويجوزُ أنْ يقولَ: بِعني بكذا، فيقولُ: بعتُكَ، فهذهِ صرائحُ.
وينعقدُ أيضاً بالكنايةِ معَ النيةِ، مثل: خذهُ بكذا، أوْ جعلتُهُ لك بكذا، وينوي بذلكَ البيعَ، فيقبلُ، فإنْ لمْ ينوِ بهِ البيعَ فليسَ بشيءٍ.
ويجبُ ألا يطولَ الفصل بينَ الإيجابِ والقَبولِ عُرْفاً، وإشارةُ الأخرسِ كلفظِ الناطقِ.
[2 - المتبايعان]: وشروطُ المتبايعَيْنِ: البلوغُ، والعقلُ، وعدمُ الرقِّ، وعدمُ الحَجْرِ، ويشترطُ أيضاً عدمُ الإكراهِ بغيرِ حقٍّ، والإسلامُ فيمَنْ يُشترى لهُ مُصحفٌ، أوْ مسلمٌ لا يَعتِقُ عليهِ، وعدمُ الحِرابةِ في شراءِ السلاحِ.
فإنْ أذنَ السيدُ لعبدهِ البالغِ في التجارةِ تصرَّفَ بحسبِ الإذنِ، ولا يجوزُ لأحدٍ معاملةُ عبدٍ إلا أنْ يعلمَ أنَّ سيدهُ أَذِنَ لهُ، ببينةٍ، أوْ بقولِ السيدِ، ولا يُقبلُ فيهِ قولُ العبدِ، والعبدُ لا يملكُ شيئاً وإنْ ملَّكهُ سيدُهُ.
[حكمُ المبيعِ في مدةِ الخيار]:
وإذا انعقدَ
(1/150)


البيعُ ثبتَ لكلٍّ منَ البائعِ والمشتري خيارُ المجلسِ، ما لمْ يتفرقا، أوْ يختارا الإمضاءَ جميعاً، أوْ يفسخْهُ أحدهُما.
ولكلٍّ منَ البائعِ والمشتري شرطُ الخيارِ في البيعِ ثلاثةُ أيامٍ فما دونها، لهما أوْ لأحدهما، إلا إذا كانَ العقدُ مما يَحْرُمُ فيهِ التفرُّقُ قبلَ القبضِ، كما في الربا والسَّلَم.
وإذا كانَ الخيارُ للبائعِ وحدهُ فالمبيعُ في زمنِ الخيارِ مِلكُهُ، وإذا كانَ للمشتري وحدهُ فالمبيعُ في زمنِ الخيارِ مِلكُهُ، وإنْ كانَ لهما فالمِلكُ فيهِ موقوفٌ، إنْ تمَّ البيعُ تبينَ أنهُ كانَ مِلكاً للمشتري، وإنْ فسخَ البيعُ تبينَ أنهُ كانَ مِلكَ البائعِ.
فصلٌ [في شروطِ المبيعِ]:
للمبيعِ شروطٌ خمسةٌ:
أنْ يكونَ طاهراً، منتفَعاً بهِ، مقدوراً على تسليمهِ، مملوكاً للعاقدِ، أو لمن ناب العاقد عنه، معلوماً.
فلا يصحُّ بيعُ عينٍ نجسةٍ كالكلبِ، أوْ متنجسةٍ ولمْ يمكنْ تطهيرها، كاللبنِ والدهنِ مثلاً، فإنْ أمكنَ كثوبٍ متنجسٍ جازَ.
ولا يصحُّ بيعُ ما لا ينتفعُ بهِ، كالحشراتِ، وحبةِ حنطةٍ، وآلاتِ الملاهي المحرَّمةِ.
ولا بيعُ ما لا يقدرُ على تسليمهِ، كعبدٍ آبقٍ، وطيرٍ طائرٍ، ومغصوبٍ، لكنْ إنْ باعَ المغصوبَ ممنْ يقدرُ على انتزاعهِ جازَ، فإنْ تبينَ عجزهُ فلهُ الخيارُ، ولا بيعُ نصفٍ معيَّنٍ منْ إناءٍ، أوْ سيفٍ، أوْ ثوبٍ، وكذا كلُّ ما تنقصُ قيمتُهُ بالقطعِ والكسرِ، فإنْ لمْ تنقصْ
(1/151)


كثوبٍ ثخينٍ جازَ. ولا يجوزُ بيعُ المرهونِ دونَ إذنِ المرتهِنِ، ولا بيعُ الفُضوليِّ وهوَ أنْ يبيعَ مالَ غيرهِ بغيرِ ولايةٍ ولا وكالةٍ.
ولا بيعُ ما لمْ يُعيَّنْ كأحدِ العبدينِ، ولا بيعُ عَيٍن غائبةٍ عن العَينِ، مثلُ بعتُكَ الثوبَ المرْوزيِّ الذي في كُمِّي، والفرسَ الأدهمَ الذي في اصطبلي، فإنْ كانَ المشتري رآها قبلَ ذلكَ وهيَ مما لا يتغيرُ في مدةِ الغَيْبةِ غالباً جازَ.
ولوْ باعَ عُرْمةَ حنطةٍ ونحوها وهيَ مشاهدةٌ ولمْ يُعلمْ كيلُها، أوْ باعَ شيئاً بعُرْمةِ فضةٍ مشاهدةٍ ولمْ يُعلمْ وزنها جازَ، وتكفي الرؤيةُ.
ولا يصحُّ بيعُ الأعمى ولا شراؤهُ، وطريقُهُ التوكيلُ، ويصحُّ سلَمُهُ بعِوَضٍ في ذمَّتهِ.
فصلٌ في الربا:
لا يحرمُ الرِّبا إلا في المطعوماتِ، والذهبِ والفضَّةِ، والعلَّةُ في تحريمِ المطعوماتِ الطُّعمُ، وفي تحريمِ الذهب والفضة كونُهُما قيمَ الأشياء، فإذا بيعَ مطعومٌ بمطعومٍ منْ جنسهِ، كَبُرٍّ بِبُرٍّ اشتُرِطَ ثلاثةُ أمورٍ: المماثلةُ في القدْرِ، والتقابضُ قبلَ التفرُّقِ، والحُلولُ.
وإنْ كانَ منْ غيرِ جنسهِ، كَبُرٍّ بشعيرٍ اشتُرِطَ شرطانِ: الحُلولُ، والتقابضُ قبلَ التفرُّقِ، وجاز التفاضلُ.
وإنْ باعَ نقداً بجنسهِ، كذهبٍ بذهبٍ اشتُرطَ الشروطُ الثلاثةُ المتقدِّمةُ، وإنْ باعَ بغيرِ
(1/152)


جنسهِ، كذهبٍ بفضَّةٍ اشتُرطَ الشرطانِ، وجازَ التفاضُلُ، وإنْ باعَ مطعوماً بنقدٍ صحَّ مطلقاً.
ويعتبرُ التماثُلُ في المَكيلِ بالكيلِ، وفي الموزونِ بالوزنِ، فلا يصحُّ رطلُ بُرٍّ برطلِ بُرٍّ إذا كانَ يتفاوتُ بالكيلِ، ويجوزُ إردبٌّ بإردبٍّ وإنْ تفاوتَ الوزنُ، والمرادُ ما كانَ يوزنُ أوْ يكالُ في الحجازِ في عهدِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلمَ، فإنْ جُهلَ حالُهُ اعتُبرَ ببلدِ البيعِ، وإنْ كانَ مما لا يوزنُ ولا يُكالُ في العادةِ ولا جفافَ لهُ، كالقثَّاءِ والسفرجَلِ والأُترجِّ لمْ يصحَّ بيعُ بعضهِ ببعضٍ، فلوْ باعَ بُرَّاً ببُرٍّ جِزافاً لمْ يصحَّ، وإنْ ظهرَ منْ بعدُ تساويهما كيلاً. وإنما تُعتبرُ المماثلةُ حالةَ الكمالِ، فحالةُ كمالِ الثمرةِ الجفافُ، فلا يصحُّ رُطبٌ برُطبٍ، أوْ رُطبٌ بتمرٍ، وكذا عنبٌ بعنبٍ، أوْ بزبيبٍ، وإنْ تماثلا، فإنْ لمْ يجئ منهُ تمرٌ ولا زبيبٌ لمْ يصحَّ بيعُ بعضهِ ببعضٍ.
ولا يباعُ دقيقٌ بدقيقٍ، ولا ببُرٍّ، ولا خُبزٌ بخُبزٍ، ولا خالصٌ بمَشوبٍ، ولا مطبوخٌ بنَيءٍ، ولا بمطبوخٍ إلا أنْ يجفَّ الطبخُ، كتمييزِ العسلِ والسمنِ.
[قاعدةُ مدِّ عجوة]:
ولا يجوزُ مدُّ عجوةٍ ودرهمٌ بدرهمينِ، أوْ بمدَّينِ، ولا مدٌّ ودرهمٌ بمدٍّ ودرهم، ولا مدٌّ وثوبٌ بمدَّينِ، ولا درهمٌ وثوبٌ بدرهمينِ.
ولا يصحُّ بيعُ اللحمِ بالحيوانِ.
(1/153)


فصلٌ [في البيوعِ الفاسدة]:
لا يصحُّ بيعُ نَتاجِ النَتاجِ، كقولهِ: إذا وَلَدَت ناقتي وولَد ولدُها فقدْ بعتُكَ الولدُ، ولا أنْ يبيعَ شيئاً ويؤجِّلَ الثمنَ بذلكَ، ولا بيعُ المُلامَسةِ، والمنابذةِ، والحصاةِ، ولا بيعتينِ في بيعةٍ كقولكَ: بعتُكَ هذا بألفٍ نقداً، أوْ بألفينِ مؤجلاً، أوْ بعتُكَ ثوبي بألفٍ على أنْ تبيعني عبدكَ بخمسمئةٍ، ولا بيعٌ وشرطٌ، مثل: بعتُكَ بشرط أنْ تقرضني مئة، ويصحُّ بيعٌ وشرطٌ في صورٍ وهي:
1 - شرطُ الأجلِ في الثمنِ بشرطِ أن يكونَ الأجلُ معلوماً.
2 - وأنْ يرهنَ بهِ رهناً، أوْ يضمنَهُ بهِ زيدٌ.
3 - أوْ أنْ يعتِقَ العبدَ المبيعَ.
4 - أوْ شرَطَ ما يقتضيهِ العقدُ، كالردِّ بالعيبِ ونحوهِ.
فإنْ باعَ وشرطَ البراءةَ منَ العيوبِ صحَّ، وبَرئ منْ كلِّ عيبٍ باطنٍ في الحيوانِ لمْ يعلمْ بهِ البائعُ، ولا يبرَأُ مما سواهُ.
ولا يصحُّ بيعُ العُرْبونِ، بأنْ يشتري سلعةً ويدفعَ درهماً على أنهُ إنْ رضيَ بالسِّلعةِ فالدِّرهمُ منَ الثمنِ، وإلا فهوَ للبائعِ مجاناً.
ولوْ فرَّقَ بينَ الجاريةِ وولدها قبلَ سنِّ التمييزِ ببيعٍ أوْ هبةٍ بطلَ العقدُ، وبعدَ التمييزِ يصحُّ.
[البيوعُ المحرَّمة]: يحرم [البيع في صور]:
1 - أنْ يبيعَ
(1/154)


حاضرٌ لبادٍ، بأنْ يقولَ الحاضرُ للبدويِّ الذي قدمَ بسلعةٍ، وهيَ مما يُحتاجُ إليها في البلدِ: لا تبعِ الآنَ حتى أبيعَها لكَ قليلاً قليلاً بثمنٍ غالٍ.
2 - وأنْ يتلقَّى الركبانَ فيخبرَهُمْ بكسادِ ما معهمْ ليشتريَ منهمْ بغَبْنٍ.
3 - وأنْ يسُومَ على سَوْمِ أخيهِ، بأنْ يزيدَ في السِّلعةِ بعدَ استقرارِ الثمنِ.
4 - وأنْ يبيعَ على بيعِ أخيهِ، بأنْ يقولَ للمشتري: افسخِ البيعَ وأنا أبيعُكَ بأرخصَ منهُ.
5 - وأنْ ينجُشَ بأنْ يزيدَ في السلعةِ وهوَ غير راغبٍ فيها ليغرَّ بها غيرَهُ.
6 - وأنْ يبيعَ العنَبَ ممنْ يتخذهُ خمراً.
فإنْ باعَ في هذهِ الصُّورِ كلِّها المحرَّمةِ صحَّ البيعُ.
[تفريقُ الصفقةِ وتعددها]:
وإنْ جمعَ في عقدٍ واحدٍ ما يجوزُ وما لا يجوزُ، مثلَ عبدِهِ وعبدِ غيرهِ بغيرِ إذنهِ، أوْ خمرٍ وخلٍّ، صحَّ فيما يجوزُ بقِسطِهِ منَ الثمنِ، وبطُلَ فيما لا يجوزُ، وللمشتري الخيارُ إنْ جهلَ الحالَ.
وإنْ جمعَ في عقدينِ مختلفي الحكمَ، مثلَ بعتُكَ عبدي وآجَرتُكَ داري سنةً بكذا، أوْ زوجتُكَ ابنتي وبعتُكَ عبدَها بكذا، صحَّ وقُسِّطَ العِوضُ عليهما.
فصل [ردُّ المبيعِ بالعيبِ]:
منْ علمَ بالسِّلعةِ عيباً لزمهُ أنْ يبينَهُ، فإنْ لمْ يُبَيِّنْ فقدْ غشَّ، والبيعُ صحيحٌ، فإذا اطَّلعَ المشتري على عيبٍ كانَ عندَ البائعِ فلهُ الردُّ.
وضابطُهُ: ما نقصَ العينَ أو القيمةَ نُقصاناً يفوتُ بهِ غرضٌ صحيحٌ، والغالبُ في مثلِ ذلكَ المبيعِ عدمُهُ.
فيُردُّ إنْ بانَ العبدُ خِصيَّاً، أوْ سارقاً، أوْ
(1/155)


يبولُ في الفراشِ وهوَ كبيرٌ، فلوِ اطلعَ على العيبِ بعدَ تلفِ المبيعِ تعيَّنَ الأرشُ، أوْ بعدَ زوالِ المِلكِ عنهُ، ببيعٍ أوْ غيرهِ لمْ يكنْ لهُ طلبُ الأرشِ الآنَ، فإنْ رجعَ إليهِ بعدَ ذلكَ فلهُ الردُّ.
وإنْ حدثَ عندَ المشتري عيبٌ آخرُ، مثلُ أنْ يفتضَّ البِكْرَ، تعيَّنَ الأرشُ وامتنعَ الردُّ، فإنْ رضيَ البائعُ بالعيبِ لمْ يكنْ للمشتري طلبُ الأرشِ، فإنْ كانَ العيبُ الحادثُ لا يُعرفُ العيبُ القديمُ إلا بهِ، ككسرٍ البِطِّيخِ والبيضِ ونحوهما لمْ يمنعِ الردَّ، فإنْ زادَ على ما يمكنُ المعرفةُ بهِ فلا ردَّ.
وشرْطُ الردِّ أنْ يكونَ على الفورِ، ويُشهِدَ في طريقهِ أنَّهُ فسخَ، فلوْ عرفَ العيبَ وهوَ يصلي، أوْ يأكلُ، أوْ يقضي حاجةً، أوْ ليلاً، فلهُ التأخيرُ إلى زوالِ العارضِ، بشرطِ تركِ الاستعمالِ والانتفاعِ، فإنْ أخَّرَ متمكناً، سقطَ الردُّ والأرشُ.
[حكم التصريةِ]:
وتحرُمُ التصريةُ، وهي أنْ يشُدَّ البائعُ أخلافَ البهيمةِ ويترُكَ حلْبها أياماً ليغرَّ غيرَهُ بكثرةِ اللبنِ، فإذا اطلعَ عليهِ المشتري فلهُ الردُّ مطلقاً، فإنْ كانَ بعدَ
(1/156)


حلْبِها، وتلِفَ اللبنُ، ردَّ صاعاً منْ تمرٍِ بدل اللبنِ إنْ كانَ الجاريةِ، وتسويدُ الشَّعْرِ، ونحوهما، ويلزمُ البائعَ أنْ يخبرَ في بيعِ المرابحةِ بالعيبِ الذي حدَثَ عندَهُ، فيقولُ: اشتريتُهُ بعشرةٍ مثلاً لكنْ حدثَ عندي فيهِ العيبُ الفلانيُّ، ويبين الأجلَ أيضاً.
فصلٌ [في بيعِ الثمارِ]:
بيعُ الثمرةِ وحدَها على الشجرةِ إنْ كانَ قبلَ بدوِّ الصلاحِ لم يجزْ إلا بشرطِ القطعِ، وإنْ كانَ بعدَهُ جازَ مطلقاً، وبدوِّ الصلاحِ هوَ: أنْ يطيبَ أكلُهُ فيما لا يتلوَّنُ، أو يأخذَ بالتلوينِ فيما يتلوَّنُ.
وإن باعَ الشجرةَ وثمرتها جازَ منْ غيرِ شرطِ القطعِ، والزرعُ الأخضرُ كالثمرةِ قبلَ بدوِّ الصلاحِ، لا يجوزُ إلا بشرطِ القطعِ، وبعدَ اشتدادِ الحبِّ يجوزُ مطلقاً، ولا يجوزُ بيعُ الحبِّ في سُنبلِهِ، ولا الجوزِ واللوزِ والباقلا الأخضرِ في القشْرينِ.
فصل [قبضُ المبيعِ وضمانهُ]:
المبيعُ قبلَ قبضهِ من ضمانِ البائعِ، فإنْ تلفَ أو أتلفَهُ البائعُ انفسخَ البيعُ، وسقطَ الثمنُ، وإنْ أتلفهُ المشتري استقرَّ عليهِ الثمنُ، ويكونُ إتلافُهُ قَبْضاً، وإنْ أتلفهُ أجنبيٌّ لمْ ينفسخْ بل يُخيَّرُ المشتري بينَ أن يفسخَ فيغرم الأجنبيُّ للبائعِ القيمةَ، أو يجيزَ ويعطي الثمنَ ويغرِّمَ الأجنبيَّ القيمةَ.
وإذا اشترى شيئاً لم يجزْ أنْ يبيعهُ حتى يقبضَهُ، لكنْ للبائعِ إذا كانَ الثمنُ في الذِّمَّةِ أن يستبدلَ
(1/157)


الحيوانُ مأكولاً، ويُلحقُ بالتَّصْريةِ في الردِّ تحميرُ وجهِعنهُ قبلَ قَبْضهِ، مثلَ أنْ يبيعَ بدراهمَ فيعتاضَ عنها ذهباً، أو ثوباً، ونحوَ ذلكَ. والقبضُ فيما يُنقلُ بالنَّقلِ، مثلُ القمحِ والشعيرِ، وفيما يُتناولُ باليدِ التناولُ، مثلُ الثوبِ والكتابِ، وفيما سواهما التخليةُ، مثلُ الدارِ والأرضِ.
فلو قالَ البائعُ: لا أسلِّمُ المبيعَ حتى أقبضَ الثمنَ، وقالَ المشتري: لا أسلِّمُ الثمنَ حتى أقبضَ المبيعَ. فإن كانَ الثمنُ في الذِّمَّةِ، أُلزمَ البائعُ بالتسليمِ أولاً، ثمَّ يُلزَمُ المشتري بالتسليمِ، وإن كانَ الثمنُ معيَّناً أُلزِما معاً، بأن يُؤمرا فيسلِّما إلى عدلٍ، ثمَّ العدلُ يعطي لكلِّ واحدٍ حقَّهُ.
فصلٌ [اختلافُ المتبايعين في كيفيةِ العقدِ]:
إذا اتفقا على صحَّةِ العقدِ واختلفا في كيفيتهِ، بأنْ قالَ البائعُ: بعتُكَ بحالّ، فقالَ: بل بمؤجّلٍ، أوْ بعتُكَ بعشرة، فقال: بلْ بخمسةٍ، أو بعتُكَ بشرطِ الخيارِ، فقال: بلْ بلا خيارٍ، وما أشبهَ ذلكَ، ولم يكنْ ثَمَّ بينةٌ، تحالفا، فيبدأُ البائعُ فيقولُ: واللهِ ما بعتُكَ بكذا، ولقد بعتُكَ بكذا. ثمَّ يقولُ المشتري: واللهِ ما اشتريتُ بكذا ولقد اشتريتُ بكذا، وهي يمينٌ واحدةٌ، يجمعُ فيها بينَ نفي قول صاحبهِ وإثباتِ قولهِ، ويقدِّمُ النفي، فإذا تحالفا، فإن تراضيا بعد ذلكَ فلا فسخَ للعقدِ، وإلا فيفسخانهِ، أو أحدُهُما، أو الحاكمُ.
فلو ادعى أحدُهما شيئاً يقتضي أنَّ البيعَ وقعَ فاسداً وكذَّبهُ
(1/158)


الآخرُ، صُدِّقَ مدعي الصحَّةِ بيمينهِ، ولو جاءهُ بمَعيبٍ ليردَّهُ، فقالَ البائعُ: ليس هو الذي بعتُكَهُ، صُدِّقَ البائعُ بيمينهِ، ولو اختلفا في عيبٍ يمكنُ حدوثُهُ عندَ المشتري، فقال البائعُ: حدثَ عندكَ، وقال المشتري: بلْ كانَ عندكَ، صدّق البائعُ بيمينهِ.

بابُ السَّلَمِ
السلمُ هو بيعُ موصوفٍ في الذمةِ، ويُشترطُ فيهِ معَ شروطِ البيعِ أمورٌ:
أحدُها: قبضُ الثمنِ في المجلسِ، وتكفي رؤيةُ الثمنِ وإنْ لمْ يُعرفْ قدرُهُ.
والثاني: كونُ المُسْلَمِ فيهِ دَيناً، ويجوزُ حالاًّ، ومؤجلاً إلى أجلٍ معلومٍ، فلوْ قالَ: أسلَمْتُ إليكَ هذهِ الدراهمَ في هذا العبدِ لمْ يجزْ.
الثالثُ: إذا أسلَمَ في موضعٍ لا يصلحُ للتسليمِ مثلَ البريَّةِ، أوْ يصلحُ لكنْ لنقلهِ إليهِ مؤنةٌ، اشتُرطَ بيانُ موضعِ التسليمِ.
وشروطُ المسلَمِ فيهِ: 1 - كونُهُ معلومَ القدْرِ كيلاً أوْ وزناً أو عدداً أوْ ذَرعاً، بمقدارٍ معلومٍ، فلوْ قال زِنةُ هذهِ الصخرةِ، أوْ ملءَ هذا الزنبيلِ، ولا يُعرفُ وزنها، ولا ما يسعُ الزنبيلُ لمْ يصحَّ.
2 - أن يكونَ مقدوراً عليهِ عندَ وجوبِ التسليمِ، مأمونَ الانقطاعِ، فإنْ كانَ عزيزَ الوجودِ، كجاريةٍ وبنتها، أوْ لا يُؤمَنُ انقطاعُهُ كثمرةِ نخلةٍ بعيْنها، لمْ يجُزْ.
3 - أنْ يمكنَ
(1/159)


ضبطُهُ بالصفاتِ، كالأدقَّةِ، والمائعاتِ، والحيوانِ، واللحمِ، والقطنِ، والحديدِ، والأحجارِ، والأخشابِ، ونحوِ ذلكَ.
فيُشترطُ ضبطُهُ بالصفاتِ التي يختلفُ بها الغرضُ، فيقولُ مثلاً: أسلمتُ إليكَ في عبدٍ تركيٍّ، أبيضَ، رباعيَّ السنِّ، طولُهُ وسمنُهُ كذا، ونحوِ ذلكَ.
فلا يجوزُ في الجواهرِ، والمختلطاتِ كالهريسةِ والغاليةِ والخِفافِ، وكذا ما اختلف أعلاهُ وأسفلُهُ كمنارةٍ وإبريقٍ، أوْ ما دخلتهُ نارٌ قويةٌ كالخبزِ والشواءِ، إذ لا يمكنُ ضبطُ ذلكَ بالصفةِ.
ولا يجوزُ بيعُ المسْلَمِ فيهِ قبلَ قبضهِ، ولا الاستبدالُ عنهُ، وإذا أحضرهُ مثلَ ما شَرَطَ، أو أجودَ، وجبَ قبولُهُ.
فصلٌ [في القرضِ]:
القرضُ مندوبٌ إليهِ بإيجابٍ وقبولٍ، مثلَ: أقرضتُكَ أو أسلفتُكَ، ويجوزُ قرضُ كلِّ ما يجوزُ السَّلَمُ فيهِ، وما لا فلا، ولا يجوزُ فيهِ شرطُ الأجلِ، ولا شرطٌ جرَّ منفعةٍ كرَدِّ الأجودِ، أو على أن تبيعني عبدَك بكذا، فإنهُ ربا، فإنْ ردَّ عليهِ المقترضُ أجودَ من غيرِ شرطٍ جازَ، ويجوزُ شرطُ الرهنِ والضمانِ، ويجبُ ردُّ المِثلِ، وإنْ أخذَ عنه عِوَضاً جازَ.
وإنْ أقرضَهُ ثم لقيَهُ ببلدٍ آخرَ فطالبهُ لزمهُ الدفعُ، إنْ كانَ ذهباً أو فضةً ونحوهما، وإن كان لحملهِ مؤنةٌ نحو حنطةٍ وشعيرٍ فلا، بل تلزمهُ القيمةُ.
(1/160)


بابُ الرهنِ
لا يصحُّ إلا من مطلقِ التصرُّفِ بدَينٍ لازمٍ كالثمنِ والقرضِ، أو يؤولُ إلى اللزومِ، كالثمنِ في مدةِ الخيارِ، فإنْ لمْ يلزمْهُ الدَينُ بعدُ، مثلُ أنْ يرهنَ على ما سيقرضُهُ لمْ يصحَّ. وشرطُهُ: إيجابٌ وقبولٌ، ولا يلزمُ إلا بالقبضِ بإذنِ الراهنِ، فيجوزُ للراهنِ فسخُهُ قبلَ القبضِ، وإذا لزمَ، فإن اتفقا أنْ يوضعَ عندَ أحدهما أو ثالثٍ وُضعَ، وإلا وضعَهُ الحاكمُ عندَ عدلٍ.
وشرطُ المرهونِ أن يكونَ عيناً يجوزُ بيعُها، ولا ينفكُّ من الرهنِ شيءٌ حتى يقضيَ جميعَ الدَّينِ، وليسَ للراهنِ أن يتصرفَ فيهِ بما يُبطلُ حقَّ المُرْتَهِن كبيعٍ وهبةٍ، أو ينقصُ قيمتَهُ كاللبس والوطءِ، ويجوزُ بما لا يضرُّ كركوب وسُكنى، ولا يجوزُ رهنُهُ بدَين آخرَ ولو عندَ المرتَهِن، وعلى الراهنِ مؤونةُ الرهنِ، ويُلزَمُ بها صيانةً لحق المرتهِن، ولهُ زوائدُهُ كلبنٍ وثمرةٍ، وإنْ هلكَ عندَ المرتهنِ بلا تفريطٍ لمْ يلزمْهُ شيءٌ، أوْ بتفريطٍ ضمنهُ، ولا يسقطُ بتلفهِ شيءٌ منَ الدَيْنْ، والقولُ في القيمةِ قولهُ، وفي الردِّ قولُ الراهنِ.
وفائدةُ الرهنِ: بيعُ العينِ عندَ الحاجةِ إلى وفاءِ الحقِّ، فإنْ
(1/161)


امتنعَ الراهنُ منهُ ألزمهُ الحاكمُ إما الوفاءَ أو البيعَ، فإنْ أصرَّ باعها الحاكمُ.

بابُ التفليس
إذا لزمهُ ديْنٌ حالٌّ فطولبَ فادعى الإعسارَ، فإنْ عُهدَ لهُ مالٌ حُبسَ حتى يقيمَ بينةً على إعسارهِ، وإلا حلفَ وخُلِّيَ سبيلهُ إلى أنْ يوسرَ، فإنْ كان لهُ مالٌ وامتنعَ منَ الوفاءِ، باعهُ الحاكمُ ووفَّى عنهُ، فإنْ لمْ يفِ مالُهُ بدينهِ وسألَ هوَ أو وكيلُهُ أوْ غرماؤُهُ الحاكمَ الحَجْرَ حُجِرَ عليهِ، فإذا حجَرَ لمْ يَنْفُذْ تصرُفُهُ في المالٍ، وينفقُ عليهِ وعلى عيالهِ منهُ إنْ لمْ يكنْ لهُ كسبٌ، ثمَّ يبيعهُ الحاكمُ ويحتاطُ، ويَقْسِمُهُ على قدْرِ ديونهمْ، وإنْ كانَ فيهمْ منْ دَينهُ مؤجَّلٌ يجْعلهُ تحتَ يدهِ ولمْ يُقْضَ، أو منْ عندهُ بدَينهِ رهنٌ خُصَّ منْ ثمنهِ بقدْرِ دَينهِ.
ولوْ وجدَ أحدهمْ عينَ مالهِ التي باعها لهُ، فإنْ شاءَ ضاربَ معَ الغرماءِ، وإنْ شاءَ فسخَ البيعَ ورجعَ فيها، إلا أنْ يمنعَ مانعٌ منَ الرجوعِ فيها، مثل أنْ تُسْتَحَقَّ بشُفعةٍ، أو رهنٍ، أو خُلِطَتْ بأجودَ، ونحوِ ذلكَ.
ويُتركُ للمفلسِ دَسْتُ ثوبٍ يليقُ بهِ، وقوتُهُ وقوتُ عيالهِ يومَ القسْمةِ.

بابُ الحجرِ
لا يجوزُ تصرُّفُ الصبيِّ والمجنونِ في مالهما، ويتصرّفُ
(1/162)


لهما الوليُّ وهوَ: الأبُ أو الجدُّ أبو الأبِ عند عدمهِ، ثمَّ الوصيُّ ثمَّ الحاكمُ أوْ أمينُهُ، ويتصرَّفُ لهما بالغبطةِ، فإنْ ادعى الوليُّ أنهُ أنفقَ عليهِ مالهُ أوْ تلفَ قُبِل، أوْ أنهُ دفعهُ إليهِ فلا، فإذا بلغَ أوْ أفاقَ رشيداً بأنْ بلغَ مُصلحاً لدينهِ ومالهِ انفكَّ الحَجْرُ، ولا يُسلَّمُ إليهِ المالُ إلا بالاختبارِ فيما يليقُ بهِ قبلَ البلوغِ، وإنْ بلغَ أوْ أفاقَ مفسداً لدينهِ أوْ مالهِ استُديمَ الحَجْرُ عليهِ، ولا يجوزُ تصرفُهُ في المالِ ببيعٍ وغيرهِ، سواءٌ أذنَ الوليُّ أمْ لا، فإنْ أذِنَ لهُ في النكاحِ صحَّ، فإنْ بلغَ رشيداً ثمَّ بذَّرَ حجرَ عليهِ الحاكمُ لا الوليُّ، وإنْ فَسَقَ لمْ يُعَدْ عليهِ الحَجْرُ.
والبلوغُ بالاحتلامِ أو باستكمالِ خمسَ عشرةَ سنة، أو بالحيضِ والحبلِ في الجاريةِ.
واللهُ أعلمُ.

بابُ الحوالةِ
يُشترطُ فيها رضا المُحيلِ وقَبولُ المُحْتالِ دونَ رضا المُحالِ عليهِ.
ولا تصحُّ على من لا دَين عليه، وتصحُّ بدَين لازمٍ على دين لازمٍ بشرطِ العلْمِ بما يُحالُ به وعليهِ، وتساويهما جِنْساً وقدْراً، وصحةً وتكسيراً، وحلولاً وأجلاً، ويَبراُ فيها المُحيلُ من دَين المُحتالِ، والمُحالُ عليهِ منْ دَينِ المُحيلِ، ويَتَحوَّلُ حقُ المُحتالِ إلى ذمَّةِ المُحالِ عليهِ.
فإنْ تعذَّرَ على المُحتالِ أخذُهُ من المُحالِ عليهِ لِفَلَسِ المُحالِ عليهِ
(1/163)


أو جَحْدهِ أو غيرِ ذلكَ لمْ يرجعْ إلى المُحيلِ.

بابُ الضمانِ
يصحُّ ضمانُ منْ يصحُّ تصرفُهُ في مالهِ، فلا يصحُّ منْ صبيٍّ ومجنونٍ وسفيهٍ وعبدٍ لمْ يأذنْ لهُ سيدُهُ، ويصحُّ من محجورٍ عليهِ بفَلَسٍ، ومنْ عبدٍ أذنَ لهُ سيدهُ، ويشترطُ معرفةُ المضمونِ لهُ، ولا يشترطُ رضاهُ ولا رضا المضمونِ عنهُ ولا معرفتُهُ.
ويشترطُ أنْ يكونَ المضمونُ: ديْناً ثابتاً معلوماً، وأنْ يأتيَ بلفظٍ يقتضي الالتزامَ، كضمنتُ دينكَ أو تحمَّلتُهُ ونحو ذلكَ، ولا يجوزُ تعليقهُ على شرطٍ مثل: إذا جاء رمضانُ فقدْ ضمنتُ. ويصحُّ ضمانُ الدَّرَكِ بعدَ قبضِ الثمنِ، وهوَ أنْ يضمنَ للمشتري الثمنَ إذا خرجَ المبيعُ مستَحَقَّاً أو معيباً.
وللمضمونِ لهُ مطالبةُ الضامنِ والمضمونِ عنهُ، فإنْ ضمِن عن الضامنِ ضامنٌ آخرُ طالبَ الكلَّ، وإنْ طالبَ الضامنَ فللضامنِ مطالبةُ الأصيلِ بتخليصهِ إنْ ضمنَ بإذنهِ، فإنْ أبرأَ الأصيلَ برئَ الضامنُ، وإنْ أبرأَ الضامنَ لمْ يبرأَ الأصيلُ، وإنْ قضى الضامنُ الدينَ رجعَ بهِ على الأصيلِ إنْ كانَ ضمنَ بإذنهِ، وإلا فلا، سواءٌ قضاهُ بإذنهِ أمْ لا. ولا يصحُّ ضمانُ الأعيانِ كالمغصوبِ والعواري.
(1/164)


[كفالةُ البدنِ]:
وتصحُّ الكفالةُ ببدنِ منْ عليهِ مالٌ أوْ عقوبةٌ لآدميٍّ كالقصاصِ وحدِّ القذفِ، بإذنِ المكفولِ، وإنْ كانَ عليهِ حدٌّ للهِ تعالى فلا تصحُّ، ثمَّ إذا صحَّتِ الكفالةُ فأطلقَ طولِبَ بهِ في الحالِ، وإنْ شَرَطَ أجلاً طولبَ بهِ عندَ الأجلِ، وإن انقطعَ خبرُهُ لمْ يطالبْ بهِ حتى يَعرفَ مكانهُ، ويُمهَلُ مدةَ الذهابِ والعودِ فإنْ لمْ يحضرهُ حُبسَ، ولا تلزمهُ غرامةُ ما عليهِ، وإنْ ماتَ المكفولُ سقطتِ الكفالةُ، لكنْ إنْ طولبَ بإحضارهِ قبلَ الدفنِ ليشهدَ على عينهِ وأمكنهُ ذاك لزمهُ.

بابُ الشَرِكةِ
تَصِحُّ من كلِّ جائزِ التصرُّفِ، وهي أنواعٌ أربعةٌ:
[1 - شركةُ العِنان]:
وإنما تصحُّ منها شركةُ العِنانِ خاصةً، وهي أن يأتيَ كلٌّ منهما بمالٍ، وتصحُّ على النقودِ وعلى مثليٍّ. ويُشترطُ أنْ يُخلطَ المالانِ بحيثُ لا يتميزانِ، وأنْ يكونَ مالُ أحدهِما من جنسِ مالِ الآخرِ وعلى صفتهِ، فلو كانَ لهذا ذهبٌ ولهذا فضةٌ، أو لهذا حنطةٌ ولهذا شعيرٌ، أو لهذا صحيحٌ ولهذا مكسَّرٌ لم يصحَّ.
ويُشترطُ أن يأذنَ كلٌّ منهما للآخرِ في التصرُّفِ، فيتصرَّفُ كلٌّ منهما بالنظرِ والاحتياطِ، فلا يسافرُ بهِ ولا يبيعُ بمؤجَّلٍ، ولا يُشترطُ تساوي المالينِ، ويكونُ الربحُ والخسرانُ بينهُما على قدْرِ المالينِ، فإن شرَطا خلاف ذلكَ
(1/165)


بطُلتْ، فإن عزلَ أحدُهُما الآخرَ عن التصرفِ انعزلَ، وللآخرِ التصرفُ إلى أنْ يعزلهُ صاحبهُ، ولكل منهما فسخُها متى شاءَ. [2 - شرك الأبدان]:
وأما شَرِكَةُ الأبدانِ فباطلةٌ، كشركةِ الحمَّالينَ وغيرهمْ من ذوي الحِرَفِ على أنْ يكونَ الكَسْبُ بينَهُمْ.
3 - وشركةُ الوجوهِ.
4 - والمفاوضةِ أيضاً باطلتانِ.

بابُ الوكالةِ
يُشترطُ في الموكِّل والوكيل أن يكونا جائزي التصرُّفِ فيما يوكَّلُ فيه، وتصحُّ وكالةُ الصبي في الإذْنِ في دخولِ الدارِ وحَمْلِ الهديةِ، والعبدِ في قبولِ النكاحِ.
ويجوزُ التوكيلُ في العقودِ والفسوخِ والطلاقِ والعِتْقِ، وإثباتِ الحقوقِ واستيفائها، وفي تمليكِ المباحاتِ كالصيدِ والحشيشِ والمياهِ.
وأما حقوقُ اللهِ تعالى: فإن كانتْ عبادةً لمْ تَجُزْ إلا في تَفْرِقةِ الزكاةِ والحجِّ وذبحِ الأضحيةِ، وإنْ كانَ حدَّاً جازَ في استيفائهِ دونَ إثباتهِ.
وشَرطُها: الإيجابُ باللفظِ من غيرِ تَعليقٍ كوكَّلتُكَ أو بعْ هذا الثوبَ.
والقبولُ باللفظِ أو الفعلِ وهو امتثالُ ما وُكِّلَ بهِ، ولا يُشترطُ الفوْرُ في القبول، فإنْ نجَّزها وعلَّقَ التصرُّفَ على شرطِ جازَ، كقولهِ: وكَّلتُكَ ولا تبِعْ إلى شهر.
وليس للوكيلِ أنْ يوكِّلَ إلا بإذنه، أو كانَ مما لا يتولاّه بنفسهِ، أو لا يَتمكنُ منهُ لكثرتهِ، وليس له أن يبيعَ
(1/166)


ما وُكِّلَ فيهِ لنفسهِ أو لابنهِ الصغيرِ، ولا بدونِ ثمنِ مثلهِ، ولا بمؤجَّلٍ، ولا بغيرِ نقْدِ البلدِ، إلا أن يأذنَ له في ذلك، ولو نَصَّ له على جنسِ الثمنِ فخالفَ لم يصحَّ البيعُ، كبعْ بألفِ درهم فباعَ بألفِ دينارٍ، وإن نصَّ على القدْرِ فزادَ منَ الجنسِ صحَّ، كبعْ بألفِ درهمٍ فباعَ بألفينِ، إلا أنْ ينهاهُ.
ولو قال: اشْترِ بمئة، فاشترى ما تُساويها بدونِ مئة صحَّ، وإن اشترى بمئتينِ ما يساوي مئتين فلا، وإن قال: اشْترِ بهذا الدينار شاةً، فاشترى به شاتينِ تساوي كلٌّ واحدةٍ ديناراً صحَّ، وكانتا للموكِّلِ، فإن لم تساوي كلُّ واحدةٍ ديناراً لم يصحَّ العقدُ، وإن قال: بِعْ لزيدٍ، فباعَ لغيرهِ لم يَجُزْ، وإنْ قال: اشْترِ هذا الثوبَ فاشتراهُ فوجدهُ مَعيباً فله الرَدُّ، أو اشْتر ثوباً، لم يجُز شراءُ مَعيبٍ. ويُشترطُ كونُ الموكَّل فيه معلوماً من بعض الوجوهِ، فلو قال: وكلتكِ في بيعِ مالي وعِتْقِ عبدي وطلاقِ زوجاتي صحَّ، أو في كلِّ قليلٍ وكثيرٍ، أو في كلِّ أموري لم يصحَّ.
ويدُ الوكيلِ يدُ أمانةٍ، فما يتْلفُ معهُ بلا تفريطٍ لا يضمنُهُ، والقولُ في الهلاكِ والرَدِّ وما يُدَّعى عليهِ من الخيانة قولُهُ، ولكلٍّ منهما الفسخُ متى شاءَ، فإن عَزَلَهُ ولم يعلمْ فتصرَّفَ لم يصحَّ التصرُّفُ، وإن ماتَ أحدُهُما أو جُنَّ أو أُغمِيَ عليهِ انفسخَتْ.
(1/167)


بابُ الوديعةِ
لا تصحُّ إلا من جائزِ التصرُّفِ عندَ جائزِ التصرُّفِ، فإنْ أودعَ صبيٌّ أو سفيهٌ عندَ بالغٍ شيئاً فلا يقبلُهُ، فإن قبلهُ دخلَ في ضمانهِ، ولا يَبرأُ إلا بدفعهِ لوليِّه، فلو ردَّهُ للصبيّ ِلم يبرأْ، وإن أودع بالغ عند صبي فتلف عند الصبي لتفريط أو غيره لم يضمنه الصبي، وإن أتلفهُ ضَمِنَهُ.
ومن عَجَزَ عن حفظِ الوديعةِ حَرُمَ عليهِ قبولُها، وإن قَدَرَ ولم يَثِقْ بأمانةِ نفسهِ وخافَ أنْ يخونَ كُرهَ له أخذها، فإنْ وثِقَ استُحبَّ.
ثم يَلزَمهُ الحفظُ في حِرْزِ مثلها، فإن أرادَ السفرَ أو خافَ الموتَ فليرَدَّها إلى صاحبها، فإن لم يجدْه ولا وكيلَهُ سلَّمها إلى الحاكمِ، فإنْ فُقِدَ فإلى أمينٍ، فإن لم يفعلْ فماتَ ولمْ يوصِ بها، أو سافرَ بها، ضَمنَها، فإن سلَّمها إلى أمينٍ مع وجودِ الحاكمِ ضَمِنَ، إلا أن يموتَ فجأةً، أوْ يقعَ في البلدِ نهبٌ أو حريقٌ ولمْ يتمكنْ من شيءٍ من ذلكَ فسافرَ بها.
ومتى طلبها المالكُ لزمهُ الردُّ بأنْ يُخْلِيَ بينهُ وبينها، فإن أخَّرَ بلا عُذْرٍ، أوْ أودَعها عندَ غيرِهِ بلا سفرٍ ولا ضرورةٍ، أو خلطها بمالٍ لهُ أو للمودعِ أيضاً بحيثُ لا يتَمَيَّزُ، أو استعملها أو أخرَجها من الحِرْزِ ليَنتَفِعَ بها فلم يَنتفِعْ، أو حَفِظها في دونِ
(1/168)


حِرْزِها، أو قال له المالكُ: احفظْها في هذا الحِرْزِ. فوضعها في دونهِ وهو حرْزُها أيضاً، ضَمِنَها.
ولكلٍّ منهما الفسْخُ متى شاءَ، فإن ماتَ أحدُهُما أو جنَّ أو أُغميَ عليه انْفَسَخَتْ، ويدُ المودَعِ أمانةٌ، فالقولُ في أصلِ الإيداعِ أو في الرَّدِّ أو التلفِ قولُهُ، فلو قالَ: ما أودعتني شيئاً، أو ردَدْتُها إليكَ، أوْ تَلِفَتْ بلا تفريطٍ، صُدِّقَ بيمينهِ. ويُشترطُ لفظٌ منَ المُودِعِ كاستودعتُكَ واسْتَحْفَظْتُك، ولا يُشترطُ القَبولُ، بلْ يكفي القَبضُ. بابُ العاريةِ
تصحُّ من كلِّ جائزِ التصرفِ، مالكٍ للمنفعةِ ولو بإجارة.
ويجوزُ إعارةُ كلِّ ما يُنتفعُ به مع بقاء عينهِ بشرطِ لفظٍ من أحدهما.
وينتفعُ بحسَبِ الإذْنِ، فيفعلُ المأذونَ فيهِ أو مثلَهُ أو دونَهُ إلا أن ينهاهُ عن الغيرِ، فإن قالَ: ازرعْ حنطةً، جازَ الشعيرُ لا عكسُهُ، فإن قالَ: ازرعْ، وأطلقَ، زَرعَ ما شاءَ، فإنْ رجعَ قبلَ وقتِ الحصادِ بقيَ إلى الحصادِ، لكنْ بأجْرةٍ إن أذنَ مطلقاً، وبغيرها إن أذنَ في مُعيَّنٍ فزَرَعهُ. وإن قالَ: اغرِسْ أو ابنِ، ثم رجعَ، فإن كانَ شرَطَ عليهِ القلْعَ قَلَعَ، وإن لم يَشترِطْ واختارَ المُستعيرُ القلْعَ قَلَعَ، وإن لم يختَرْ فالمُعيرُ بالخيارِ بينَ تَبقِيَتِهِ بأجْرَةٍ وبينَ قَلْعِهِ وضَمانِ أَرْشِ ما نَقَصَ بالقَلْعِ.
(1/169)


ولهُ الرجوعُ في الإعارةِ متى شاءَ، إلا أن يُعيرَ أرضاً للدفْنِ فإنهُ لا يرجعُ فيها ما لم يَبْلَ الميتُ.
والعاريةُ مضمونةٌ، فإن تَلِفَتْ بغيرِ الاستعمالِ المأذونِ فيهِ ولو بغيرِ تفريطٍ ضَمِنها بقيمَتِها يومَ التَلَفِ، فإنْ تَلِفَتْ بالاستعمالِ المأذونِ فيهِ لم يَضْمَنْ، ومؤونةُ الرَّدِّ على المُستعيرِ، وليسَ لهُ أن يُعيرَ.

بابُ الغَصْبِ
هو الاستيلاءُ على حقِّ الغيرِ عُدْواناً، فمنْ غَصَبَ شيئاً لهُ قيمةٌ -وإنْ قلَّتْ- لزمهُ ردُّهُ، إلا أن يترتَّبَ على ردِّهِ تلفُ حيوانٍ أوْ مالٍ معصومَينِ، مثل: أنْ غَصَبَ لوحاً فسمَّرهُ على خَرْقِ سفينةٍ في وسطِ البحرِ وفيها مالٌ لغيرِ الغاصبِ، أو حيوانٌ معصومٌ، فإن تَلِفَ عندَهُ أوْ أَتْلفهُ فإنْ كانَ مِثلياً ضمِنهُ بمثلِهِ، فإنْ تعذرَ المِثلُ فالْقيمةُ أكثرَ ما كانتْ منَ الغصبِ إلى تعذُّر المثلِ، وإنْ كانَ متقوِّماً ضَمِنَهُ بقيمتهِ أكثرَ ما كانتْ منَ الغصبِ إلى التلفِ، حتى لوْ زادَ عندَ الغاصبِ بأنْ سَمنَ لزمَهُ قيمتُهُ سميناً، سواءٌ هزَلَ بعدَ ذلكَ أمْ لا.
فإن اختلفا في قدْرِ القيمةِ أوْ في التلفِ، فالقولُ قولُ الغاصبِ، أو في الردِّ فقولُ المالكِ، وإنْ ردَّهُ ناقصَ العينِ أو القيمةِ لعيبٍ، أو ناقِصهما ضمنَ الأَرْشَ، وإنْ نقَصَت القيمةُ
(1/170)


بانخفاضِ السعرِ فقط لم يَلزمهُ شيءٌ، وإنْ كانَ لهُ منفعةٌ ضمِنَ أجرتهُ للمدةِ التي قامَ في يدهِ، سواءٌ انتفعَ بهِ أمْ لا، لكنْ لا يلزمُهُ مهرُ الجاريةِ المغصوبةِ إلا أن يطأها وهيَ غيرُ مطاوعةٍ.
والمثليُّ هوَ ما حصرَهُ كيلٌ أو وزنٌ وجازَ فيهِ السَّلَمُ، كالحبوبِ والنقودِ وغيرِ ذلكَ.
والمتقوِّمُ غيرُ ذلكَ، كالحيواناتِ والمختلطاتِ كالهريسةِ وغيرِ ذلكَ.
وكلُّ يد ترتَّبت على يدِ الغصبِ فهي يدُ ضمانٍ، سواءٌ علمتْ بالغصْبِ أمْ لا، فللمالكِ أنْ يُضمِّنَ الأولَ والثاني، لكنْ إنْ كانت اليدُ الثانيةُ عالمةً بالغصبِ، أو جاهلةً وهيَ يدُ ضمانٍ كغَصْبِ عاريةٍ، أو لم تكنْ وباشرت الإتلافَ، فقرارُ الضمانِ على الثاني، أيْ: إذا غرَّمهُ المالكُ لا يَرجعُ على الأولِ، وإنْ غَرِمَ الأولُ رجعَ عليهِ، وإنْ جَهِلَت الغصبَ وهيَ يدُ أمانةٍ كوديعةٍ، فالقرارُ على الأولِ، أيْ: إذا غرِمَ الثاني رجعَ على الأولِ، وإنْ غرِمَ الأولُ فلا.
وإنْ غَصَبَ كلباً فيهِ منفعةٌ، أوْ جلْدَ ميتةٍ، أوْ خمراً منْ ذمِّيٍّ أوْ منْ مسلمٍ وهيَ محترَمَةٌ لزمَهُ الردُّ، فإنْ أتلفَ ذلكَ لمْ يضمنْهُ، فإنْ دُبغَ الجلدُ أوْ تخللت الخمرةُ فهما للمغصوبِ منهُ.

بابُ الشُّفْعَةِ
إنما تجبُ في جزءٍ مُشاعٍ منْ أرضٍ تَحتمِلُ القِسْمةَ إذا
(1/171)


مُلكتْ بمعاوَضةٍ، فيأخذُها الشريكُ أو الشركاءُ على قدْرِ حِصَصِهِمْ، بالعِوَضِ الذي استقرَّ عليهِ العقدُ، والقولُ قولُ المشتري في قَدْرهِ.
ويُشترطُ اللفظُ: كتملَّكْتُ أوْ أخذْتُ بالشفْعةِ، ويجِبُ معَ ذلكَ: إما تسليمُ العوَضِ إلى المشتري، أوْ رضاهُ بكونهِ في ذمةِ الشفيعِ، أوْ قضاءُ القاضي لهُ بالشُفْعةِ، فحينئذٍ يملِكُ.
فإنْ كانَ ما بذلهُ المشتري مثلياً دفعَ مِثْلَهُ، وإلا فقيمتُهُ حالَ البيعِ، أما المِلكُ المقسومُ، أو البناء والغِراس إذا بيعا منفردَيْنِِ، أو ما تبطُلُ بالقِسْمة منفعتُهُ المقصودةُ، كالبئرِ والطريقِ الضيقِ، أو ما مُلِكَ بغيرِ معاوضةٍ كالموهوبِ، أو ما لمْ يُعلمْ قَدْرُ ثمنهِ، فلا شُفعةَ فيهِ، وإنْ بيعَ البناءُ والغراسُ معَ الأرضِ أخذهُ بالشُفعةِ تبعاً لها.
والشُفعةُ على الفورِ، فإذا عُلمَ فليبادرْ على العادةِ، فإنْ أخَّرَ بلا عُذرٍ سقطتْ، إلا أنْ يكونَ الثمنُ مؤجلاً فيتخيرُ، إنْ شاءَ عجَّلَ وأخذَ، وإنْ شاءَ صبرَ حتى يحلَّ ويأخذَ. ولوْ بلغهُ الخبرُ وهوَ مريضٌ أوْ محبوسٌ فليوكِّلْ، فإنْ لمْ يفعلْ بطُلت، فإنْ لمْ يقدرْ أوْ كانَ المُخبِرُ صبياً، أوْ غيرَ ثقةٍ، أوْ أُخْبِرَ وهو مسافرٌ فسافرَ في طلبهِ فهوَ على شُفعتِهِ.
وإنْ تصرَّفَ المشتري فبنى أوْ غرسَ، تَخَيَّرَ الشفيعُ بينَ تَملُّكِ ما
(1/172)


بناهُ بالقيمةِ وبينَ قلْعهِ وضمانِ أرْشِهِ، وإنْ وهبَ المشتري الشِّقْصَ، أو وَقَفَهُ، أو باعهُ، أو ردَّهُ بالعيبِ، فلهُ أنْ يفسخَ ما فعلهُ المشتري، ولهُ أنْ يأخذَ منَ المشتري الثاني بما اشترى بهِ.
وإذا ماتَ الشفيعُ فللورثةِ الأخذُ، فإنْ عفا بعضُهُمْ أخذَ الباقونَ الكلَّ أوْ يدَعون.

بابُ القِراضِ
هوَ أنْ يدفعَ إلى رجلٍ مالاً ليتَّجِرَ فيهِ، ويكونَ الربح بينهما، ويجوزُ منْ جائزِ التصرُّفِ مع جائزِ التصرُّفِ. وشرطُهُ:
1 - إيجابٌ وقَبولٌ.
2 - وكونُ المالِ نقداً خالصاً مضروباً.
3 - معلومَ القدْرِ.
4 - مُعيَّناً.
5 - مسلَّماً إلى العاملِ.
6 - بجزءٍ معلومٍ منَ الربحِ كالنصفِ والثلثِ.
فلا يجوزُ على عُروضٍ ومغشوشٍ وسبيكةٍ، ولا على أنْ يكونَ المالُ عندَ المالكِ، ولا على أنَّ لأحدهما رِبحَ صنفٍ معينٍ، ولا عشَرَة دراهمَ، ولا على أنَّ الرِبحَ كلَّهُ لأحدهما، ولا على أنَّ المالكَ يعملُ معهُ.
ووظيفةُ العاملِ التجارةُ وتوابعُها بالنظرِ والاحتياطِ، فلا يبيعُ بغَبْنٍ ولا نسيئةٍ، ولا يسافرُ بلا إذنٍ ونحوِ ذلكَ، فلوْ شَرطَ عليهِ أنْ يشتريَ حنطةً فيطحن ويخبز، أو غزلاً فينسجَ ويبيعَ، أوْ أنْ لا يتصرَّفَ إلا في كذا وهو عزيزُ الوجودِ، أوْ لا يعاملَ العاملُ إلا زيداً، فسدَ، فحيثُ
(1/173)


فسدَ نفذَ تصرفُ العاملِِ بأجرةِ المثلِ، وكلُّ الربحِ للمالكِ، إلا إذا قالَ المالكُ: الربحُ كلُّهُ لي، فلا شيءَ للعاملِ. ومتى فسخَهُ أحدُهُما أوْ جُنَّ أوْ أغميَ عليهِ انفسخَ العقدُ، فيلزمُ العاملَ تنضيضُ رأسِ المالِ، والقولُ قولُ العاملِ في قدْرِ رأسِ المالِ، وفي ردِّهِ، وفيما يدَّعي منْ هلاك، وفيما يُدَّعى عليهِ منَ الخيانةِ.
وإنْ اختلفا في قدْرِ الرِبحِ المشروطِ تحالَفا، ولا يملكُ العاملُ حصتهُ منَ الربحِ إلا بالقِسْمةِ.

بابُ المساقاةِ
تصحُّ ممنْ يصحُّ قراضُهُ على كرْمٍ ونخْلٍ خاصةً، مغروسَينِ إلى مدةٍ يبقى فيها الشجرُ ويُثمرُ غالباً، بجزءٍ معلومٍ منَ الثمرةِ كثُلُثٍ ورُبعٍ كالقِراضِ، ويملكُ حِصتَهُ منَ الثمرةِ بالظهورِِ.
ووظيفتُهُ أنْ يعملَ ما فيهِ صلاحُ الثمرةِ كتلقيحٍ وسقيٍ، وتنقيةِ ساقيةٍ، وقطعِ حشيشٍ مُضرٍّ ونحوِهِ، وعلى المالكِ ما يحفظُ الأصلَ، كبناءِ حائطٍ وحَفْرِ نَهرٍ ونحوهِ.
والعاملُ أمينٌ، فإنْ ثبتَتْ خيانتُهُ ضُمَّ إليهِ مُشرِفٌ، لأنَّ المساقاةَ لازمةٌ ليسَ لأحدهما فسْخُها كالإجارةِ، فإنْ لمْ يتحفَّظْ بالمشرِفِ استؤجِرَ عليهِ من يعملُ عنهُ.
(1/174)


فصل [المزارعة]:
العملُ في الأرضِ ببعضِ ما يخرُجُ منها إن كانَ البذْرُ من المالكِ سُميَ مُزارعةً، أو منَ العاملِ سُميَ مخابَرَةً، وهما باطلتانِ، إلا أن يكونَ بينَ النخيلِ بياضٌ وإن كَثُرَ، فتصحُّ المزارعةُ عليهِ تبَعاً للمساقاةِ على النخيلِ، وإن تفاوتَ المشروطُ في المساقاة والمزارعةِ، بشرط:
1 - أن يتحدَ العاملُ في الأرضِ والنخيلِ.
2 - ويعسُرَ إفرادُ النخلِ بالسقي، والبياضِ بالعِمارةِ.
3 - وأن يتقدمَ لفظُ المساقاةِ، فيقول: ساقَيْتُكَ وزارعْتُكَ.
4 - وأن لا يُفْصَلَ بينهما.
ولا تجوزُ المخابَرَةُ تَبَعاً للمساقاةِ.

بابُ الإجارةِ
تصحُّ الإجارةُ ممن يصحُّ بيعُهُ، وشرطها:
إيجابٌ: مثلُ آجرتُك هذا أو منافعهُ، أو أكْريتُك. وقَبولٌ. وهي على قسمين: إجارةُ ذِمةٍ، وإجارةُ عَيْنٍ.
فإجارةُ الذمةِ: أن يقولَ استأجرتُ منكَ دابةً صفتُها كذا، أو استأجَرتُكَ لِتُحصِّلَ لي خياطةَ ثوبٍ أو ركوبي إلى مكة.
وإجارةُ العينِ: مثلُ استأجَرْتُ منكَ هذه الدابةَ أو استأجرتُكَ لِتَخيطَ لي هذا الثوبَ.
وشرطُ إجارةِ الذمةِ: قبضُ الأجرةِ في المجلسِ.
وشرطُ إجارةِ العينِ:
1 - أن تكونَ العينُ مُعيَّنة.
2 - مقدوراً على تسليمها.
(1/175)


3 - يمكنُ استيفاءُ المنفعةِ المذكورةِ منها.
4 - ويتصلُ استيفاءُ منفعتها بالعقدِ.
5 - ولا يتضَّمنَ الانتفاعُ استهلاكَ عينها.
6 - وأن يعقدَ إلى مدةٍ تبقى فيها العينُ غالباً، ولو مئةَ سنةٍ في الأرضِِِ.
فلا تصحُّ إجارةُ أحدِ العبدَيْنِ، ولا غائبٍ وآبقٍ، وأرضٍ لا ماءَ لها ولا يكفيها المطرُ للزرعِ، وحائضٍ لكَنْسِ مسجدٍ، ومنكوحَةٍ للرضاعِ بلا إذنِ زوجٍ، ولا استئجارُ العامِ المُستقبَلِ لغيرِ المستأجر -ويجوزُ لهُ- ولا الشمعِ للوقودِ، ولا ما لا يبقى إلا سنةً مثلاً أكثرَ منها.
وشرْطُها: أن تكونَ المنفعةُ مباحةً متقومةً معلومةً، كقولهِ: آجرتُكَ لتزرعَ، أو تبْني، أو تحملَ قنطارَ حديدٍ أو قُطنٍ، في مدة معلومةٍ، وبأجرةٍ معلومةٍ، ولو بالرؤيةِ جُزافاً، أو منفعةً أخرى.
فلا تصحُّ على: زمرٍ، وحمْلِ خمرٍ لغيرِ إراقتها، وكلمةِ بيَّاعٍ لا كُلفةَ فيها وإن روَّجتِ السِّلعةَ، وحملِ قِنطار لم يُعيَِّن ما هو، وكلِّ شهرٍ بدرهمٍ ولم يُبيِّنْ جُملةَ المدةِ، ولا بالطُّعمةِ والكِسْوةِ.
ثمَّ المنفعةُ قد لا تُعرفُ إلا بالزمانِ -كالسُّكنى والرَّضاعِ- فتُقدَّر به، وقد لا تُعرفُ إلا بالعملِ كالحجِّ ونحوهِ فتقدَّرُ بهِ، وقد تُعرَفُ بهما -كالخياطةِ والبناءِ وتعليمِ القرآنِ- فتقدَّرُ بأحدهما، فإن قُدِّرتْ بهما فقال: لتخيطَ لي هذا الثوبَ بياضَ هذا اليومِ، لم يصحَّ.
(1/176)


وتُشترطُ معرفةُ الراكبِ بمشاهَدَةٍ أو وصف تام، وكذا ما يركَبُ عليهِ من محْمل وغيرهِ.
وفي إجارةِ الذمةِ ذِكرُ جنسِ الدابةِ ونوعها، وكونِها ذكراً أو أنثى في الاستئجار للركوبِ لا للحملِ، إلا أن يكونَ لنحو زجاج.
وما يُحتاج إليه للتمكُّن من الانتفاعِ كالمِفتاحِ والزِّمامِ والحزامِ والقَتَبِ والسَّرْجِ فهو على المُكْري، أو لكمالِ الانتفاعِ كالمَحمِلِ والغطاء والدلْوِ والحبْلِ فعلى المُكتري.
وعلى المُكري في إجارةِ الذمةِ الخروجُ معهُ والتحميلُ والحطُّ وإركابُ الشيوخِ وإبراكُ الجملِ للمرأةِ والضعيفِ، وللمكتري أن يستوفيَ المنفعةَ بالمعروفِ أو مثلَها إما بنفسهِ أو مثلِهِ، فإذا استأجرَ ليزرعَ حنطةً زرعَ مثلَها، أو ليركَبَ أَرْكَبَ مثلَهُ، وإن جاوزَ المكانَ المُكترَى إليهِ لزمهُ المسمى في المكانِ أجرةُ المثلِ للزائدِ.
ويجوزُ تعجيلُ الأجرةِ وتأجيلُها، فإنْ أطلقا تعجلتْ.
ويجوزُ في إجارةِ الذمَّةِ تعجيلُ المنفعةِ وتأجيلُها.
وإنْ تَلِفت العينُ المستأجرةُ انفسختْ في المستقبلِ، وإنْ تعيَّبتْ تَخيَّرَ، فإنْ كانت الإجارةُ في الذمةِ لمْ تنفسْخ ولم يتخيَّرْ بلْ لهُ طلبُ بدلها ليستوفيَ المنفعةَ، وإنْ تلِفَتِ العينُ التي استؤجِرَ على العملِ فيها في يدِ الأجيرِ، أو العينُ المستأجرةِ في يدِ المستأجرِ بلا عدوانٍ لمْ يضمنْها.
وإنْ ماتَ أحدُ المتكاريَيْنِ
(1/177)


والعينُ المستأجرةُ باقيةٌ لم تنفسخْ، وإذا انقضت المدةُ لزمَ المستأجرَ ردُّ العينِ وعليهِ مؤونةُ الردِّ.
وإذا عُقِدَ على مدةٍ أوْ منفعةٍ معيَّنةٍ فسلمَ العينَ وانقضت المدةُ أوْ زمنٌ يمكنُ فيهِ استيفاءُ المنفعةِ، استقرَّتِ الأجرةُ ووجبَ ردُّ العينِ، وتَستقرُّ في الإجارةِ الفاسدةِ أُجرةُ المثلِ، حيثُ يستقرُّ المُسمَّى في الصحيحةِ.
فصل الجُعالةِ:
إذا قال: منْ بنى لي حائطاً فلهُ درهمٌ، أوْ منْ ردَّ لي آبقي فلهُ كذا، فهذهِ جَعَالةٌ يُغتفرُ فيها جهالةُ العملِ دونَ جهالةِ العِوَضِ، فمنْ بنى، أوْ ردَّ إليهِ الآبِقَ -ولوْ جماعةً- استحقَّ الجُعلَ. ومنْ عملَ بلا شرطٍ لمْ يستحقَّ شيئاً، فلوْ دفعَ ثوباً لغسَّالٍ فقالَ: اغسلْهُ، ولمْ يسمِّ لهُ أجرةً، فغسلَهُ لمْ يستحقَّ شيئاً، فإنْ قالَ: شرطْتَ لي عِوضاً فأنكرَ، فالقولُ قولُ المُنكِرِ.
ولكلٍّ منهما فسخُها، لكنْ إنْ فسخَ صاحبُ العملِ بعدَ الشروعِ لزمهُ قسطُهُ منَ العِوضِ، وفيما سوى ذلك لا شيءَ للعاملِ.

بابُ اللقطةِ واللقيطِ
إذا وَجَدَ الحُرُّ الرشيدُ لُقطةً جازَ التقاطُها، فإنْ وثقَ بأمانةِ نفسهِ نُدبَ، وإنْ خافَ الخيانةَ كُرهَ.
ثمَّّ يُندبُ أنْ يعرِفَ جنسها وصفتها وقدْرَها ووعاءها ووِكاءَها وهوَ
(1/178)


الخيطُ الذي رُبطَتْ بهِ، وأنْ يُشهِدَ عليها.
ثمَّ إنْ كانَ الالتقاطُ في الحَرَمِ أوْ كانت اللقطةُ جاريةً يحلُّ لهُ وَطؤها بمِلكِ أوْ نِكاحٍ، أو وجدَ في بريةٍ حيواناً يمتنِعُ منْ صغارِ السباعِ كبعيرٍ وفرسٍ وأرنبٍ وظبيٍ وطيرٍ فلا يجوزُ في هذهِ المواضعِ أنْ يلتقطَ إلا للحفظِ على صاحبها، فإنْ التقطَ للتمَلُّكِ حَرُمَ وكانَ ضامناً، وفيما عدا ذلكَ يجوزُ للحفظِ والتَّملُّكِ.
فإن التقطَ للحفظِ لمْ يلزمْهُ تعريفُها، وتكونُ عندهُ أمانةً لا يتصرَّفُ فيها أبداً إلى أنْ يجدَ صاحبَها فيدفعَها إليهِ، وإنْ دفعَها إلى الحاكمِ لزِمهُ القَبولُ، نعمْ لُقَطةُ الحَرَمِ مع كونها للحِفظِ يجبُ تعريفُها.
وإن التقطَ للتملكِ وجبَ أنْ يعرِّفها سنةً على أبوابِ المساجدِ والأسواقِ والمواضعِ التي وجدها فيها على العادةِ، ففي أولِ الأمرِ يُعرِّفُ طرَفي النهارِ، ثمَّ في كلِّ يومٍ مرةً، ثمَّ في كلِّ أسبوعٍ، ثمَّ في كلِّ شهرٍ مرةً بحيثُ لا يُنسى التعريفُ الأولُ ويُعْلَمُ أنَّ هذا تكرارٌ لهُ، فيذكرَ بعضَ أوصافها ولا يستوعِبها.
وإنْ كانت اللقَطةُ يسيرةً وهيَ مما لا يُتأَسَّفُ عليهِ ويُعرَضُ عنهُ غالباً إذا فُقِدَ لمْ يجبْ تعريفها سنةً بلْ زمناً يُظَنُّ أنَّ فاقدها أعرضَ عنها، ثمَّ إذا عرَّفَ سنةً لم ْ تدخلْ في مِلكهِ حتى يختارَ التَّملُّكَ باللفظِ، فإذا اختارهُ ملَكَها، حتى لوْ تَلِفَتْ قبلَ أن يختارَ لمْ يضْمَنْها،
(1/179)


وإذا تملّكها ثمَّ جاءَ صاحبُها يوماً منَ الدهرِ فلهُ أخْذُها بعينها إن كانتْ باقيةً وإلا فمِثلِها أوْ قيمتِها، وإنْ تعيَّبتْ أخذها معَ الأرشِ. ويُكرهُ التقاطُ الفاسقِ ويُنْزعُ منهُ ويُسلَّمُ إلى ثقةٍ، ويُضمُّ إلى الفاسقِ ثقةٌ يُشرفُ عليهِ في التعريفِ ثمَّ يتملَّكُها الفاسقُ، ولا يصحُّ لَقْطُ العبدِ، فإنْ أخذها السيدُ منهُ كانَ السيدُ ملتقِطاً.
وإذا لمْ يُمكنْ حفظُ اللقطةِ كالبطيخِ ونحوهِ يُخيَّرُ بينَ أكلِهِ وبيعهِ ثمَّ يُعرِّفُ سنةً، وإنْ أمكنَ إصلاحُهُ كالرطَبِ فإنْ كانَ الأحظُّ في بيعهِ باعهُ، أوْ تجفيفهُ جَفَّفَهُ.
فصل [التقاطِ المنبوذِ]:
التقاطُ المنبوذِ فرضُ كفايةٍ، فإذا وُجدَ لقيطٌ حُكِمَ بحريتهِ وكذا بإسلامهِ إنْ وُجدَ في بلدٍ فيهِ مسلمٌ وإنْ نفاهُ، فإنْ كانَ معهُ مالٌ متصلٌ بهِ أوْ تحتَ رأسهِ فهوَ لهُ، فإذا التقَطهُ حرٌّ، مسلمٌ، أمينٌ، مقيمٌ، أُقرَّ في يدهِ، ويلزمُهُ الإشهادُ عليهِ وعلى ما معهُ، ويُنفقُ عليهِ منْ مالهِ بإذنِ الحاكمِ، فإنْ لمْ يكنْ حاكمٌ أنفقَ منهُ وأشهدَ، فإنْ لمْ يكنْ لهُ مالٌ فمنْ بيتِ المالِ، وإلا اقتَرَضَ على ذمةِ الطفلِ، وإنْ أخذَهُ عبدٌ، أوْ فاسقٌ، أو منْ يَظعَنُ بهِ منَ الحضرِ إلى الباديةِ، وكذا كافرٌ وهوَ محكومٌ بإسلامِهِ انتُزِعَ منهُ، وإنْ التقطَهُ اثنانِ وتنازعا فالموسرُ المقيمُ أولى.
(1/180)


بابُ المسابقةِ
تجوز على العِوَض بينَ الخيلِ والبِغالِ والحميرِ والإبلِ والفيلةِ، بشرطِ اتحادِ الجنسِ، فلا تجوزُ بينَ بعيرٍ وفرسٍ، ويُشترطُ معرفةُ المرْكوبَيْنِ وقدْرِ العِوَضِ والمسافةِ.
ويجوزُ أنْ يكونَ العِوَضُ منهما أوْ من أحدهما أوْ منْ أجنبيٍّ، فإنْ كانَ منْ أحدهما أوْ منْ أجنبيِّ جازَ بلا شرطٍ، فمنْ سَبَقَ أخذَهُ.
وإنْ كانَ منهما اشتُرطَ أنْ يكونَ معهما مُحَلِّلٌ، وهو ثالثٌ على مركوبٍ كفْءٍ لمركوبيْهما لا يُخرجُ عِوَضاً، فمنْ سبقَ منَ الثلاثةِ أخذَ، وإنْ سبقَ اثنان اشتركا فيه.
[المناضلة]:
وتجوزُ على النَّشَّابِ والرمحِ وآلاتِ الحربِ، والعِوَضُ منهما، أوْ منْ أحدهما أوْ منْ أجنبيٍّ، والمُحَلِّلُ معَهُما إذا كان منهما على ما تقدَّم، ويُشترطُ تعيينُ الرمياتِ، وعددِ الرَّشْقِ، والإصابةِ، وصفةِ الرميِ، والمسافةِ، ومَن البادئُ منهما، ولا تجوزُ بالعِوَضِ على الطيورِ، والأقدامِ، والصَّراعِ. بابُ الوقفِ
هوَ قربةٌ، ولا يصحُّ إلا منْ مُطلَقِ التصرُّفِ، في عينٍ مُعيَّنةٍ، يُنتفعُ بها معَ بقاءِ عينها دائماً، كالعقارِ والحيوانِ، على جهةٍ معيَّنةٍ، غيرِ نفسِهِ، وغيرِ مُحرَّمةٍ، إما قُربةٌ
(1/181)


كالمساجدِ والأقاربِ وسبيلِ الخيرِ، وإما مباحةٌ كالأغنياءِ وأهلِ الذمَّةِ، باللفظِ المنجَّزِ، وهوَ: وقفتُ وحبستُ وسبَّلتُ، أوْ: تصدقْتُ صدقةً لا تباعُ.
فحينئذٍ ينتقِلُ المِلكُ في الرَّقبَةِ إلى اللهِ تعالى، ويملكُ الموقوفُ عليهِ غلَّتَهُ ومنفعته، إلا الوطءَ إنْ كانَ جاريةً.
وينظُرُ فيهِ مَنْ شَرَطَ الواقفُ إما بنفسهِ، أو الموقوفِ عليهِ، أوْ غيرِهما، فإنْ لمْ يَشرِطْ فالحاكمُ، وتُصْرَفُ الغَلَّةُ على ما شَرَطَ مِنَ المفاضَلةِ، والتقديمِ، والجمعِ، والترتيبِ، وغيرِ ذلكَ.
وإنْ وقفَ شيئاً في الذمةَ، أوْ إحدى الدارينِ، أو مطعوماً، أوْ رَيحاناً، أو وقفَ ولم يُعيِّنِ المَصرِفَ، أوْ وقفَ على مجهولٍ، أو على نفسهِ، أو على مُحرَّم كعمارةِ كنيسةٍ، أوْ علَّقَ ابتداءَهُ وانتهاءَهُ على شرطٍ، كقولهِ: إذا جاءَ رأسُ الشهرِ فقدْ وقفتُ، أوْ وقفتُهُ إلى سنةٍ، أوْ على أنَّ لي بيعَهُ، أوْ على منْ لا يجوزُ ثمَّ على منْ يجوزُ، كعَلَى نفسهِ ثمَّ للفقراءِ، بطلَ.
ولوْ وقفَ على مُعيَّنٍ اشتُرِطَ قَبولُهُ، فإنْ رَدَّهُ بطلَ، وإنْ وقفَ على زيدٍ ولمْ يقلْ: وبعدَهُ إلى كذا، صحَّ، ويُصرَفُ بعدَ زيدٍ لفقراءِ أقاربِ الواقفِ، وإنْ وقفَ على عبدٍ نفسِهِ بطلَ، وإنْ أطلقَ فهو لسيدهِ.

بابُ الهبةِ
هيَ مندوبةٌ وللأقاربِ أفضلُ، وتُندبُ التسويةُ فيها
(1/182)


بينَ أولادهِ حتى بينَ الذكرِ والأنثى، وإنما تصحُّ منْ مطلقِ التصرفِ فيما يجوزُ بيعُهُ بإيجابِ مُنَجَّزٍ وقَبولٍ.
ولا تُملكُ إلا بالقبضِِ، فلهُ الرجوعُ قبلهُ، ولا يصحُّ القبضُ إلا بإذنِ الواهبِ، فلو وهبَهُ شيئاً عندهُ، أوْ رهنَهُ إياهُ فلا بدَّ من الإذنِ في قبضهِ ومضيِّ زمن يتأتى فيهِ قبضُهُ والمُضيُّ إليهِ. فإذا ملكَ لم يكن للواهبِ الرجوعُ إلا أن يَهَبَ لولدهِ أوْ ولدِ ولدهِ وإنْ سفلَ، فلهُ الرجوعُ فيهِ بعدَ قبضِهِ بزيادتِهِ المتصلةِ كالسِّمَنِ لا المنفصلةِ كالولدِ، فلوْ حُجرَ على الولدِ بفلَسٍ أو باعَ الموهوبَ ثمَّ عادَ إليهِ فلا رجوعَ.
فإنْ وهَبَ وشَرَطَ ثواباً معْلوماً صحَّ وكانَ بيعاً، أوْ مجهولاً بطلَ، وإنْ لمْ يَشْرطهُ لمْ يلزمْ.

بابُ العتقِِ
هو قربةٌ ولا يصحُّ إلا منْ مُطْلقِ التصرفِ، ويصحُّ بالصَّريحِ بلا نيةٍ، وبالكنايةِ معَ النيةِ.
فصريحُهُ العِتْقُ والحريةُ وفَكَكْتُ رَقَبَتَكَ.
والكنايةُ لا مِلكَ لي عليكَ، ولا سُلطانَ لي عليكَ، وأنتَ لله، وحبْلُكَ على غاربِكَ، وشِبهُ ذلكَ.
ويجوزُ تعليقُهُ على شرْطٍ مثلُ: إذا جاءَ زيدٌ فأنتَ حرٌّ، فإذا علَّقَ بِصِفةٍ لمْ يملِكِ الرجوعَ فيهِ بالقولِ، ويجوزُ
(1/183)


الرجوعُ بالتصرفِ كالبيعِ ونحوهِ، فإن اشتراهُ بعد ذلكَ لمْ تعُد الصفةُ، ويجوزُ في العبدِ وفي بعضهِ، فإنْ أعتقَ بعضَ عبدِهِ عتق كلُّهُ، فإنْ كانَ عبداً بينَ اثنينِ فعتَقَ أحدُهُما نَصيبَهُ عتق، ثمّ إنْ كانَ موسراً عتقَ عليهِ نَصيبُ شريكِهِ في الحالِ، ولزمهُ قيمتُهُ حينئذٍ، وإنْ كانَ مُعسراً عَتَقَ نصيبُهُ فقط.
ومنْ ملَكَ أحدَ الوالدينِ وإنْ علوا أو المولودينَ وإن سفلوا عتقَ عليه، وإنْ ملكَ بعضهُ فإن كانَ برضاهُ وهوَ موسرٌ قُوِّمَ عليهِ الباقي وعتقَ، وإلا فلا، ولوْ أعتقَ الحاملَ عتقتْ هي وحَمْلُها، أو أعتقَ الحمْلَ عتقَ دونها، ولوْ قالَ: أعتقْتُكَ على ألفٍ، أوْ بعتُكَ نفسَكَ بألف وقَبِلَ، عتق ولزمهُ الألف.

بابُ التدبيرِ
التدبيرُ قُرْبَةٌ، وهو أن يقولَ: إذا متُّ فأنتَ حُرٌّ أوْ دبَّرتُك، أوْ أنتَ مدَبَّرٌ. ويعتبرُ منَ الثلُثِ، ويصحُّ منْ مُطلق التصرُفِ وكذا منْ مبذرٍ لا صبيٍّ.
ويجوزُ تعليقُهُ على صفةٍ مثلُ: إنْ دخلتَ الدارَ فأنتَ حرٌّ بعدَ موتي، فيُشترطُ الدخولُ قبلَ الموتِ. وإذا دبَّرَ بعضَ عبدهِ، أوْ كلَّ ما يملكُهُ مَنَ العبدِ المُشترَك، لمْ يسرِ إلى الباقي، ويجوزُ الرجوعُ فيهِ بالتصرُفِ لا بالقولِ.
ولوْ أتت
(1/184)


المدبَّرةُ بولدٍ لمْ يتبعها في التدبيرِ.
فصل [الكتابةِ]
الكتابةُ قربةٌ، تعتبرُ في الصحَّةِ منْ رأسِ المالِ، وفي مرضِ الموتِ منَ الثُلُثِ، ولا تصحُّ إلا منْ جائزِ التصرُفِ، مع عبدٍ بالغٍ عاقلٍ، على عِوَضٍ في الذمةِ، معلومِ الصفةِ، في نَجميْنِ فأكثرَ، يعلمُ ما يؤدي في كلِّ نجمٍ، بإيجاب منجَّزٍ، وهوَ: كاتَبتُكَ على كذا تؤديهِ في نجميْن، كلُّ نجمِ كذا، فإذا أدَّيتَ فأنتَ حُرٌّ. وقَبولٌ.
ولا يجوزُ كتابةُ بعضِ عبدٍ إلا أنْ يكونَ باقيهِ حرّاً، ولا تُستحبُّ إلا لمنْ يُعرَفُ كَسْبُهُ وأمانتُهُ، وللعبدِ فسْخُها متى شاءَ، وليسَ للسيِّدِ فسْخُها إلا أنْ يَعجَزَ المُكاتَبُ عن الأداءِ، وإنْ ماتَ العبدُ انفسخَتْ، أو السيدُ فلا، ويلزمُ السيدَ أنْ يحُطَّ عنهُ جزءاً منَ المالِ وإنْ قلَّ قبلَ العِتقِ، أو يدفَعَهُ إليهِ، وفي النجمِ الأخيرِ أليَقُ، ويُندبُ الربُعُ، فإنْ لمْ يفعلَ حتى قبضَ المال ردَّ عليهِ بعضهُ، ولا يعتقُ المكاتَبُ ولا شيءٌ منهُ ما بقيَ عليهِ شيءٌ.
ويَملك بالعقدِ منافعهُ وأكسابهُ وهو معَ السيدِ كالأجنبيِّ، ولا يتزوجُ ولا يهبُ ولا يعتقُ ولا يُحابي إلا بإذنِ السيدِ، ولا يجوزُ بيعُ المكاتبِ، ولا بيعُ ما في ذمتهِ منَ النجومِ. وولدُ المكاتبةِ يعتقُ إذا عتقتْ.
(1/185)


فصلٌ [في حكمِ أمهاتِ الأولاد]:
إذا أولدَ جاريتَهُ، أوْ جاريةً يملِكُ بعضها أوْ جاريةَ ابنهِ فالولدُ حرٌّ، والجاريةُ أمُّ ولدٍ له، فتعتِقُ بموتهِ ويمتنع بيعُها وهبَتُها.
ويجوزُ استخدامُها وإجارتُها وتزويجُها، وكَسْبُها للسيدِ، وسواءٌ ولدتْهُ حيّاً أوْ ميْتاً، لكنْ لوْ لمْ يُتَصوَّر فيهِ خلقُ آدميٍّ لمْ تَصِرْ أمَّ ولدٍ، ولوْ أولدَ جاريةَ أجنبيٍّ بنِكاحٍ أوْ زِناً فالولدُ مِلكٌ لسيدها، أوْ بشُبهةٍ فهو حرٌّ، فلوْ ملكها بعدَ ذلكَ لمْ تَصِرْ أمَّ ولدٍ.

بابُ الوصيةِ
تصِحُّ من المكلَّفِ الحرِّ ولوْ مبذِّراً، ثمَّ الكلامُ في فصلينِ:
أحدُهُما في نَصْبِ الوصيِّ: وشرطُهُ: التكليفُ، والحريةُ، والعدالةُ، والاهتداءُ للموصَى بهِ، فلوْ أوصى لغيرِ أهلٍ فصارَ عندَ الموتِ أهلاً، أو أوصى لجماعةٍ، أوْ لزيدٍ ثمَّ منْ بعدهِ لعَمروٍ، أو جعلَ للوصيِّ أنْ يوصيَ منْ يختارُ، صحَّ، ولا يتمُّ إلا بالقَبُولِ بعدَ موتِ الموصِي ولوْ على التراخي، ولكلٍّ منهما العزْلُ متى شاءَ. ولا تصحُّ الوصيةُ إلا في معروفٍ وبِرٍّ، كقضاءِ دَينٍ، وحجٍّ، والنظرِ في أمرِ الأولادِ وشبههِ، وليسَ لهُ أنْ يوصيَ على الأولاد وصيّاً والجدُّ أبُ الأبِ حيٌّ أهلٌ للولايةِ.
الفصل الثاني في الموصى بهِ:
تجوزُ الوصيةُ بثُلثِ المالِ
(1/186)


فما دونَهُ، ولا تجوزُ بالزيادةِ عليهِ، والمرادُ ثُلُثَهُ عندَ الموتِ، فإنْ كانَ ورثتُهُ أغنياءَ نُدِبَ استيفاءُ الثُلثِ، وإلا فلا، فإنْ زادَ عليهِ بطلتْ في الزائدِ إنْ لمْ يكنْ لهُ وارثٌ، وكذا إن كان ورُدَّ الزائدُ، فإنْ أجازَهُ صحَّ، ولا تصحُّ الإجازةُ والرَّدُّ إلا بعدَ الموتِ.
وما وصَّى بهِ منَ التبرعاتِ تعتبرُ منَ الثُلثِ، وكذا منَ الواجباتِ إنْ قيَّدهُ بالثلثِ، فإنْ أطلقهُ فمن رأسِ المالِ، وما نجَّزهُ في حياتهِ منَ التبرعاتِ كالوقفِ والعِتقِ والهبةِ وغيرها: فإنْ فعلهُ في الصحَّةِ اعتُبرَ منْ رأسِ المالِ، وإنْ فعلهُ في مرضِ الموتِ، أو في حالِ التحامِ الحربِ، أو تموُّجِ البحرِ، أوِ التقديمِ للقتلِ، أوِ الطَّلْقِ، أوْ بعدَ الولادةِ وقبلَ انفصالِ المشيمةِ، واتصلتْ هذهِ الأشياءُ بالموتِ اعتُبِرَ منَ الثُلثِ وإلا فلا.
فإنْ عجَزَ الثلثُ، عما نجَّزهُ في المرضِ بُدئ بالأولِ فالأول، فإنْ وقعتْ دُفعةً، أو عجَزَ الثُلُثُ عنِ الوصايا -متفرِّقةً كانتْ أو دُفعةً- قُسِّمَ الثلُثُ بينَ الكلِّ، سواءٌ كانَ ثَمَّ عِتْقٌ أمْ لا.
وتلزمُ الوصيةُ بالموتِ إنْ كانت لغيرِ معيَّنٍ كالفقراءِ، فإنْ كانت لمُعيَّنٍ -كزيدٍ- فالمِلكُ موقوفٌ، فإنْ قبل بعدَ الموتِ -ولوْ متراخياً- حُكمَ بأنهُ مِلكُهُ منْ حينِ الموتِ، وإنْ ردَّهُ حُكِمَ بالمِلكِ للوارثِ، وإنْ قَبِلَ ورَدَّ قبْلَ القبضِ سقطَ المِلكُ، أو بعدهُ فلا.
(1/187)


ويجوزُ تعليقُ الوصيةِ على شرطٍ في الحياةِ أوْ بعدَ الموتِ.
ويجوزُ بالمنافعِ والأعيانِ، وبالمعدومِ، كالوصيةِ بما تحْملُ هذهِ الجارية أو الشجرةُ، وبالمجهولِ، وبما لا يقدرُ على تسليمهِ كالآبقِ، وبما لا يملكُهُ الآن، وبما يجوزُ الانتفاعُ بهِ منَ النجاساتِ، كالكلبِ والزيتِ النَّجِسِ، لا بما لا يُنتفعُ بهِ منها كالخَمرِ والخِنزيرِ.
وتجوزُ الوصيةُ: للحربيِّ والذميِّ والمرتدِّ ولقاتلهِ، وكذا لوارثِهِ عندَ الموتِ إنْ أجازها بقيةُ الورثةِ، وللحَمْلِ فتُدفعُ لمنْ عُلِمَ وجودُهُ عندَ الوصيةِ إذا انفصلَ حياً، بأنْ تلدَ لدونِ ستةِ أشهرٍ منَ الوصيةِ، أوْ فوقها ودونَ أربع سنينَ، ولا زوجَ لها ولا سيدَ يطؤها.
وإنْ أوصى لعبدٍ فَقَبِلَ دُفعَ إلى سيدهِ.
وإنْ وصى بشيءٍ ثمَّ رجعَ عن الوصيةِ صحَّ الرجوعُ وبطلت الوصيةُ، وإزالةُ المِلكِ فيهِ كالبيعِ والهبةِ، أوْ تعريضُهُ لزوالِهِ بأنْ دبَّرهُ أوْ كاتَبَهُ أوْ رهنَهُ، أوْ عَرَضَهُ على البيعِ، أوْ أوصى ببيعهِ، أوْ أزالَ اسمَهُ بأنْ طحنَ القمحَ أوْ عجنَ الدقيقَ، أوْ نسجَ الغَزْلَ أوْ خلطهُ -إذا كان مُعيَّناً- بغيرِهِ رُجوعٌ.
وإنْ ماتَ الموصَى لهُ قبلَ الموصِي بطلَتِ الوصيةُ، وإنْ ماتَ بعدَهُ وقبْلَ القَبولِ فلوارثهِ قَبُولُها وردُّها.
(1/188)


كتابُ الفرائضِ
يُبْدَأُ مِنْ تَرِكَةِ المَيِّتِ بِمُؤْنَةِ تَجْهيزِهِ ودَفْنِهِ قَبْلَ الدُّيونِ والوَصايا والإِرْثِ، إلا أنْ يَتَعَلَّقَ بِعَيْنِ التَّرِكةِ حَقٌّ كالزَّكاةِ والرَّهْنِ والجاني، والمبِيعِ إذا ماتَ المُشتَري مُفلِساً، فإنَّ حُقوقَ هؤلاءِ تُقَدَّمُ على مُؤْنةِ التَّجْهيزِ والدَّفْنِ، ثُمَّ بعدَ ذلكَ تُقْضى دُيونُهُ، ثمَّ تُنَفَّذُ وصاياه، ثمَّ تُقَسَّمُ تَرِكَتُهُ بيْنَ وَرَثَتِهِ.
والوارثونَ مِنَ الرِجالِ عَشَرَةٌ: الابْنُ وابْنُهُ وإنْ سفلَ، والأبُ وأَبوهُ وإنْ علا، والأخُ شقيقاً كان أو لأبٍ أو لأُمٍّ، وابنُ الأخِِ الشَّقيقِ أوِ لأبٍ، والعمُّ الشَّقيقُ أو لأبٍ، وابْنهُما، والزَّوجُ والمُعْتِقُ.
والوارثاتُ مِنَ النِّساءِ سَبْعٌ: البنتُ وبِنْتُ الابنِ وإنْ سفلَ، والأُمُّ والجَدَّةُ أُمُّ الأُمِّ، وأُمُّ الأبِ وإنْ عَلتْ، والأُخْتُ شقيقةً كانتْ أَوْ لأبِ أو لأُمٍّ، والزَّوجةُ والمُعْتِقَةُ.
وأمَّا ذَوو الأرحامِ، وهُمْ: أولادُ البناتِ، وأولادُ الأخواتِ، وبَنوهنَّ وبناتُهُنَّ، وبناتُ الإِخوةِ، وبناتُ الأعمامِ، والعَمُّ لِلأُمِّ؛ أيْ: أَخو الأبِ لأمِّهِ، وأبو الأُمِّ، والخالُ والخالةُ، والعمَّةُ، ومنْ أدْلى بهمْ، فلا يَرِثونَ عِنْدنا بطريقِ الأصالةِ بل إذا فسَدَ بَيْتُ المالِ كما سيأتي.
(1/189)


[موانعُ الإرثِ]:
وموانعُ الإرثِ أربعةٌ:
الأولُ القتلُ:
فمَنْ قَتَلَ مُوَرِّثَهُ لمْ يَرِثْهُ، سواءٌ قَتَلَهُ بحَقٍّ كالقِصاصِ، أوْ في الحَدِّ، أو بغَيْرِهِ، خَطأً كانَ أو عمداً، مُباشرةً كانَ أو سبباً، مِثلُ أنْ يشهدَ عليهِ بما يوجبُ القِصاصَ، أو حَفرَ بِئراً فوقَع فيها، والحاصِلُ أنَّهُ لا يَرِثُهُ مَتى كانَ لهُ مدْخَلٌ في قَتْلِهِ بأيِّ طريقٍ كانَ.
الثاني الكُفْرُ:
فلا يرثُ مُسلمٌ منْ كافرٍ، ولا كافرٌ منْ مسلمٍ، ولا يرثُ الكافرُ الحرْبِيُّ إلا منَ الحرْبيِّ، وأمَّا الذمِّيُّ والمُعاهِدُ والمُستَأمَنُ فيَتوارَثونَ بعضهُمْ منْ بعضٍ، وإنِ اخْتلفتْ مِلَلُهُمْ ودارُهُمْ. وأما المُرتدُّ فلا يرِثُ.
الثالثُ الرِّقُّ:
فالرَّقيقُ لا يرثُ، ولا يورَثُ، ومنْ بعْضُهُ حُرٌّ لا يرِثُ، لكنْ يورثُ بما جمعهُ ببعْضِهِ الحُرِّ.
الرابعُ استبهامُ وقتِ الموتِ:
فإذا ماتَ مُتوارثانِ بغرَقٍ أو تحت هدْمٍ ولمْ يُعلمْ السابقُ منْهما، لمْ يرِثْ أحدُهُما منَ الآخرِ.
فصْلٌ في ميراثِ أهلِ الفُرُوضِ، أعني الفروض السِّتَّةَ المذكورةَ في القرآنِ، وهي: النصفُ والرُّبُعُ والثُّمُنُ والثُّلُثانِ والثُّلُثُ والسُّدُسُ.
وهيَ لعَشَرةٍ: الزوجانِ والأبوانِ والبناتُ وبناتُ الابنِ والأخواتُ والجدُّ والجدَّاتُ والإخوةُ والأخواتُ منَ الأمِّ.
1 - الزوج: فلهُ النِّصفُ مع عدمِ ولدٍ، أو ولدِ ابنٍ وارثٍ، ولهُ الربُعُ مع الولدِ، أو ولدِ الابنِ.
(1/190)


2 - الزوجةُ: فلها الربُعُ مع عدمِ الولدِ، أوْ ولدِ ابنٍ وارثٍ، ولها الثُّمُنُ مع الولدِ، أو ولدِ الابنِ. وللزوجتينِ والثلاثِ والأربعِ ما للواحدةِ منَ الربعِ والثمنِ.
3 - الأبُ: فلهُ السُدُسُ مع الابنِ وابنِ الابنِ، فإنْ لمْ يكنْ معهُ ابنٌ ولا ابنُ ابنٍ فهوَ عَصَبَةٌ كما سيأتي.
4 - الأمُّ: فلها الثُلُثُ إذا لمْ يكنْ معها ولدٌ، ولا ولدُ ابنٍ ذكراً كانَ أو أنثى، ولا اثنانِ منَ الإخوةِ والأخواتِ، سواءٌ كانوا أشِقَّاء، أو لأبٍ أو لأمٍّ، ولمْ تكنْ في مسألةِ زوجٍ وأبوينِ، ولا زوجةٍ وأبوينِ.
فإنْ كانَ معها ولدٌ، أو ولدُ ابنٍ، أو اثنانِ من الإخوةِ والأخواتِ فلها السدُسُ.
وإنْ كانتْ في مسألةِ زوجٍ وأبوين، أو زوجةٍ وأبوين، فلها ثُلُثُ ما بقيَ بعدَ فرضِ الزوجِ أو الزوجةِ، والباقي للأبِ، فيأخذُ الزوجُ في الأولى النِّصفَ، ولها السدُسُ لأنهُ ثلُثُ ما بقيَ، والباقي للأبِ، وفي الثانيةِ تأخذُ الزوجةُ الرُبعَ، والأمُّ الربُعَ، لأنهُ ثلُثُ ما بقي، والباقي للأبِ.
5 - البنتُ المفردةُ: فلها النِّصفُ، وللبنتينِ فصاعداً الثُلثانِ.
6 - بنتُ الابنِ فصاعداً لها مع بنتِ الصُّلْبِ المُفردَةِ السُّدُسَ تكملةُ الثلثينِ.
7 - الأختُ المُفردةُ الشقيقةُ فلها النصفُ، ولاثنتينِ فصاعداً الثلثانِ، وإن كانت منَ الأبِ فلها النصفُ، ولاثنتينِ فصاعداً الثلثانِ، وللأختِ من الأبِ فصاعداً مع الشقيقةِ المفردةِ السدُسُ
(1/191)


تكملةُ الثلثينِ.
والأخواتُ الأشِقّاءُ مع البناتِ عَصَبَةٌ، فإنْ فُقِدْنَ فالأخواتُ منَ الأبِ.
مثالُهُ:
أبنتٌ وأختٌ: للبنتِ النصفُ، والباقي للأخت.
ب بنتانِ، وأختٌ شقيقةٌ، وأختٌ لأبٍ: للبنتينِ الثلثانِ، والباقي للشقيقةِ، ولا شيءَ للأخرى.
8 - وأما الجدُّ: فتارةً يكونُ معهُ إخوةٌ وأخواتٌ وتارة لا.
- فإنْ لمْ يكونوا معهُ فلهُ السدُسَ مع الابنِ وابنِ الابنِ، ومع عدمِهِما هوَ عَصَبَةٌ كما سيأتي.
- وإنْ كانَ معهُ إخوةٌ وأخواتٌ أشقاءُ، أو لأبٍ، فتارةً يكونُ معهمْ ذو فرضٍ، وتارةً لا. - فإنْ لمْ يكنْ معهمْ ذو فرضٍ قاسمَ الجدُّ الإخوةَ وعَصَّبَ إناثهُمْ، ما لمْ ينقُصْ ما يخصُّهُ بالمقاسمةِ عنْ ثلُثِ جميعِ المالِ، فإنْ نقصَ فإنَّهُ يُفرضُ لهُ الثُلثُ، ويُجعلُ الباقي للإخوةِ والأخواتِ، للذكرِ مثلُ حظِّ الأنثيينِ، مثالُهُ:
أجدُّ، وأختٌ.
ب جدٌّ وأختانِ.
ج- جدٌّ، وثلاثُ أخواتٍ.
د- جدٌّ، وأربعُ أخواتٍ.
هـ- جدٌّ، وأخٌ.
وجدٌّ، وأخوانِ.
ز- جدٌّ، وأخٌ، وأختٌ.
ح جدٌّ، وأخٌ، وأختانِ.
فيقاسمُ الجدُّ في هذهِ الصور للذكرِ مثلُ حظِّ الأنثيينِ.
- وإنْ كانَ معهُ ذو فرضٍ فُرِضَ لذي الفَرْضِ فرضُهُ ثمَّ يُعطى الجدُّ منَ الباقي الأوفرَ لهُ منْ ثلاثةِ أشياء: إما المقاسمةِ، أو ثلثِ ما يبقى، أو سدُسِ جميعِ المالِ، مثالُهُ:
أزوجٌ، وجدٌّ، وأخٌ: المقاسمةُ خيرٌ لهُ.
ب بنتانِ، وأخوانِ، وجدٌّ: سدُسُ جميعِ المالِ خيرٌ لهُ.
ج- زوجةٌ، وثلاثةُ إخوةٍ، وجدٌّ: ثلُثُ الباقي
(1/192)


خيرٌ لهُ.
د بنتانِ، وأمٌّ، وجدٌّ، وإخوةٌ: للبنتينِ الثلثانِ، وللأمِّ السدُسُ، وللجدِّ السدُسُ، وتسقُطُ الإخوةُ.
- وإنْ اجتمعَ مع الجدِّ الإخوةُ الأشقاءُ، والإخوةُ للأبِ: فإنَّ الأشقاءَ عند المقاسمةِ يَعُدُّونَ على الجدِّ الإخوةَ منَ الأبِ، ثمَّ يأخذونَ نصيبهُمْ، مثالُهُ:
جدٌّ، وأخٌ شقيقٌ، وأخٌ لأبٍ: للجدِّ الثلُثِ، والثلثانِ للأخِ الشقيقِ: الثلُثُ الذي خصَّهُ بالقسْمةِ، والثلُثِ الذي هوَ نصيبُ الأخِ منَ الأبِ، لأن الشقيقَ يحجِبُهُ فيعودُ نفعُهُ إليهِ، فإنْ كانَ الشقيقُ أختاً فردَةً كمَّلَ لها الأخُ منَ الأبِ النصفَ والباقي لهُ. ولا يُفرضُ للأختِ معَ الجدِّ إلا في الأكدَريةِ وهيَ: زوجٌ، وأمٌّ، وجدٌّ، وأختٌ شقيقةٌ: فللزوجِ النصفُ، وللأمِّ الثلثُ، وللجدِّ السدُسُ، استُغْرِقَ المالُ، وليسَ هنا منْ يحجبُ الأختَ عنْ فرضِها فتعولُ المسألةُ بنصيبِ الأختِ، فتقسَمُ منْ تسعةٍ: للزوجةِ ثلاثةٌ منَ التسعةِ، وللأمِّ اثنانِ، يبقى أربعةٌ وهيَ نصيبُ الأختِ والجدِّ، فتُجمعُ وتقسمُ بينها وبينهُ للذكرِ مثلُ حظِّ الأنثيينِ.
9 - الجداتُ: أما الجدَّةُ، فإنْ كانت أمَّ الأمِّ، أوْ أمَّ أمَّ الأمِّ وهكذا. أو أمَّ الأبِ، أو أمَّ أمِّ الأبِ وهكذا، فلها السدُسُ، وإن اجتمعَ جدتانِ في درجةٍ فلهما السدُسُ، مثلُ أمِّ أبٍ، وأمِّ أمٍّ، أو أمِّ أمِّ أبٍ، وأمِّ أبي أبٍ، وإن كانت إحداهما أقربَ فإن كانتِ القُربى منْ جهةِ الأمِّ أسقطتِ البعدى، مثلُ أمِّ أمٍّ وأمِّ أمِّ أبٍ، وإنْ كانَت منْ جهةِ الأبِ لمْ تسقطِ البُعدى، بلْ يشتركانِ في السُدُسِ، مثلَ أمِّ
(1/193)


أبٍ، وأمِّ أمِّ أمٍّ، وأما الجدةُ التي هي أمُّ أبي الأمِّ فلا ترثُ بلْ هي منْ ذوي الأرحامِ كما سبقَ.
10 - وأما الإخوةُ والأخواتُ منَ الأمِّ: فللواحدِ منهم السدُسُ، وللاثنينِ فصاعداً الثلثُ، ذكورُهُمْ وإناثُهُمْ فيهِ سواءٌ.
[خلاصةُ البحثِ]:
تلخصَ من ذلكَ أنَّ:
النصفَ فرضُ خمسةٍ: الزوجُ في حالةٍ، والبنتُ، وبنتُ الابنِ، والأختُ الشقيقةُ، أو لأبٍ.
والرُبُعُ فرضُ اثنينِ: الزوجُ في حالةٍ، والزوجةُ في حالةٍ.
والثُمُنُ فرضٌ للزوجةِ في حالةٍ.
والثلثانِ فرضُ أربعةٍ: البناتُ فصاعداً، أو بناتُ الابنِ فصاعداً، والأختانِ فصاعداً، الشقيقتانِ، أو للأبِ.
والثلُثُ فرضُ اثنينٍ: الأمُّ في حالةٍ، واثنانِ فأكثرُ منْ ولدِ الأمِّ.
وقدْ يُفرضٌ للجدِّ مع الإخوةِ.
والسدُسُ فرضُ سبعةٍ: الأبُ في حالةٍ، والجدُّ في حالةٍ، والأمُّ في حالةٍ، والجدَّةُ في حالةٍ، ولبنتِ الابنِ فصاعداً معَ بنتِ الصُّلْبِ، ولأختٍ أو أخواتٍ لأبٍ مع شقيقةٍ فردَةٍ، ولواحدٍ منَ الإخوةِ للأمِّ. فصلٌ في الحَجبِ:
لا يرثُ الأخُ منَ الأمِّ مع أربعةٍ: الولدِ، وولدِ الابنِ، ذكراً كانَ أو أنثى، والأبُ، والجدُّ.
ولا يرثُ الأخُ الشقيقُ مع ثلاثةٍ: الابنِ، وابنِ الابنِ، والأبِ.
ولا يرثُ الأخُ منَ الأبِ مع أربعةٍ: هؤلاءِ الثلاثةِ والأخِ
(1/194)


الشقيقِ.
ولا يرثُ ابنُ الابنِ فسافلاً مع الابنِ، ولا معَ ابنِ ابنٍِ أقربَ منهُ.
ولا الجداتُ كلُّهنَّ منْ أيِّ جهةٍ كُنَّ مع الأمِّ، ولا الجدُّ والجدَّةُ التي منْ جهةِ الأبِ مع الأبِ.
وإذا استكملَ البناتُ الثلثينِ لمْ ترثْ بناتُ الابنِ إلا أنْ يكونَ في درجتهنَّ، أو أسفلَ منهنَّ ذكرٌ يعصبُهُنَّ، للذكرِ مثلُ حظِّ الأنثيينِ.
مثالُهُ:
بنتانِ، وبنتُ ابنٍ: للبنتينِ الثلثان، ولا شيءَ لبنتِ الابنِ، فلو كانَ معها ابنُ ابنٍ، أو ابنُ ابنِ ابنٍ كانَ الباقي لها ولهُ، للذكرِ مثلُ حظِّ الأنثيينِ.
وإذا استكملت الأخواتُ الأشقاءُ الثلثينِ لم ترثِ الأخواتُ منَ الأب، إلا أنْ يكونَ معهُنَّ أخٌ لهنَّ فيعصبُهُنَّ، للذكرِ مثلُ حظِّ الأنثيينِ.
ومنْ لا يرثُ أصلاً لا يحجُبُ أحداً، ومنْ يرثُ لكنَّهُ محجوبٌ لا يحجُبُ أيضاً حجْبَ حرمانٍ، لكنَّهُ قدْ يحجُبُ حجبَ تنقيصٍ، مثلُ الإخوةِ منَ الأمِّ مع الأبِ والأمِّ لا يرثونَ، ويحجبونَ الأمَّ من الثلثِ إلى السدُسِ.
ومتى زادت الفُروضُ على السِّهامِ أُعيلتْ بالجُزءِ الزائدِ مثلَ مسألِةِ المباهلةِ، وهيَ: زوجٌ، وأمٌّ، وأختٌ شقيقةٌ: فللزوجِ النصفُ، وللأختِ النصفُ، استُغرقَ المالُ، والأمُّ لا تحجبُ، فيُفرضُ لها الثلُثُ، فتعالُ بفرضِ الأمِّ، فتنقسمُ منْ ثمانيةٍ: للزوجِ ثلاثةٌ، وللأختِ ثلاثةٌ، وللأمِّ اثنانِ.
(1/195)


فصلٌ في العصباتِ:
والعصبةُ منْ يأخذُ جميعَ المالِ إذا انفردَ، أو ما يفضُلُ عنْ صاحبِ الفرْضِ إذا اجتمعَ معهُ، فإنْ لمْ يفضُلْ عنْ صاحبِ الفَرْضِ شيءٌ سقطتِ العَصَباتُ. وأقربُ العصباتِ: الابنُ، ثمَّ ابنُ الابنِ وإنْ سفلَ، ثمَّ الأبُ، ثمَّ الجدُّ وإن علا. والأخُ للأبوينِ، ثمَّ للأبِ، ثمَّ ابنُ الأخِ للأبوينِ، ثمَّ ابنُ الأخِ للأبِ، ثمَّ العمُّ، ثمَّ ابنهُ وإنْ سفلَ، ثمَّ عمُّ الأبِ، ثمَّ ابنُهُ، وهكذا.
فإنْ لمْ يكنْ لهُ عصَباتُ نسبٍ فعصباتُ الوَلاءِ، فمنْ عتقَ عليهِ عبدٌ، إما بإعتاقٍ، أو تدبيرٍ، أو كتابةٍ، أو استيلادٍ، أو غيرِ ذلكَ فولاؤهُ لهُ، فإذا ماتَ هذا العتيقُ وليسَ لهُ وارثٌ ذو فرضٍ ولا عصَبَةٌ، ورثهُ المعتِقُ بالولاءِ، فإنْ كانَ المعتِقُ ميتاً انتقلَ الولاءُ إلى عصَباتهِ دونَ سائرِ الورثةِ، يُقدّمُ الأقربُ فالأقربُ على الترتيبِ المُتقدِّمِ، إلا أنَّ الأخَ يشاركُ الجدَّ، وهنا الأخُ مقدَّمٌ على الجدِّ، فإنْ لمْ يكنْ للمعتقِ عصَبَةُ نسبٍ انتقلَ إلى معتقِ المعتقِ، ثمَّ إلى عصبتهِ. وللمعتقِ أيضاً الولاءُ على أولادِ العتيقِ، فيقدَّمُ معتقُ الأبِ على معتقِ الأمِّ.
فلوْ تزوجَ عبدٌ بمعتَقَةٍ فأتتْ بولدٍ فولاؤهُ لمعتقِ الأمِّ، فلوْ عتقَ أبوهُ بعدَ ذلكَ انجرَّ الولاءُ منْ معتقٍ الأمِّ إلى معتِقِ الأبِ.
ولا ترثُ المرأةُ بالولاءِ إلا منْ عتيقها وأولادهِ وعُتقائهِ، فإذا لم يكنْ للميتِ أقارب، ولا ولاءَ عليهِ، انتقلَ مالُهُ إلى بيتِ المالِ إرثاً للمسلمينَ إنْ كانَ السلطانُ عادلاً، فإنْ
(1/196)


لمْ يكنْ عادلاً رُدَّ على ذوي الفروضِ منْ غيرِ الزوجينِ على قدْرِ فروضهم، إنْ كانَ ثَمَّ ذو فرضٍ.
[توريث ذوي الأرحامِ]:
وإلا فيصرفُ إلى ذوي الأرحامِ، فيقامُ كلُّ واحدٍ منهمْ مقامَ منْ يُدلي بهِ، فيُجعلُ ولدُ البناتِ والأخواتِ كأمهاتهمْ، وبناتُ الإخوةِ والأعمامِ كآبائهمْ، وأبو الأمِّ والخالُ والخالةُ كالأمِّ، والعمُّ للأمِّ والعمَّةُ كالأبِ.
ولا يرثُ أحدٌ بالتعصيبِ وثَمَّ أقربَ منهُ، ولا يُعصِّبُ أحدٌ أختهُ، إلا الابنُ، وابنُ الابنِ، والأخُ، فإنهمْ يعصِّبونَ أخواتهمْ للذكرِ مثلُ حظِّ الأنثيينِ، ويعصِّبُ ابنُ الابنِ منْ يحاذيهِ منْ بناتِ عمهِ، ويعصِّبُ منْ فوقهُ منْ عماتهِ وبناتِ عمِّ أبيهِ إذا لمْ يكنْ لهنَّ فرضٌ. ولا يشاركُ عاصبٌ ذا فرضٍ إلا المشرَّكةَ وهي: زوجٌ، وأمٌّ أو جدَّةٌ، واثنانِ فأكثرُ منَ الإخوةِ للأمِّ، وأخٌ شقيقٌ فأكثرُ: للزوجِ النصفُ، وللأمِّ أو الجدَّةِ السدُسُ، وللإخوةِ للأمِّ الثلُثُ يُشاركهم فيهِ الشقيقُ.
ومتى وُجدَ في شخصٍ جهتا فرضٍ وتعصيبٍ، ورِثَ بهما، كابنِ عمٍّ هو زوجٌ، أو ابنُ عمٍّ هوَ أخٌ لأمٍّ.
(1/197)


كتابُ النكاحِ
من احتاجَ إلى النكاحِ منَ الرجالِ ووجدَ أُهبةً نُدبَ لهُ، ومن احتاجَ وفقدَ الأُهبةَ نُدبَ تركهُ، ويَكسرُ شهوتَهُ بالصومِ، ومنْ لمْ يحتجْ إلى النكاحِ وفقدَ الأهبةَ كُرهَ لهُ، ومنْ وجدَها ووُجدَ مانعٌ بهِ منْ هَرَمٍ ومرضٍ دائمٍ لمْ يُكرهْ، لكن الاشتغالُ بالعبادةِ أفضلُ، فإنْ لمْ يتعبدْ فالنكاحُ أفضلُ.
وأما المرأةُ فإن احتاجتْ إلى النكاحِ نُدبَ لها، وإلا فيُكرهُ، ويندبُ أنْ يَتزوجَ بِكراً، وَلوداً، جميلةً، عاقلةً، ديِّنةً نسيبةً، ليست ذاتَ قرابةٍ قريبةٍ.
فإذا عزمَ على نكاحِ امرأةٍ فالسنةُ أنْ ينظرَ إلى وجهها وكفيها قبلَ أنْ يخطِبَها وإنْ لمْ تأذنْ في ذلكَ، ولهُ تكريرُ النظرِ، ولا ينظرُ غيرَ الوجهِ والكفينِ.
ويحرُمُ أنْ ينظرَ الرجلُ إلى شيءٍ من الأجنبيَّةِ حرةً كانت أو أمةً، أو الأمردِ الحسنِ ولوْ بلا شهوةٍ مع أمنِ الفتنةِ، وقيلَ يجوزُ أنْ ينظرَ منَ الأمةِ ما عدا عورتها عندَ الأمنِ.
وينظُرَ إلى زوجتهِ وأمتهِ حتى العورةِ،
(1/198)


لكنْ يُكرهُ نظرُ كلٍّ منَ الزوجينِ إلى فرجِ الآخرِِ.
وينظُرُ العبدُ إلى سيدتهِ، والممسوحُ إلى الأجنبيةِ، والرجلُ إلى محارمهِ، والمرأةُ إلى محرَمِها فيما عدا بينَ السُرةِ والركبةِ، وأما نظرُها إلى غيرِ زوجها ومَحرَمها فحرامٌ، كنظرِهِ إليها، وقيلَ يَحِلُّ أنْ تنظُرَ منهُ ما عدا عورتَهُ عندَ الأمنِ، ويحرُمُ عليها كشفُ شيءٍ منْ بدنها لمراهقٍ، أوْ لامرأةٍ كافرةٍ، فلتحذَرِ النساءُ في الحماماتِ منْ ذلكَ.
ومتى حرُمَ النظرُ حرُمَ اللمسُ، ويباحانِ لفصْدٍ، وحجامةٍ، ومداواةٍ، ويُباحُ النظرُ لشهادةٍ ومعاملةٍ ونحوِهما بقدْرِ الحاجةِ.
[أحكامُ الخِطبةِ]:
ويحرُمُ أنْ يُصرِّحَ أوْ يُعرِّضَ بخطبةِ المُعتدَّةِ منْ غيرِهِ إذا كانتْ رجعيةً، وأما المعتدَّةُ البائنُ بثلاثٍ، أوْْ خُلعٍ، أوْ عن الوفاةِ، فيحرُمُ التصريحُ دونَ التعريضَ، وتحرُمُ الخِطبةُ على خِطبةِ الغيرِ إذا صُرِّحَ لهُ بالإجابةِ إلا بإذنهِ، فإنْ لمْ يُصرَّحْ بإجابتهِ جازَ، ومن استُشيرَ في خاطبٍ فليذكُر مساويَهُ بصدقٍ.
ويُندبُ أنْ يُخطبَ عندَ الخِطبةِ وعندَ العقدِ، ويقولَ: أُزوجكَ على ما أمرَ اللهُ تعالى بهِ منْ إمساكٍ بمعروفٍ أو تسريحٍ بإحسانٍ، ولوْ خطبَ الوليُّ عندَ الإيجابِ فقالَ الزوجُ: الحمدُ للهِ، والصلاةُ والسلامُ على رسولِ اللهِ، قبِلْتُ. صحَّ، لكنَّهُ لا يُندبُ، وقيلَ: يُندبُ.
(1/199)


[أركانُ النكاحِ]:
وللنكاحِ أركانٌ:
1 - الصيغةُ الصريحةُ: ولو بالعَجمية لمن يُحسنُ العربيةَ، لا بالكنايةِ، فلا يصحُّ إلا بإيجابِ مُنَجَّز، وهو زَوَّجْتُكَ، أو أنْكحتُكَ، فقط، وقبول على الفورِ، وهو تزوجْتُ، أو نكحتُ، أو قبِلتُ نكاحها أو تزويجها، فلو اقتصرَ على قبِلتُ، لم ينعقدْ، ولو قال: زوِّجْني، فقال: زوَّجتكَ، صحَّ.
2 - الشهودُ: فلا يصحُّ إلا بحضرةِ شاهدينِ، ذكرينِ، حُرَّيْن، سميعَين، بصيرَيْن، عارفيْنِ بلسانِ المُتعاقدَيْن، مسلمَيْن، عدْلَيْن، ولو مستورَي العدالةِ.
3 - الوليُّ: فلا يصحُّ إلا بوليٍّ ذكرٍ، مكلَّفٍ، حُرٍّ، مُسلمٌ، عدْلٌ، تامِّ النظر، فلا ولايةَ لامرأةٍ، وصبيٍّ، ومجنونٍ، ورقيقٍ، وكافرٍ، وفاسقٍ، وسفيهٍ، ومُختلّ النظرِ بهَرَمٍ وخَبَلٍ، ولا يضرُّ العمى، ويلي الكافرُ مولِّيتهُ الكافرةَ، ولا يليها المسلمُ، إلا السيدُ في أمَتهِ، والسلطانُ في نساءِ أهلِِِ الذمَّةِ، أما الأمة فيزوجها السيدُ ولو فاسقاً، فإن كانت لامرأةٍ زوَّجها من يزوجُ السيدةَ بإذنِ السيدة، فإن كانتِ السيدةُ غير رشيدةٍ زوَّجَها أبو السيدةِ أو جدُّها.
وأما الحرةُ فيزوِّجها عَصَباتها، وأولاهم: الأبُ ثمَّ الجدُّ ثمَّ الأخُ ثمَّ ابنهُ ثمّ العمُّ ثمّ ابنهُ ثمّ المُعتقُ ثمّ عَصبتهُ ثم معتق المعتق ثم عصبته ثم الحاكمُ.
ولا يزوِّجُ أحدٌ منهم وهناكَ من هو أقربُ منهُ، فإن استوى اثنانِ في الدرجةِ وأحدُهُما منْ يُدلي بأبويْنِ والآخرُ بأبٍ فالولي من
(1/200)


يُدلي بأبويْنِ، فإن استويا، فالأوْلى أن يَقدَّمَ أسنُّهما وأعلمُهما وأورعُهُما، فإن زوَّجَ الآخرُ صحَّ، وإنْ تشاحَّا أُقرعَ، وإن زوّجَ غيرُ من خرَجَت قُرعتُهُ صحَّ أيضاً، وإن خرجَ الوليُّ عن أن يكون ولياً بشيءٍ من الموانعِ المتقدِّمةِ، انتقلت الولايةُ إلى من بَعدهُ من الأولياءِ.
ومتى دعت الحرَّةُ إلى كُفءٍ لزمهُ تزويجُها، فإنْ عَضَلها -أي منعها- بين يدي الحاكمِ، أو كان غائباً في مسافةِ القصرِِ، أو كانَ مُحرماً، زوجها الحاكمُ، ولا تنتقلُ الولايةُ إلى الأبعدِ، وإن غابَ إلى دونِ مسافةِ القصرِ لم تُزوَّجْ إلا بإذنهِ، ويجوزُ للوليِّ أن يوَكِّلَ بتزويجها، ولا يجوزُ أن يوكِّلَ إلا من يجوزُ أن يكون ولياً، وللزوجِ أن يوكِّلَ في القبولِ من يَجوزُ أن يقبلَ النكاحَ لنفسهِ ولو عبداً، وليسَ للوليِّ ولا للوكيلِ أن يوجبَ النكاحَ لنفسهِ، فلو أرادَ وليُّها أن يتزوَّجَها كابنِ العمِّ، فوَّضَ العقدَ إلى ابنِ عمٍّ في درجتهِ، فإن فُقدَ فالقاضي، وليس لأحدٍ أن يتولى الإيجابَ والقَبولَ في نكاحٍِ واحدٍ إلا الجدَّ في تزويجِ بنتِ ابنهِ بابنِ ابنهِ.
ثمَّ الوليُّ على قسمينِ: مُجْبِرٌ، وغيرُ مُجْبِرٍ.
فالمُجبِرُ هو الأبُ والجدُّ خاصةً في تزويجِ البكرِ فقط،
(1/201)


وكذا السيدُ في أمتهِ مُطلقاً، ومعنى المُجبِر أنَّ لهُ أن يزوِّجها منْ كُفءٍ بغيرِ رضاها.
وغيرُ المُجبرِ لا يُزوِّجُ إلا برضاها وإذنِها، فمتى كانت بكراً جازَ للأبِ أو الجدِّ تزويجُها بغيرِ إذنها، لكن يُندبُ استئذانُ البالغةِ وإذنُها السكوتُ. وأما الثيِّبُ العاقلةُ فلا يُزوِّجُها أحدٌ إلا بإذنها بعدَ البلوغِ باللفظِ، سواءٌ الأبُ والجدُّ وغيرُهُما، وأما قبلَ البلوغِ فلا تُزوَّجُ أصلاً.
وإن كانت مجنونةً صغيرةً زوَّجها الأبُ أو الجدُّ، أو كبيرةً زوَّجها الأبُ أو الجدُّ أو الحاكمِ، لكن الحاكمُ يزوِّجها للحاجةِ، والأبُ والجدُّ يزوِّجها للحاجة والمصلحةِ.
ولا يلزمُ السيدَ تزويجُ الأمةِ والمُكاتبةِ وإن طَلَبتا.
ولا يُزوِّجُ أحدٌ من الأولياءِ المرأةَ من غيرِ كُفءٍ إلا برضاها ورضا سائرِ الأولياءِ، فإن كان وليُّها الحاكمَ لم تُزوَّجْ من غيرِ كُفءٍ أصلاً وإن رضيت، وإن دَعتْ إلى غيرِ كُفءٍ لم يلزم الوليّ تزويجها، وإن عَيَّنتْ كُفْؤاً وعيَّنَ الوليُّ كُفْؤاً غيرهُ فمنْ عيَّنهُ الوليُّ أوْلى إن كانَ مُجبِراً، وإلا فمَنْ عيَّنَتْهُ أوْلى. والكفاءةُ في: النسَبِ والدِّينِ والحريةِ والصَّنعةِ وسلامة العيوبِ المُثْبِتَةِ للخِيار، فلا يُكافئ العجميُّ عربيةً، ولا غيرُ قُرَشيٍّ قُرشيَّةً، ولا غيرُ هاشميٍّ أو مُطَّلبيٍّ هاشميةً أو مطَّلبيةً، ولا فاسقٌ عفيفةً، ولا عبدٌ حرةً، ولا العتيقُ أو من مسَّ آباءَهُ رِقٌّ حرةَ الأصلِ،
(1/202)


ولا ذو حِرفَةٍ دنيئةٍ بنتَ ذي حِرفةٍ أرفعَ، كخياطٍ بنتَ تاجرٍ، ولا معيبٌ بعيبٍ يُثْبِتُ الخِيارَ سليمةً منهُ، ولا اعتبارَ باليسارِ والشيخوخةِ، فمتى زوَّجها بغَيْرِ كُفءٍ بغَيرِ رضاها ورِضا الأولياءِ الذينَ هم في درَجتهِ فالنِّكاحُ باطلٌ، وإن رَضُوا أو رضيَتْ فليسَ للأبعدِ اعتراضٌ.
وإذا رأى الأبُ أو الجدُّ المصلحةَ في تزويجِ الصغيرِ والصغيرةِ زوَّجهُ، وليس له أن يزوِّجهُ أمَةً ولا مَعيبةً، وإن كانَ سفيهاً أو مجنوناً مُطْْبقاً واحتاجَ إلى النّكاحِ زوَّجهُ الأبُ أو الجدُّ، أو الحاكمُ، فإن أذِنوا للسفيهِ أن يَعقِدَ لنفْسِهِ جازَ، وإن عقَدَ بلا إذنٍ فباطلٌ، وإن كانَ مِطلاقاً تَسرَّى جاريةً واحدةً.
والعبدُ الصغيرُ يُزوِّجُهُ السيدُ، والكبيرُ يتزوَّجُ بإذنهِ وليسَ للسيدِ إجبارُهُ على النكاحِ، ولا للعبدِ إجبارُ السيدِ عليهِ.
فصل [تسليمُ الزوجةِ]:
يجبُ تسليمُ المرأةِ على الفورِ إذا طَلَبها في منزلِ الزوجِ إن كانتْ تُطيقُ الاستمتاعَ، فإنْ سألتِ الانتظارَ أُنظِرَتْ، وأكثرُهُ ثلاثةُ أيامٍ، فإنْ كانتْ أمةً لمْ يجبْ تسليمُها إلا بالليلِ، وهي بالنهارِ عندَ السيدِ.
والمُستحبُّ أن يأخذَ الزوجُ بناصِيَتها أولَ ما يلقاها، ويدعو بالبركةِ، ويملِكُ الاستمتاعَ بها منْ غيرِ إضرارٍ، ولهُ أن
(1/203)


يسافرَ بها إنْ كانتْ حرةً، ولهُ أن يَعزلَ عنها حرَّةً كانت أو أمةً، لكن الأولى أنْ لا يفعلَ، ولهُ أنْ يُلزِمها بما يَتوقفُ الاستمتاعُ عليهِ، كالغُسلِ منَ الحيضِ، وبما يتوقفُ عليهِ كمالُ اللذاتِ، كالغُسلِ من الجنابةِ، والاستحدادُ، وإزالةُ الأوساخِ.
فصل [ما يحرمُ من النكاحِ]:
يَحرُمُ نكاحُ: الأمِّ والجداتِ وإن عَلوْنَ، والبناتِ وبناتِ الأولادِ وإنْ سَفَلْنَ، والأخواتُ وبناتُ الإخوةِ والأخواتِ وإنْ سَفَلْنَ، والعماتِ والخالاتِ وإنْ عَلوْنَ، وأمِّ الزوجةِ وجدّاتها، وأزواجِ آبائهِ وأولادهِ، هؤلاءٍ كلَهنَّ يَحرُمْنَ بمُجردِ العقدِ، وأما بنتُ زوجتهِ فلا تحرُمُ إلا بالدخولِ بالأمِّ، فإنْ أبانَ الأمَّ قبلَ الدخولِ بها حلتْ لهُ بنتُها.
ويَحرُمُ عليهِ مَنْ وطِئها أحدُ آبائهِ أو أبنائهِ بمِلكٍ أو شبهةٍ، وأمهاتُ موْطوآتهِ هو بمِلكٍ أو شُبهةٍ، وبناتها.
كلُّ ذلكَ تحريماً مؤَبداً.
ويَحرُمُ أن يجمعَ بين المرأةِ وأختِها أو عمتِها أو خالتِها، وإنْ تزوّجَ امرأةً ثمَّ وَطِئَها أبوهُ، أو ابنُهُ بِشُبْهةٍ، أو وطئَ هو أمَّها أو بنتها بشُبهةٍ انفسخَ نكاحُها، ومنْ حَرُمَ منْ ذلكَ بالنسبِ حَرُمَ بالرضاعِ.
ومنْ حَرُمَ نكاحُها ممَّنْ ذكرناهُ حَرُمَ وطْؤها بمِلكِ اليمينِ، ومنْ وطِئ أَمَتَهُ ثمَّ تزوجَ أُختها أو عمتَها أو خالتَها حلَّت لهُ المنكوحةُ وحَرُمتِ المملوكةُ.
(1/204)


ويَحرُمُ على المُسلمِ نكاحُ المجوسيةِ، والوثنيةِ، والمرتدةِ، ومنْ أحدُ أبويها كتابيٌّ والآخرُ مجوسيٌّ، والأمةِ الكتابيةِ، وجاريةِ ابنهِ، وجاريةِ نفسِهِ، ومالكتِهِ، لكنْ يجوزُ وَطْءُ الأمَةِ الكتابيةِ بمِلكِ اليمينِ، وتَحرُمُ المُلاعنةُ على المُلاعِنِ، ونكاحُ المُحْرِمةِ والمُعتدَّةِ من غيرهِ.
ويَحرُمُ على الحرِّ أنْ يجمعَ بينَ أكثرِ منْ أربعٍ، والأوْلى الاقتصارُ على واحدةٍ، ولهُ أنْ يطأَ بمِلكِ اليمينِ ما شاءَ، ويحرُمُ على العبدِ أكثرُ من اثنتينِ، ويحرُمُ على الحُرِّ نِكاحُ الأمةِ المُسلمةِ إلا:
1 - أنْ يخاف العَنَتَ، وهو الوقوعُ في الزنا.
2 - وليسَ عندهُ حرةٌ تصلحُ للاستمتاعِ.
3 - وعَجَزَ عنْ صَداقِ حُرَّةٍ أوْ ثمنِ جاريةٍ تصلحُ.
ولا يصحُّ نكاحُ الشِّغارِ ونكاحُ المُتعةِ، وهوَ أنْ يَنْكِحها إلى مُدةٍ، ولا نكاحُ المُحَلِّلِ وهو أنْ ينْكحها ليُحلِّلَها للذي طلقَها ثلاثاً، فإنْ عَقدَ لذلكَ ولمْ يَشْتَرِطْ صحَّ.
فصل [فيما يُثبتُ الخيار من العيوب]:
إذا وجدَ أحدُهُما الآخرَ: مجنوناً، أوْ مجذوماً، أو أبرصَ، أو وجدها: رَتْقاءَ، أو قَرْناءَ، أو وجدتهُ عِنِّيناً، أو مَجْبوباً، ثبتَ الخيارُ في فسخِ العقدِ على الفورِ عند الحاكمِ، سواءٌ كانَ بهِ مثلُ ذلكَ العيبُ أم لا، ولوْ حدثَ العيبُ ثبتَ الخيارُ أيضاً، إلا أنْ تَحدُثَ العُنَّةُ بعدَ أنْ يَطأها فلا خيار.
(1/205)


وإذا أقرَّ بالعُنَّةِ أجَّلهُ الحاكمُ سنةً منْ يومِ المُرافعةِ إليهِ، فإنْ جامَعَ فيها فلا فسخَ لها وإلا فلها الفسخُ.
والمُرادُ بالفوْرِ في العُنَّةِ عَقِيبَ السنة.
ومتى وقعَ الفَسْخُ فإن كانَ قبلَ الدخولِ فلا مهرَ، أو بعدهُ بعيبٍ حدث بعدَ الوطءِ وجبَ المُسمَّى، أو بعيبٍ حدثَ قَبلهُ فمَهرُ المِثلِ.
وإنْ شرطَ أنها حرةٌ فبانتْ أمةً وهو ممنْ يَحلُّ لهُ نكاحُ الأمةِ تخيَّرَ.
وإنْ شَرطَ أنها أمةٌ فبانتْ حُرةً، أو لمْ يشترِطْ فبانتْ أمةً أو كتابيةً فلا خيار.
وإنْ تزوّجَ عبدٌ بأمةٍ فأعتِقتَ فلها أنْ تفسخَ نكاحَهُ على الفورِ منْ غيرِ الحاكمِ، وإذا أسلمَ أحدُ الزوجينِ الوَثَنِيَّينِ أو المجوسيَّينِ، أو أسلمت المرأةُ والزوجُ يهوديٌّ أو نصرانيٌّ، أو ارتدَّ الزوجان المُسلمانِ أو أحدهُما، فإنْ كانَ قبلَ الدخولِ تعجَّلتِ الفُرقةُ، وإن كانَ بعدهُ توقَّفتْ على انقضاءِ العِدّةِ، فإنْ اجتمعا على الإسلامِ قَبْلَ انقضائها دامَ النكاحُ، وإلا حُكِمَ بالفُرْقةِ منْ حينِ تبديلِ الدِّينِ، وإنْ أسلمَ على أكثر منْ أربعٍ اختارَ أربعاً منهنَّ.
(1/206)


كتابُ الصَّداق
يُسَنُّ تسميتُهُ في العقدِ، فإنْ لم يُذكرْ لمْ يَضرَّ.
ولا يُزوِّجُ ابنتهُ الصغيرةَ بأقلَّ منْ مهرِ المثلِ، ولا ابنَهُ الصغيرَ بأكثرَ منْ مهرِ المِثلِ، فإنْ فعلَ بطَلَ المُسمَّى ووجبَ مهرُ المثلِ، ولا يتزوجُ السفيهُ والعبدُ بأكثرَ منْ مهرِ المثلِ.
وكلُّ ما جازَ أنْ يكونَ ثمناً جازَ جَعْلُهُ صَداقاً، ويجوزُ حالاًّ ومؤجَّلاً وعيناً وديْناً ومنفعةً، وتَمْلِكُهُ بالتسميةِ، وتتصرفُ فيهِ بالقبضِ، ويَستقِرُّ بالدخولِ أوْ بموتِ أحدهِما قبلَ الدخولِ.
ولها أنْ تَمْتَنِعَ منْ تسليمِ نفسها حتى تقبِضَهُ إنْ كانَ حالاًّ، فإنْ سَلَّمتْ نفسَها إليهِ فوطئها قبلَ القبضِ سقطَ حقها منَ الامتناعِ.
وإنْ وردتْ فُرْقَةٌ منْ جهتِها قبلَ الدخولِ بأنْ أسلَمتْ أو ارتدَّتْ سقَطَ المهرُ، أو منْ جِهتِهِ بأنْ أسلمَ أو ارتدَّ أو طلَّقَ، سقطَ نِصفُهُ، ويرجعُ في نصفهِ إن كانَ باقياً بعينهِ، وإلا فنصفُ قيمتهِ أقلَّ ما كانتْ من العقدِ إلى التلفِ، فإنْ كانَ زائداً زيادةً مُنفَصِلةً رجَعَ في النصفِ دونَ الزيادةِ، أوْ متصلةً تَخيَّرتْ بينَ ردِّهِ زائداً وبينَ نصفِ قيمتهِ، وإن كانَ ناقصاً تخيَّرَ بينَ أخذهِ ناقصاً وبينَ نصفِ قيمتهِ.
(1/207)


ثمَّ مهرُ المثلِ هو ما يُرغبُ بهِ في مثلها، فَيُعتبَرُ بمنْ يُساويها منْ نساءِ عصباتِها في السنِّ والعقلِ والجمالِ واليَسارِ والثُّيوبةِ والبَكارةِ والبلدِ، فإنْ اختصَّتْ بمزيدِ أوْ نقصٍ روعيَ ذلكَ، فإنْ لمْ يكنْ لها عَصَباتٌ منَ النساءِ فبالأرحامِ، وإلا فبنساءِ بلدِها ومنْ يُشبِهُها.
وإذا أُعسرَ بالمهرِ قبلَ الدُّخولِ فلها الفسخُ، أو بعدهُ فلا، فإنْ اختلفا في قبضِ الصَداقِ فالقولُ قولُها، أو في الوَطْءِ فقولهُ.
ومنْ وطِئ امرأةً بشبهةٍ، أو نكاحٍ فاسدٍ، أو زناً وهيَ مُكرهةٌ، لزمهُ مهرُ المثلِ، وإنْ طاوعتْهُ على الزنا فلا مهرَ لها.
وحيثُ طُلِّقَتْ وشُطِّرَ المهرُ لا مُتْعةَ، وحيثُ لمْ يتَشطَّرْ إما بأنْ لا يجبَ شيءٌ كالمُفوِّضَةِ إذا طُلقتْ قبلَ الدخولِ والفَرضِ، أو بأنْ يجبَ الكلُّ كالطلاقِ بعدَ الدخولِ، وجبَ لها المُتْعةُ، وهي: شيءٌ يقدرُهُ القاضي باجتهادِهِ، ويُعتبرُ فيهِ حالُ الزوجينِ.
فصل [وليمةِ العُرس]:
وليمةُ العرسِ سُنَّةٌ، والسنةُ أنْ يولمَ بشاةٍ، ويجوزُ ما تيَسرَ منَ الطعامِ، ومنْ دُعيَ إليها لزمتهُ الإجابةُ صائماً كانَ أو مُفطراً، فإذا حضرَ نُدبَ لهُ الأكلُ ولا يجبُ، فإنْ كانَ صائماً تَطوُّعاً ولمْ يَشُقَّ على صاحبِ الوليمةِ صَومُهُ فإتمامُ الصومِ أفضلُ، وإن شقَّ عليهِ صَومُهُ
(1/208)


فالفِطْرُ أفضلُ. ولوجوبِ الإجابةِ شروطٌ:
1 - أنْ لا يَخُصَّ بها الأغنياءَ دونَ الفقراءِ.
2 - وأنْ يدْعوهُ في اليومِ الأولِ، فإنْ أولَمَ ثلاثةَ أيامٍ فدعاهُ في اليومِ الثاني لمْ يجبْ، أوْ في الثالثِ كُرهتْ إجابتُهُ.
3 - وأنْ لا يُحضِرَهُ لخوْفٍ منهُ أوْ طمعاً في جاهِهِ. 4 - وأنْ لا يكونَ ثَمَّ منْ يتأذى، أو لا تليقُ بهِ مجالستُهُ، ولا مُنكَرٌ منْ زمْرٍ وخَمْرٍ، وفُرُشٍ وحريرٍ، وصوَرَ حيوانٍ على سقفٍ أو جدارٍ أوْ وِسادةٍ منصوبةٍ، وسَترٍ أو ثوبٍ مكتوبٍ عليهِ منكرٌ وغير ذلكَ.
فإنْ كانَ المنكرُ يزولُ بحضورهِ، أو كانت الصورُ على الأرضِ في بساطٍ أوْ مخدَّةٍ يتكئُ عليها، أو مقطوعةَ الرأسِ، أوْ صُوَرَ الشجرِ فليَحضُرْ.
ولا يُكرهُ نثرُ السُّكَّرِ ونحوِهِ في الإملاكاتِ، بلْ هوَ خلافُ الأولى، والتقاطُهُ أيضاً خلافُ الأولى.

بابُ معاشرةِ الأزواج
يَجبُ على كلِّ واحدٍ منَ الزوجينِ المعاشرَة بالمعروفِ، وبَذْل ما يلزمُهُ منْ غيرِ مَطلٍ ولا إظهارِ كراهةٍ، ويَحرُمُ على الرجلِ أنْ يُسكِنَ زوجتينِ في مسكنٍ واحدٍ إلا برضاهما، ولهُ أنْ يَمنعها منَ الخروجِ منْ منزلهِ، فإنْ ماتَ لها قريبٌ استُحبَّ أن يأذنَ لها في الخروج.
[القَسْم]:
ومنْ لهُ نساءٌ لا
(1/209)


يجبُ أنْ يقسِمَ لهنَّ بلْ لهُ الإعراضُ عنهنَّ بلا إثمٍ، وليسَ لهُ أن يبتدئ المبيتَ عندَ إحداهنَّ إلا بالقُرعةِ، فإنْ باتَ عندَ واحدةٍ منهنَّ لزِمهُ المبيتُ عندَ الباقياتِ بِقَدرِهِ، فإذا أرادَ القسْمَ أقرعَ، فمنْ خرجت قُرعتُها قدَّمها، ويَقسِمُ للحائضِ والنفسَاءِ والمريضةِ والرَّتْقاءَ، فإنْ كانَ معهُ حُرةٌ وأمةٌ قسمَ للحرةِ مثلَ ما للأمةِ مرتينِ، وأقلُّ القسْم ليلةٌ، ويتبعها يومٌ قبلها أو بعدها، وأكثرُهُ ثلاثةُ أيامٍ، ولا يُزادُ على ذلكَ، وعِمادُ القسْمِ الليلُ، والنهارُ تابعٌ لمنْ معيشتُهُ بالنهار، فإنْ كانت معيشتُهُ بالليلِ كالحارسِ فعمادُ قسْمهِ بالنهارِ.
ولا يجبُ عليهِ وَطْءٌ، لكنْ تُندبُ التسويةُ بينهنَّ فيهِ وفي سائرِ الاستمتاعاتِ، وإنْ أرادَ أنْ يُسافرَ بامرأةٍ منهنَّ لمْ يَجُزْ إلا بقُرعةٍ، فإنْ سافرَ بقُرعةٍ لمْ يقضِ للمقيمةِ، وإنْ سافرَ بها بغيرِ قُرعةٍ أثِمَ ولزِمَهُ القضاءُ.
ومنْ وهبَتْ حقَّها منَ القسْمِ لبعضِ ضرائرها برِضا الزوجِ جازَ، وإنْ وهبَتْ للزوجِ جعلهُ لمنْ شاءَ منهنَّ، فإنْ رجعتْ في الهبةِ عادتْ إلى الدَّورِ منْ يومِ الرجوعِ، ولا يجوزُ أنْ يدخلَ على امرأةٍ في نوْبةِ أخرى بلا شُغلٍ، فإنْ دخلَ بالنهارِ لحاجةٍ، أو بالليلِ لضرورةٍ جازَ، وإلا فلا، وإنْ أقامَ لزِمهُ القضاءُ.
وإنْ تزوَّجَ جديدةً وعندهُ
(1/210)


غيرُها قطعَ الدَّورَ للجديدةِ، فإنْ كانتْ بِكراً أقامَ عندها سبْعاً ولمْ يقضِ، وإنْ كانتْ ثيِّباً فهوَ بالخيارِ بينَ أن يقيمَ عندها سبْعاً ويقضي، وبينَ أنْ يقيمَ ثلاثاً ولا يقضي، ويُندبُ لهُ أن يُخيِّرَها بينهُما، فإنْ أقامَ سبعاً بطلَبها قضى السَّبْعَ، أوْ بدونهِ قضى أربعاً فقطْ، ولهُ الخروجُ نهاراً لقضاءِ الحاجاتِ والحُقوقِ.
ومنْ ملَكَ إماءً لمْ يَلزمْهُ أنْ يقسِمَ لهنَّ، ويُندبُ أنْ لا يُعَطلهنَّ من الوَطْءِ، وأن يُسوِّيَ بينهنَّ فيهِ.
وإذا رأى منَ المرأةِ أماراتِ النُّشوزِ وَعَظَها بالكلامِ، وإنْ صرَّحتْ بالنُّشوزِ هجَرها في الفراشِ دونَ الكلامِ، وضَرَبَها ضَرْباً غيرَ مُبَرِّحٍ، أي: لا يَكسِرُ عَظْماً، ولا يَجْرحُ لَحماً، ولا يَنهرُ دماً، سواءٌ نَشَزَتْ مرةً أو تكررَ منها، وقيلَ: لا يَضرِبها إلا إذا تكررَ نشوزُها.

بابُ النفقاتِ
يجِبُ على الزَّوْجِ نَفَقَةُ زَوْجتهِ يوْماً بيومٍ، فإنْ كانَ مُوسِراً لَزِمَهُ مُدَّانِ مِنَ الحَبِّ المُقتاتِ في البلدِ، وإنْ كانَ مُعْسِراً فَمُدٌّ، وإنْ كانَ مُتَوَسِّطاً فمُدٌّ ونصفٌ، ويَلْزَمُهُ معَ ذلكَ أُجْرةُ الطَّحْنِ والخَبْزِ والأُدمِ على حسبِ عادةِ البلدِ منَ اللَّحْمِ والدُّهْنِ وغيرِ ذلكَ، فإنْ تراضَيا على أخْذِ العِوضِ
(1/211)


عن ذلكَ جازَ.
ولها ما تحْتاجُ إليهِ مِنَ الدُّهنِ للرَّأسِ، والسِّدْرِ، والمِشْطِ، وثَمنِ ماءِ الاغتسالِ إنْ كانَ سببُهُ جِماعاً أو نفاساً، فإنْ كانَ سببُهُ حيْضاً أو غيرَ ذلكَ لمْ يلْزمْهُ.
ولا يلزمهُ ثمنُ الطِّيبِ، ولا أُجرةُ الطَّبيبِ، ولا شراءُ الأدويةِ ونحْوِ ذلكَ.
ويجِبُ لها منَ الكِسْوةِ ما جرَتْ بهِ العادةُ في البلدِ منْ ثيابِ البدَنِ والفرْشِ والغِطاءِ والوِسادةِ على حسبِ ما يليقُ بيسارهِ وإعسارهِ.
ويجِبُ تسْليمُ النَّفقةِ إليْها منْ أوَّلِ النَّهار، وتسليمُ الكِسْوةِ منْ أوَّلِ الفَصْلِ، فإنْ أعطاها كِسْوةَ مُدَّةٍ فبَلِيَتْ قبْلها لمْ يلزمْهُ إبدالُها، وإنْ بَقِيَتْ بعدَ المُدَّةِ لزِمهُ التجديدُ، ولها أنْ تتصرَّفَ في كِسْوتها بالبيْعِ وغيرِهِ.
ويَجبُ لها سُكْنى مِثْلِها، وإنْ كانتْ تُخْدمُ في بيْتِ أبيها لزِمَهُ إِخْدامُها، وتلزمُهُ نفقةُ الخادمِ إذا كانَ مِلْكَها.
وإنَّما تَلْزمُهُ النَّفقةُ إذا سلَّمَتْ المَرأَةُ نفسها إليهِ، أو عرضتْ نفسها عليهِ، أو عرضها وليُّها إنْ كانتْ صغيرةً، سواءٌ كانَ الزَّوْجُ كبيراً أو صغيراً لا يتأتَّى مِنْهُ الوَطْء، إلاَّ أنْ تُسلَّمَ وهيَ صغيرةٌ ولا يمكنُ وَطْؤُها فلا نفقةَ لها.
وشرطُ ذلكَ أيْضاً أنْ تُمكِّنَهُ التَّمْكينَ التَّامَّ بِحَيْثُ لا تَمْتَنِعُ منْهُ في ليلٍ أو نهارٍ، فلوْ نَشَزَت ولوْ في ساعةٍ، أو سافرت بغيرِ إذْنهِ،
(1/212)


أو بإذنِهِ لحاجتها، أو أحْرَمَتْ أو صامَتْ تطُّوُّعاً بغْيرِ إذنهِ، أو كانت أَمَةً فسلَّمها السَّيِّدُ ليْلاً فقطْ، فلا نفقةَ لها.
وأمَّا المُعتَدَّةُ فيجبُ لها السُّكنى في مدَّةِ العدَّةِ، سواءٌ كانتِ العدَّةُ عدَّةَ وفاةٍ أو رجعيَّةٍ أو بائنٍ. وأمَّا النفقةُ فلا تجبُ في عدَّةِ الوفاةِ، وتجبُ للرَّجعيَّةِ مُطْلقاً، وللبائنِ إنْ كانتْ حاملاً، يَدْفعُ إليها يوماً بيومٍ.
وإنْ لمْ تكُنْ البائنُ حاملاً فلا نفقةَ لها، والكِسوةُ كالنَّفقةِ.
وإنِ اختلفَ الزَّوْجانِ في قبْضِ النفقةِ فالقوْلُ قولُها، وإن اختلفا في التَّمْكينِ فالقولُ قولُهُ، إلا أنْ يَعترفَ بأنَّها مكَّنتْ أوَّلاً ثُمَّ يدَّعي النُّشوزَ فالقولُ قولها.
ومتى تركَ الإنفاقَ عليها مُدَّةً صارت النفقةُ عليهِ ديْناً، وإذا أعْسَرَ بنفقةِ المُعْسرينَ أو بالكِسْوةِ أو بالسُّكنى، ثبتَ لها فسخُ النِّكاحِ، فإنْ شاءتْ صبرَتْ وبقيَ ذلكَ لها في ذمَّتهِ. وإنْ أعسرَ بالأُدْمِ، أو بنفقةِ الخادمِ، أو بنفقةِ الموسِرينَ أو المتوسِّطينَ فلا فسخَ لها.
وإنْ كانَ الزَّوْجُ عبْداً فالنَّفقةُ في كسْبهِ، وإلا ففيما في يدهِ إنْ كانَ مأذوناً لهُ في التِّجارةِ، وإلا فإنْ شاءتْ فسخَتْ وإنْ شاءتْ صبرَتْ إلى أنْ يَعتِقَ فتأخُذَ منْهُ.
فصل [النفقةُ على الأقرباء]:
يجبُ على الشَّخصِ -ذكراً كانَ أو أنثى- إذا فَضَلَ عنْ نفقتِهِ ونفقةِ زوْجتِهِ أنْ يُنفقَ على الآباءِ
(1/213)


والأمَّهاتِ وإنْ علَوْا منْ أيَّ جهةٍ كانوا، وعلى الأولادِ وأولادهم وإنْ سفلوا، ذكوراً كانوا أو إناثاً، بشرطِ الفقْرِ والعَجْزِ إمَّا بزَمانةٍ أو طُفولةٍ أو جنونٍ. وتجِبُ نفَقَةُ زوجةِ الأبِ، فإنْ كانَ لهُ آباءٌ وأولادٌ ولمْ يقدِرْ على نفقةِ الكُلِّ قدَّمَ الأمَّ ثمَّ الأبَ ثمَّ الابنَ الصغيرَ ثمَّ الكبيرَ، وهذه النَّفقةُ مُقدَّرةٌ بالكفايةِ، ولا تسْتقِرُّ في الذِّمَّةِ.
وإن احتاجَ الوالدُ المُعْسِرُ إلى النِّكاحِ لزِمَ الولدَ المُوسِرَ إعْفافُهُ بالتَّزويجِ أو التَّسَرِّي.
ومنْ ملكَ رَقيقاً أو دوابَّ لزمَهُ النَّفقةُ والكِسْوةُ، فإن امتنعَ ألْزَمَهُ الحاكمُ، فإنْ لمْ يكُنْ لهُ مالٌ أَكْرى عليهِ إنْ أمكَنَ، وإلا بيعَ عليْهِ.
فصل [الحضانةِ]:
أحَقُّ النَّاسِ بحضانةِ الطِّفْلِ الأُمُّ، ثمَّ أُمَّهاتُها المُدْلياتِ بإناثٍ، تُقدَّمُ القُرْبى فالقُرْبى، ثمَّ الأبُ، ثمَّ أُمَّهاتُهُ كذلكَ، ثمَّ أبوهُ ثمَّ أُمَّهاتُهُ كذلكَ، ثمَّ الأُختُ الشَّقيقةُ، ثمَّ الأخُ الشَّقيقُ، ثمَّ للأبِ، ثمَّ للأمِّ، ثمَّ الخالةُ، ثمَّ بناتُ الإخوةِ للأبوينِ، ثمَّ بنوهمْ، ثمَّ للأبِ، ثمَّ بنوهمْ، ثم للأم، ثم العمة، ثم العم، ثم بنات الخالة، ثمَّ بنات العمِّ، ثمَّ ابنُ العمِّ.
وشرطُ الحاضِنِ: العدالةُ والعقْلُ والحُريَّةُ، وكذا الإسلامُ إنْ كانَ الطِّفلُ مُسْلماً، ولا حقَّ للمَرْأةِ إذا نُكِحَتْ إلا أنْ تَنْكحَ منْ لهُ حضانتُهُ.
وإذا بلغَ الصَّغيرُ حدَّاً يُميِّزُ
(1/214)


فيهِ خُيِّرَ بينَ أبَوَيْهِ، فإن اختارَ أحدَهُما سُلِّمَ إليهِ، لكنْ إن اختارَ الابنُ أُمَّهُ كانَ عندَ أبيهِ بالنَّهارِ ليُعلِّمَهُ ويُؤدِّبهُ، فإنْ عادَ واختارَ الآخرَ دُفعَ إليهِ، فإنْ عادَ واختارَ الأوَّلَ أُعيدَ إليهِ، وهكذا إلى أنْ يَظْهرَ منهُ بهذا ولعٌ وخَبَلٌ.

بابُ الطَّلاقِ
يَصحُّ الطلاقُ منْ كلِّ زوجٍ، عاقلٍ، بالغٍ، مُختارٍ، فلا يصحُّ طلاقُ صبيٍّ ومجنونٍ ومُكرهٍ بغيرِ حقٍّ، مثلُ أن هُدِّدَ بقتلٍ أو قطعِ عُضوٍ أو ضربٍ مُبَرِّحٍ، وكذا شَتْمٍ أوْ ضرْبٍ يسيرٍ وهو منْ ذوي المُرُوءاتِ والأَقدارِ.
ومنْ زالَ عقلُهُ بسببٍ لا يُعْذَرُ فيه -كالسَّكرانِِ، ومنْ شربَ دواءً يُزيلُ العَقْلَ بلا حاجةٍ- يقعُ طلاقُهُ.
ولهُ أن يُطلِّقَ بنفسِهِ، ولهُ أن يُوكِّلَ ولو امْرأةً، وللوكيلِ أن يُطلِّقَ متى شاءَ، لكنْ إذا قالَ لزوجتهِ: طلِّقي نفسَكِ. فقالتْ على الفورِ: طلَّقتُ نفسي. طُلِّقَتْ، وإنْ أخَّرَتْ فلا، إلا أن يقولَ: طلِّقي نفسكِ متى شئتِ.
ويملِكُ الحُرُّ ثلاثَ تطْليقاتٍ، والعبدُ طلقتينِ.
ويُكرهُ الطَّلاقُ منْ غيرِ حاجةٍ، والثلاثُ أشدُّ، وجَمْعُها في طُهرٍ واحدٍ أشدُّ. ثمَّ الطَّلاقُ على أقسامٍ:
سنِّيٌّ، وبِدْعِيٌّ مُحرَّمٌ، وخالٍ عنِ السُّنَّةِ والبِدْعةِ.
1 - فأما السُّنِّيُّ فهو: أنْ يُطلِّقَ في طُهْرٍ لمْ يُجامعْ
(1/215)


فيهِ.
2 - والبِدْعِيُّ المُحرَّمُ: أن يُطلِّقَ في الحيضِ بلا عِوَضٍ، أو في طُهرٍ جامعها فيهِ، فإذا فعلَ نُدِبَ لهُ أن يُراجِعَها.
3 - وأمَّا الخالي عنْهما: فطلاقُ الصَّغيرةِ، والآيسةِ منَ الحيضِ، والحاملِ، وغيرِ المدخولِ بها.
والألفاظُ التي يقعُ بها الطَّلاقُ صريحٌ وكِنايةٌ.
فالصَّريحُ: يقعُ بهِ سواءٌ نوى بهِ الطلاقَ أم لا، ولا يقعُ بالكِناية إلا أنْ يَنْوي به الطَّلاقَ، فالصريحُ لَفْظُ الطَّلاقِ والفِراقِ والسَّراحِ، فإذا قالَ: طلَّقْتُكِ، أو فارَقْتُكِ، أو سرَّحتُكِ، أو أنتِ طالقٌ، أو مُطلَّقةٌ، أو مُفارقَةٌ، أو مُسرَّحةٌ، طُلِّقَتْ، سواءٌ نوى بهِ الطَّلاقَ أمْ لا.
والكنايةُ قولُهُ: أنتِ خَلِيَّةٌ، أو بريَّةٌ، أو بَتَّةٌ، أو بائنُ، وحرامٌ، واعْتَدِّي، واستَبْرِئي، وتقَنَّعي، والحقي بأهلكِ، وحبْلُكِ على غارِبِك، ونحو ذلكَ. أو قالَ: أنا مِنْكِ طالقٌ، أو فوَّضَ الطَّلاق إليها فقالت: أنتَ طالقٌ، أو قيل لهُ: أَلَكَ زوجةٌ؟ فقالَ: لا، أو كتبَ لفظَ الطَّلاقِ، فإذا نوى بجميعِ ذلكَ الطَّلاقُ وقعَ، وإن لمْ يَنْوِ لمْ يقعْ.
وإنْ قيلَ لهُ: طلَّقْتَ امرَأتكَ؟ فقال: نعم. طُلِّقتْ، وإذا قال: أنتِ طالقٌ، ونوى بهِ إيقاعُ طَلْقتيْنِ أو ثلاثاً وقعَ ما نوى، وكذا سائرُ ألْفاظِ الطَّلاقِ صريحِها وكِنايتها.
وإنْ أضافَ الطَّلاقَ إلى بعضٍ من أبْعاضِها مثل أن قال: نِصْفكِ طالقٌ، طُلِّقتْ طلقةً
(1/216)


واحدةً، وكذا إذا قال: أنتِ طالقٌ نصفُ طلقةٍ أو رُبُع طلقةٍ، طُلِّقَتْ طَلْقةً.
وإذا قال: أنت طالِقٌ ثلاثاً إلا طلقة، طُلِّقتْ طلقتينِ. أو ثلاثاً إلا طلقتينِ، طُلِّقتْ طلقةٍ، أو ثلاثاً إلا ثلاثاً طُلِّقتْ ثلاثاً.
وإنْ قال: أنتِ طالقٌ إنْ شاءَ اللهُ، أو إنْ لمْ يشأ اللهُ، وكذا إلا أنْ يشاءَ اللهُ، لم تطلق.
ويجوزُ تعليقُ الطَّلاقِ على شرطٍ، وإن علَّقهُ على شرطٍ ووُجدَ ذلكَ الشَّرْطُ طُلِّقتْ، فإذا قالَ لزوجتهِ: إنْ حضْتِ فأنتِ طالقٌ، طُلِّقتْ بمُجرَّدِ رؤيةِ الدَّمِ، فإذا قالتْ: حِضْتُ، فكذَّبها، فالقولُ قولها معَ يَمينِها، وإن قال: إن حِضْتِ فضرَّتُكِ طالقٌ، فقالتْ: حضْتُ، فكذبها، فالقول قولُهُ ولمْ تُطلَّقِ الضرَّةُ.
وإن قال: إن خرجتِ إلا بإذني فأنتِ طالقٌ، ثمَّ أَذِنَ لها في الخروجِ مرَّةً فخرجتْ، ثمَّ خرجتْ بعد ذلكَ بلا إذنٍ لمْ تطلق، وإن قال: كلَّما خرجتِ إلا بإذني فأنتِ طالقٌ، فبأيِّ مرَّةٍ خرجتْ بغيرِ إذنِهِ طُلِّقتْ.
وإنْ قال: متى وقعَ عليكِ طلاقي فأنتِ طالقٌ قبْلهُ ثلاثاً، ثمَّ قال بعدَ ذلكَ: أنتِ طالقٌ، طُلِّقتِ المُنَجَّزَ فقط.
ومن علَّقَ بفِعلِ نفسهِ ففعلَ ناسياً أو مُكرهاً لمْ يقعْ، وإن علَّقَ بفِعْلِ غيرِهِ مِثلُ: إنْ دخَل زيدٌ الدَّار فأنتِ طالقٌ، فدخلها قبلَ علمِه بالتَّعليقِ، أو بعدهُ ذاكراً لهُ أو ناسياً وكانَ غيرَ مُبالٍ بحِنثِهِ طُلِّقتْ، وإنْ علمَ بالتَّعليقِ فدخلَ ناسياً وهو ممَّنْ يُبال بحِنْثهِ لمْ تُطلَّقْ، وإن
(1/217)


قال: إن دخلتِ الدَّار فأنتِ طالقٌ، ثمَّ بانتْ منهُ إما بطلقةٍ أو بثلاثٍ، ثمَّ تزوَّجها، ثمَّ دخلتِ الدَّار لمْ تُطلَّقْ.
فصل [الخلعِ]:
يَصِحُّ الخُلعُ ممَّنْ يَصحُّ طلاقُهُ.
ويُكرهُ إلا في حالينِ: أحدُهُما: أنْ يخافا أو أحدُهُما أن لا يُقيما حُدودَ اللهِ ما داما على الزَّوجيَّةِ.
والثاني: أنْ يَحْلفَ بالطَّلاقِ الثَّلاثِ على ترْكِ فعلِ شيءٍ، ثمَّ يَحتاجُ إلى فِعْلهِ، فيخالِعُها، ثمَّ يتزوجها، ثمَّ يفعلُ المحْلوفَ عليهِ، فإنَّهُ لا يقعُ عليهِ الطَّلاقُ الثَّلاثُ كما سبقَ.
وإن كانَ الزَّوْجُ سفيهاً صحَّ خُلْعُهُ، ويُدْفعُ العِوَضُ إلى وليِّهِ، ولا يصحُّ خُلْعُ سفيهةٍ.
وليْسَ للْوليِّ أنْ يُخالعَ امرأة الطِّفلِ، ولا أن يُخالعَ الطِّفْلةَ بمالها، ويصحُّ بمالِ الوليِّ، ويَصحُّ بلفظِ الطَّلاقِ ولفظِ الخُلْعِ، مثلُ: أنتِ طالِقٌ على ألفٍ، أو خالعتُكِ على ألفٍ، فإنْ قالتْ: قبِِلتُ، بانتْ ولزِمها الألفَ، وكذلكَ إنْ قالَ: إنْ أعطيتِني ألفاً فأنتِ طالقٌ، فأعطتْهُ بانتْ، وكذلكَ إذا قالتْ: طلِّقني على ألفٍ، فقالَ: أنتِ طالقٌ، بانتْ ولزِمها الألفُ. وما جازَ أنْ يكونَ صَداقاً جازَ أنْ يكونَ عِوَضاً في الخُلعِ، فلوْ خالعَ بمَجْهولٍ، أو غيرِ مُتَمَوَّلٍ كالخمرِ، بانتْ بمَهْرِ المثلِ.
وهو بلفظِ الخُلعِ طلاقٌ صريحٌ.
فصل: منْ شكَّ هلْ طلَّقَ أمْ لا لمْ تُطلَّق،
(1/218)


والوَرَعُ أنْ يُراجعَ، وإنْ شكَّ هلْ طلَّقَ طلْقةً أو أكثرَ وقعَ الأقلُّ، ومنْ طلَّقَ ثلاثاً في مرض موتهِ لمْ تَرِثْهُ المُطلَّقةُ.
فصل [الرجعة]:
إذا طلَّقَ الحُرُّ طَلْقةً أو طَلْقتينِ، أو طلَّقَ العبْدُ طلْقة بعد الدُّخولِ بلا عِوَضٍ، فلهُ قبلَ أن تنقضي العِدَّةُ أنْ يُراجِعَ -سواءٌ رَضِيَتْ أمْ لا- ولهُ أنْ يُطلِّقها، وإنْ ماتَ أحدُهُما ورِثَهُ الآخرُ، لكنْ لا يحِلُّ لهُ وَطْؤُها ولا النَّظرُ إليها ولا الاستمتاعُ بها قبلَ المُراجعةِ، وإنْ كانَ الطَّلاقُ قبلَ الدُّخول، أو بعدَهُ بعِوضٍ، فلا رجعةَ لهُ، ولا تصِحُّ الرَجعةُ إلا باللفظِ فقط، فيقولُ: راجَعْتُها، أو ردَدْتُها، أو أمْسَكْتُها.
ولا يُشترطُ الإشهادُ، وإذا راجعَها عادتْ إليهِ بما بقيَ من عدَدِ الطَّلاقِ.
أمَّا إذا طلَّقَ الحُرُّ ثلاثاً أو العبدُ طلقتينِ حرُمتْ عليهِ حتى تنْكحَ زوجاً غيْرهُ نِكاحاً صحيحاً، ويَطؤُها في الفرجِ، وأدناهُ: تغْييبُ الحَشَفَةِ، بِشَرطِ انتشارِ الذَّكَرِ.
فصل [الإيلاء]:
الإيلاءُ حرامٌ، وهو أن يَحْلفَ الزوجُ باللهِ، أو بالطَّلاقِ، أو بالعِتقِ، أو بالتزامِ صومٍ، أو صلاةٍ، أو غيرِ ذلكَ يَميناً يَمْنعُ الجِماعَ في الفرجِ أكثرَ منْ أربعَةِ أشهُرٍ، فإذا حلَفَ كذلك صارَ مولِياً، فتُضْرَبُ لهُ مدَّةُ أرْبعةِ أشهُرٍ، فإذا انقضَتْ -ولمْ يُجامعْ فيها ولا مانعَ من جِهتِها-
(1/219)


فلها عقِبَ المُدَّةِ أن تُطالبهُ إمَّا بالطَّلاقِ أو بالوَطْءِ -إذا لمْ يكُنْ بهِ مانِعٌ يمنَعُهُ منَ الوَطْءِ- فإنْ جامعَ فذاكَ وإلا طلَّقَ عليهِ الحاكمُ، ومتى حلَفَ على أربعةِ أشهرٍ فما دونها، أو كانَ الزَّوجُ عِنِّيناً أو مجبوباً فليْسَ مُولِياً.
فصل [الظهار]:
الظِّهارُ هو أنْ يُشبِّهَ امرأتَهُ بظَهْرِ أُمِّهِ أو غيرِها منْ محارمِهِ، أو بِعُضْوٍ منْ أعضائِها، فيقول: أنتِ عليَّ كَظَهْرِ أُمِّي، أو كَفَرْجِها أو كَيَدِها، فإذا قالَ ذلكَ ووُجدَ العوْدُ لزِمتْهُ الكفَّارةُ، وحَرُمَ وطْؤُها حتَّى يُكفِّرَ، والعَوْدُ هو: أنْ يُمْسِكَها بعدَ الظِّهارِ زمناً يُمكنُهُ أنْ يقولَ لها فيهِ أنتِ طالقٌ فلمْ يقُلْ، فإنْ عَقَّبَ الظِّهارَ بالطَّلاقِ على الفوْرِ طُلِّقَتْ ولا كفَّارةَ.
والكفَّارةُ: عِتْقُ رقَبَةٍ مُؤْمنةٍ، سَليمةٍ منَ العُيوبِ التي تَضُرُّ بالعَمَلِ، فإنْ لمْ يَجِدْ فصيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابعينِ، فإنْ لمْ يستطِعْ فإطعامُ ستِّينَ مِسْكيناً، كل مِسْكينٍ مُدّاً منْ قوتِ البلدِ حبّاً، بالنِّيَّةِ.

بابُ العدَّة:
[أ- عدَّةُ الطَّلاقِ]:
منْ طلَّقَ امرَأتَهُ قبْلَ الدُّخولِ فلا عدَّةَ عليْها، وإنْ طلَّقَ بعْدَهُ لزِمَتْها العِدَّةُ، سواءٌ كانَ الزَّوْجانِ صغيريْنِ أو بالِغيْنِ، أو أحدُهُما بالِغاً والآخرُ صغيراً، والمُرادُ بالدُّخولِ الوَطْءَ، فلوْ خلا بها ولمْ يَطَأْها ثمَّ طلَّقَ فلا عِدَّةَ.
وإذا
(1/220)


وجبتِ العدَّةُ فإنْ كانتْ حامِلاً انْقَضَتْ بوضْعِهِ بِشَرْطيْنِ:
أحدُهُما: أنْ يَنْفصِِلَ جميعُ الحَمْلِ، حتَّى لوْ كانَ ولَدَيْنِ أو أكثرَ اشْتُرِطَ انفصالُ الجميعِ، سواءٌ انْفصلَ حيَّاً أو ميِّتاً، كاملَ الخِلْقةِ أو مُضْغَةً لمْ تُتَصَوَّرْ، وشَهِدَ القوابِلُ أنَّها مَبدأُ خَلْقِ آدمِيٍّ، ومتى كانَ بينَ الوَلَدَيْنِ دونَ سِتَّةِ أشْهُرٍ فهُما توأمانِ، ولا حدَّ لِعدَدِ الحمْلِ، فيجوزُ أنْ تَضَعَ في حمْلٍ واحدٍ أربعةَ أولادٍ أوْ أكثرَ منْ ذلكَ.
الثاني: أنْ يكونَ الولَدُ منْسوباً إلى منْ لهُ العِدَّةُ، فلوْ حمَلَتْ منْ زناً أوْ وَطْءِ شُبْهةٍ لمْ تَنْقَضِ عِدَّةُ المُطلِّقِ بهِ، بلْ في حمْلِ وَطْءِ الشُّبهةِ تستقْبِلُ عِدَّةَ المُطلِّقِ بعدَ الوضعِ، وكذا في حمْلِ الزِّنا إنْ لمْ تَحِضْ على الحمْلِ، فإنْ حاضَتْ على الحمْلِ انْقَضَتْ بثلاثةِ أطْهارٍ منْهُ.
وأقلُّ مدَّةِ الحمْلِ سِتَّةُ أشْهُرٍ، وأكْثرُهُ أرْبَعُ سِنينَ.
وإنْ لمْ تكَنْ حاملاً: فإنْ كانتْ ممَّنْ تحيضُ اعتدَّتْ بثلاثةِ قُروءٍ "القروءُ: الأطهارُ"، ويُحْسبُ لها بعْضُ الطُّهرِ طُهْراً كاملاً، فإنْ طلَّقها فحاضتْ بعدَ لحظةٍ انْقضتْ بمُضيِّ طُهرينِ آخرينِ والشُّروعُ في الحَيْضةِ الثالثةِ، وإن طلَّقَ في الحيضِ فلا بُدَّ منْ ثلاثةِ أطْهارٍ كواملَ فإذا شَرَعَتْ في الحيْضةِ الرَّابعةِ انْقضتْ، ولا فرقَ بينَ أنْ يتقاربَ حيْضُها أو يتباعدَ. فمثالُ التَّقاربِ: أنْ تحيضَ يوْماً وليْلةً وتَطْهُر خمسةَ عشَرَ يوْماً، فإذا طُلِّقَتْ في آخرِ الطُّهرِ
(1/221)


انْقضتْ عِدَّتُها باثنينِ وثلاثينَ يوْماً ولحظَتيْنِ، أو في آخرِ حيْضٍ فسَبعَةٍ وأربعينَ يوْماً ولحْظةٍ، وهو أقلُّ المُمكنِ في الحُرَّةِ.
ومثالُ التَّباعُدِ: أنْ تحيضَ خمسةَ عشرَ يوماً وتطْهُر سنةً مثلاً أو أكثرَ، فلا بُدَّ منَ الأطهارِ الثلاثةِ وإن قامتْ سنينَ.
وإنْ كانتْ ممَّنْ لا تحيضُ لصغرِ أو إياس اعتدَّتْ بثلاثةِ أشهرٍ، وإنْ كانتْ ممَّنْ تحيضُ فانقطعَ دَمُها لعارضٍ كرضاعٍ ونحوِهِ، أو بلا عارضٍ ظاهرٍ صبرَتْ إلى سنِّ اليَأسِ منَ الحيْضِ، ثمَّ تَعْتدُّ بثلاثةِ أشهُرٍ، هذا كُلُّهُ في عدَّةِ الطَّلاقِ.
[ب- عدَّةُ الوفاةِ]:
فإنْ تُوُفِّيَ عنْها زَوْجُها -ولوْ في خلالِ عدّة الرَّجْعيّةِ- فإنْ كانتْ حاملاً اعْتدَّتْ بالوضْعِ كما تقدَّمَ، وإلا فبأَرْبعةِ أشْهُرٍ وعشرَةِ أيَّامٍ، سواءٌ كانتْ ممَّنْ تحيضُ أمْ لا، هذا كلُّهُ في الحُرَّةِ.
أمَّا إذا كانتْ زوْجتُهُ أمةً ولوْ مُبَعَّضَةً فالحاملُ بالوضعِ، وغيرُها ممَّن تحيضُ بطُهْرينِ، ومنْ لا تحيضُ بشهرٍ ونِصفٍ، وفي الوفاةِ بشَهْرينِ وخمسةِ أيَّامٍ.
ومنْ وُطِئَتْ بشُبهةٍ تعْتدُّ منَ الوَطْءِ كالمُطلَّقةِ.
[أحكامُ المُعتدَّةِ]:
ويَلزمُ المُعتدَّةَ ملازمةُ المنزِلِ، فأمَّا الرَّجعيَّةُ ففي حُكْمِ الزَّوْجِ لا تَخْرُجُ إلاَّ بإذنِهِ، ويجوزُ لِلبائنِ ولِلمُتَوفَّى عنْها زوْجُها أنْ تَخْرُجَ بالنَّهارِ لِقَضاءِ حاجَتِها وأداءِ الحُقوقِ، وتجِبُ العِدَّةُ في المسْكنِ الذي طلَّقَها فيهِ، ولا يجوزُ نقْلُها
(1/222)


إلا لضرورةٍ: إمّا لخوفٍ، أو منْعِ مالكِهِ، أو كثرةِ تأذِّيها بجيرانِها أو أقاربِ زوجِها، أو تأذِّيهمْ بها، فتَنْتَقِلُ إلى أقربِ مسْكنٍ إليهِ. ويَحرُمُ على المُطَلِّقِ الخَلْوةُ بها في العدَّةِ ومُساكنَتُها، إلاَّ أنْ يكونَ كلُّ واحدٍ منهُما في بيْتٍ بِمَرافِقِهِ.
ويجِبُ الإحدادُ في عدَّةِ الوفاةِ، ويُندبُ في البائنِ، ويحرُمُ على ميِّتٍ غيرِ الزَّوجِ أكْثرَ منْ ثلاثةِ أيَّامٍ، وهو: أنْ تَتْرُكَ الزِّينةَ، ولا تَلْبَسَ الحُلِيَّ، ولا تَخْتَضِب، ولا تَكتحِلَ بإثمِدٍ ونحْوِهِ، فإنْ احْتاجتْ إلى الكُحْلِ فباللَّيلِ وتُزيلُهُ بالنَّهارِ، ولا تَلْبسُ الصافي منْ أزرقَ وأخضرَ وأحمرَ وأصفرَ، ولا تُرجِّلَ الشَّعرَ، ولا تَستَعْمِلَ طِيباً في بدَنٍ وثوبٍ ومأكولٍ، ولها لُبْسُ الإبْريسَمِ، وغَسْلُ الرَّأس للتنظيفِ، وتقليمُ الأظفارِ.
وإذا راجعَ المُعْتدَّةَ ثمَّ طلَّقها قبلَ الدُّخولِ تستأنِفُ عِدَّةًَ جديدةً، وإنْ تزوَّجَ مَنْ خالعها في عِدَّتِهِ ثمَّ طلَّقها قبلَ الدُّخولِ بَنَتْ على العِدَّةِ الأولى، ومتى ادَّعَتِ المرأةُ انقضاءَ العِدَّةِ في زمنٍ يُمكنُ انقِضاؤُها فيهِ قُبلَ قوْلُها، وإذا بَلَغَها خَبَرُ موْتهِ بعدَ أربعةِ أشْهُرٍ وعشرةِ أيامٍ فقد انقضتِ العِدَّةُ.
فصل [الاستبراء]:
منْ ملَكَ أمَةً حَرُمَ عليهِ وَطْؤها والاستمتاعُ بها حتَّى يستبْرِئَها بعدَ قبْضِها، بالوضعِ إنْ
(1/223)


كانت حاملاً، وبحيضَةٍ إنْ كانتْ حائلاً تحيضُ، وإلا فبِشَهرٍ، وإنْ كانت زوْجتُهُ أمَةً فاشتراها انفسخَ النِّكاحُ، وحلَّتْ لهُ بمِلْكِ اليمينِ مِنْ غيرِ استبراءٍ، ومنْ زوَّجَ أمتَهُ أو كاتبها ثمَّ زالَ النِّكاحُ والكِتابةُ لمْ يطأَها حتى يستبْرِئَها، ولهُ الاستمتاعُ بالمَسْبيَّةِ في مُدَّةِ الاستبْراءِ بغيرِ الجِماعِ، ومنْ وطِئ أمَتَهُ حَرُمَ عليهِ أنْ يُزوِّجها حتّى يَستَبْرِئَها.
فصل [ثبوتُ النَّسبِ]:
منْ أتَتْ أمَتُهُ بولدٍ فإنْ ثبَتَ أنَّهُ وطِئَها لحِقَهُ، سواءٌ كانَ يعزِلُ مَنِيَّهُ عنْها أمْ لا، وإنْ لمْ يكُنْ وَطِئَها لمْ يَلْحَقْهُ.
ومنْ أتَتْ زوْجتُهُ بولدٍ لحِقهُ نَسَبُهُ إنْ أمكنَ أنْ يكونَ منْهُ، بأنْ تأتي بهِ بعدَ ستَّةِ أشهُرٍ ولحظةٍ منْ حينِ العقدِ ودونَ أربعِ سنينَ منْ حينِ إمْكانِ الاجتماعِ معها، إذا أمْكنَ وَطْؤُها ولوْ على بُعدٍ، وإنْ لمْ يَعْلمْ أنَّهُ وَطِئَ، بخلافِ ما سبقَ في أمَتِهِ، بشَرْطِ أنْ يكونَ للزَّوْجِ تِسْعُ سنينَ ونِصفٌ ولحظةٌ تَسَعُ الوَطْءَ.
فإنْ لمْ يُمكنُ أنْ يكونَ منْهُ بأنْ أتت بهِ لِدونِ ستَّةِ أشْهُرٍ، أو لأكثرَ منْ أربعِ سنينَ، أو معَ القَطْعِ بأنَّهُ لمْ يَطَأَها، أو كانَ للزَّوجِ منَ السِّنِّ دونَ ما تقدَّمَ، أو كانَ مَقْطوعَ الذَكرِ والأنثَييْنِ جميعاً لمْ يَلْحَقْهُ.
ومتى تَحقَّقَ الزَّوْجُ أنَّ الولدَ الذي أَلْحَقَهُ الشَّرْعُ بهِ ليْسَ منْهُ: بأنْ علِمَ هو أنَّهُ لمْ يَطَأْها أبداً، لزِمَهُ نفْيُهُ
(1/224)


باللِّعانِ، وإنْ لمْ يتحقَّقَ أنهُ منْ غيرِهِ حرُمَ عليهِ نفْيُهُ وقَذْفُها، وإنْ كانَ الولدُ أسودَ وهو أبيضُ أو غيرَ ذلكَ. ومنْ لحِقَهُ نَسَبٌ فأخَّرَ نفْيَهُ بلا عُذْرٍ ثمَّ أرادَ أنْ ينْفيَهُ باللعانِ لمْ نجِبْهُ إلى ذلكَ، وإن أرادَ نفْيَهُ على الفوْرِ أجَبْناهُ إليهِ.
فصل [قذفُ الزوجةِ وملاعنتها]:
منْ قذَفَ زوْجتَهُ بالزِّنا فطولِبَ بحدِّ القَذْفِ فلَهُ أنْ يُسْقِطَهُ باللعانِ، بشرط أن يكونَ الزوجُ بالغاً، عاقلاً، مُختاراً، وأنْ تكونَ الزّوجةُ عفيفةً يُمكِنُ أنْ توطَأَ، فلوْ قذَفَ منْ ثبتَ زِناها، أو طِفلةٍ كبِنتِ شهرٍ عُزِّرَ ولمْ يُلاعِنْ.
واللعانُ أنْ يَأمُرَهُ الحاكمُ أنْ يقولَ أرْبعَ مرَّاتٍ: أَشْهدُ باللهِ إنِّي لَمِنَ الصَّادِقينَ فيما رَمَيْتُها منَ الزِّنا، وإنَّ هذا الولَدَ ليْس منِّي -إنْ كان هناك ولدٌ- ثمَّ يقولُ في الخامسةِ، بعدَ أن يَعِظَهُ الحاكمُ ويُخوِّفُهُ ويضَعَ يدَهُ على فيهِ: وعليَّ لَعْنَةُ اللهِ إنْ كُنْتُ منَ الكاذبينَ. فإذا فعلَ ذلكَ سقطَ عنهُ حدُّ القذفِ، وانتفى عنهُ نسبُ الولدِ، وبانتْ منهُ وحرُمتْ على التّأبيدِ، ولزمها حدُّ الزِّنا.
ولها أنْ تُسْقِطَهُ عنْ نفسِها باللِّعانِ فتقولَ -بأمرِ الحاكم- أربَعَ مرَّاتٍ: أشْهدُ باللهِ إنَّهُ لمِنَ الكاذبينَ فيما رماني بهِ. ثمَّ تقولُ في الخامسةِ -بعدَ الوَعظِ كما سبقَ-: وعليَّ غَضَبُ اللهِ إنْ كانَ منَ الصَّادقينَ. فإذا فعلَتْ هذهِ سقطَ عنها حدُّ الزِّنا.
(1/225)


بابُ الرضاعِ
إذا ثارَ لِبِنْتِ تِسْعِ سنينَ لَبَنٌ، منْ وَطْءٍ أو من غيرهِ، فأرضعتْ طِفلاً لهُ دونَ الحوْلينِ خمسَ رَضَعاتٍ مُتفرِّقاتٍ صار ابنها، فيحرُمُ عليها هو وفروعُهُ فقط، وصارتْ أمّهُ، فتَحْرُمُ عليهِ هيَ وأُصولُها وفروعُها وإخوَتُها وأخَواتُها.
وإن ثارَ اللَّبنُ منْ حمْلٍ منْ زوجٍ، صارَ الرَّضيعُ ابناً للزَّوجِ، فيَحْرُمُ عليهِ الرَّضيعُ وفُروعُهُ فقطْ، وصارَ الزَّوجُ أباهُ فيَحْرُمُ على الرَّضيعِ هوَ وأُصولُهُ وفُروعُهُ وإخْوتُهُ وأخَواتُهُ، فيَحرُمُ النِّكاحُ، ويحِلُّ النَّظَرُ والخَلْوةُ كالنَّسبِ دونَ سائرِ أحْكامهِ كالميراثِ والنَّفقةِ.
(1/226)


كتابُ الجِناياتِ
يَجِبُ القِصاصُ على منْ قتَلَ إنساناً عمْداً مَحْضاً عُدْواناًً، لكنْ لا يَجِبُ على صبيٍّ ومجنونٍ مُطْلقاً، ولا على مُسلِمٍ بِقَتْلِ كافرٍ، ولا على حُرٍّ بقَتْلِ عبْدٍ، ولا على ذِمِّيٍّ بقَتْلِ مُرْتدٍّ، ولا على الأبِ والأُمِّ وآبائِهِما وأمَّهاتِهما بقتْلِ الولَدِ وولدِ الولدِ، ولا بقتْلِ منْ يَثْبُتُ القِصاصُ فيهِ للْولدِ، مثْلُ أنْ يَقْتُلَ الأبُ الأمَّ.
[أقسامُ الجِناياتِ]:
ثُمَّ الجِناياتُ ثلاثةٌ: خطأٌ، وعمْدٌ خطَأٌ، وعمْدٌ محْضٌ.
1 - فالخطأُ: مثلُ أنْ يرميَ إلى حائطٍ سهْماً فيُصيبُ إنساناً، أو يَزْلِقَ منْ شاهقٍ فيقَعَ على إنسانٍ.
وضابطُهُ: أنْ يقصِدَ الفِعْلَ ولا يقصِدَ الشَّخْصَ، أو لا يَقْصِدَهُما.
2 - وعمْدُ الخطأ: أنْ يقصِدَ بهِ الجنايةَ بما لا يَقْتُلُ غالِباً، مثلَ أنْ يَضْرِبَهُ بعصا خفيفةٍ في غيرِ مَقتلٍ، ونحوِ ذلكَ.
3 - والعمْدُ: أنْ يقصِدَ الجنايةَ بما يَقْتُلُ غالِباً، سواءٌ كانَ مُثقَّلاً أو مُحدَّداً، فإنْ كانتِ الجنايةُ عمْداً على النَّفسِ أو الأطرافِ، وجبَ القِصاص.
فيجِبُ في الأعضاءِ حيْثُ أمْكنَ منْ غيرِ حيْفٍ، كالعَيْنِ والجِفْنِ ومارِنِ الأنفِ -وهو ما لانَ منهُ- والأذُنِ والسِّنِّ واللِّسانِ والشَّفةِ واليَدِ والرِّجلِ والأصابعِ والأناملِ
(1/227)


والذَّكرِ والأنْثَيَيْنِ والفرْجِ ونحوِ ذلكَ، بشرْطِ المُماثلةِ، فلا تُؤخذُ يمينٌ بيسارٍ، ولا أعلى بأسفلَ وبالعكسِ، ولا صحيحٌ بأشلَّ، ولا قِصاصَ في عظْمٍ، فلوْ قطعَ اليدَ منْ وَسَطِ الذَِراعِ اقتُصَّ منَ الكفِّ، وفي الباقي حكومةٌ.
ويُقتصُّ للأُنثى منَ الذَكرِ، وللطِّفلِ منَ الكبيرِ، وللوضيعِ منَ الشَّريفِ، في النَّفسِ والأعضاءِ.
ولا يجوزُ أنْ يُستوفى القِصاصُ إلاَّ بحَضْرةِ السُّلطانِ أو نائبهِ، فإنْ كانَ منْ لهُ القِصاصُ يُحْسِنْهُ مكَّنَهُ منْهُ، وإلاَّ أمرَ بالتوكيلِ، وإنْ كانَ القِصاصُ لاثنينِ لمْ يَجُزْ لأحدهما أنْ يَنفرِدَ بهِ، فإنْ تشَّاحَّا في منْ يَستوفيهِ أقرِعَ بينهما، ولا يُقْتصُّ منْ حاملٍ حتَّى تَضَعَ ويستغني الولدُ بلبنِ غيرِها.
ومَنْ قَطَعَ اليدَ ثمَّ قَتَلَ تُقْطَعُ يدُهُ ثمَّ يُقْتَلُ، فإنْ قطعَ اليدَ فماتَ منْ ذلكََ قُطعتْ يدُهُ، فإنْ ماتَ فهوَ، وإلاَّ قُتلَ. ومتى عفا مُستحِقُّ القِصاصِ على الدِّيَةِ سقطَ القِصاصُ ووجبت الدِّيةُ، بلْ لوْ عفا بعضُ المُستحقِّينَ مثلُ أنْ كانَ للمقتولِ أولادٌ فيعفو أحدُهُم سقطَ القِصاصُ ووجبتِ الدِّيةُ.
ومنْ قتلَ جماعةً، أو قطعَ عُضْواً منْ جماعةٍ واحدًا بعدَ واحدٍ، اقتُصَّ منْهُ للأولِ وللباقينَ الدِّيةُ، فإن جنى عليهمْ دَفعَةً أُقرِعَ.
[جنايةُ الجماعةِ]:
وإنِ اشتركَ جماعةٌ في قتلِ واحدٍ
(1/228)


قُتِلوا بهِ، سواءٌ اسْتَوَتْ جنايتُهُمْ أو تفاوتَتْ، حتَّى لوْ جرحَهُ واحدٌ جِراحةً وآخرُ مئةَ جِراحةٍ وماتَ، وكانتْ تِلْكَ الجِراحةُ المُفردَةُ أو تلكَ الجِراحاتُ ممَّا لو انفردتْ لقتَلتْ لزِمَهُما القِصاص، اللهمَّ إلاَّ أنْ يَقطعَ الثَّاني جِنايةَ الأوَّلِ بأنْ يَقطعَ الأوَّلُ يدَهُ ونحوَها ويَقطعَ الَّثاني رقبتَهُ أو يَقُدَّهُ نِصفينِ، فالأوَّلُ جارحٌ والثَّاني قاتِلٌ، ولوْ شاركَ العامِدُ مُخطِئاً فلا قِصاصَ على أحدٍ.
ولوْ شاركَ الأجنبيُّ أباً اقتُصَّ منَ الأجنبيِّ.
ويجبُ القِصاصُ أيضاً في كُلِّ جُرْحٍ انتهى إلى عظمٍ، كالمُوضِحَةِ في الرَّأسِ والوجهِ وجُرحِ العَضُدِ والسَّاقِ والفَخِذِ إذا انتهى الجُرحُ إلى العظمِ، والمُرادُ بالمُوضِحَةِ وبانتهاءِ الجُرحِ إلى العظمِ: أنْ يُعلمَ وصولُ السِّكِّينِ أو المِسلَّةِ مثلاً إلى العظمِ، ولا يُشترطُ ظهورُ العظمِ ورؤيَتُهُ.
فصل [في الدِّياتِ]:
إذا كانَ القتلُ خطأً، أو عَمْدَ خطأٍ، أو آلَ الأمرُ في العمْدِ بالعفوِ إلى الدِّيةِ وجبتِ الدِّيةُ. ودِيةُ الحُرِّ المُسلمِ الذَكرِ مئةٌ منَ الإبِلِ:
فإنْ كانَ عمداً فهيَ مُغَلَّظَةٌ من ثلاثةِ أوجُهٍ: كونُها حالَّةً، وعلى الجاني، ومُثلَّثةً: ثلاثينَ حِقَّةً، وثلاثينَ جَذَعَةً، وأربعينَ خَلِفَةً، أي حواملَ، في بطونها أولادُها.
وإنْ كانَ عمْدَ خطأٍ فهي مُغلَّظةٌ منْ وجهٍ واحدٍ:
(1/229)


كونُها مُثلَّثةً. ومُخفَّفةٌ منْ وجهينِ: كونُها مُؤجلَةً، وعلى العاقلةِ.
وإن كانَ خطأً فهي مُخففةٌ من ثلاثةِ أوجُهٍ: كونُها مُؤجلةً، وعلى العاقلةِ، ومُخمَّسَةً: عشرينَ بنت مخاضٍ، وعشرينَ بنتَ لبونٍ، وعشرينَ ابنَِ لبونٍ، وعشرينَ حِقَّةً، وعشرينَ جذعةً، اللهمَّ إلاّ أن يُقتلَ ذا رحِمٍ مَحْرَمٍ، أو في الحرَمِ، أو في الأشهُرِ الحُرُمِ - وهي: ذو القعدة، وذو الحجة، والمُحرَّم، ورجبُ- فإنّها تكونُ مُثلَّثةً، خطأً كانَ أو عمْداً. ولا يُؤخذُ في الإبلِ مَعيبٌ، فإن تراضَوا على العِوَضِ عنِ الإبلِ جازَ.
ودِيَةُ المرأةِ في النَّفسِ وغيرها نصفُ دِيَةِ الرجلِ، وديةُ اليهوديِّ والنَّصرانيِّ ثلُثُ ديَةِ المُسلمِ، وديةُ المجوسيِّ ثُلُثا عُشرِ ديةِ المُسلِمِ، وديةُ العبدِ قيمتُهُ، وأعضاؤُهُ وجراحاتُهُ ما نقصَ منها، وفيما إذا ضَربَ بطْنها فألقتْ جنيناً ميِّتاً: غُرَّةٌ، وهي: عبدٌ أو أمةٌ سليمةٌ بقيمةِ نصفِ عُشرِ دية الأبِ أو عُشرِ ديةِ الأمِّ.
والعاقلةُ هي: العَصباتُ، ما عدا الأبَ والجدَّ والابن وابنَ الابنِ، ولا يعقِلُ فقيرٌ ولا صبيٌّ ولا مجنونٌ، ولا كافرٌ عن مُسلمٍ، وعكسهُ، فيجبُ عليهمْ ديةُ النَّفس الكاملةِ، أعني المئةَ من الإبل في ثلاثِ سنينَ، فيجبُ على كُلِّ غنيٍّ عندَ الحولِ في كلِّ سنةٍ نصفُ دينارٍ، وعلى كلِّ مُتوسِّطٍ رُبُعُ دينار، فإذا بقيَ شيءٌ أُخِذَ
(1/230)


منْ بيتِ المالِ، وإلاَّ فمنَ الجاني، وإنْ كانَ الواجبُ أقلَّ منْ ديةِ النَّفسِ الكاملة -كواجبِ الجراحاتِ، وديةِ الجنينِ والمرأةِ والذمِّيِّ- فمنْ كانَ قدْرَ ثُلُثِ الكاملةِ أو أقلَّ ففي سنة، وإن كانَ الثُلُثينِ أو اقلَّ فالثُلُثُ في سنةٍ والباقي في الثانية، فإن زادَ على الثُلُثينِ فالثُلُثانِ في سنتينِ والباقي في الثالثة.
وكلُّ عُضوٍ مُفردٍ فيهِ جمالٌ ومنفعةٌ إذا قُطعَ وجبت فيهِ ديَةٌ كاملةٌ مثلُ ديةِ صاحبِ العُضوِ لوْ قتلهُ، وكذا كلُّ عُضويْنِ منْ جِنْسٍ، فإذا قطعهُما ففيهما الديةُ وفي أحدهِما نصفُها، وكذا المعاني واللَّطائفُ ففي كُلِّ معنىً منها الدية، ففي قطعِ الأذنينِ الدية، وفي أحدهما نصفُها، ومثلُهُما العينانِ والشِّفتانِ واللّحيانِ، والكفَّانِ والقدمانِ بأصابعِهِما، والأليتانِ والأنثيانِ والأجفانِ وحلمتا المرأةِ وشُفراها ومارنُ الأنفِ واللِّسان، والحشَفةُ وجميعُ الذَكرِ، وكذا في شللِ هذه الأعضاء، والإفضاءِ وسلْخِ الجلدِ وكسْرِ الصُّلبِ وإذهابِ العقلِ والسَّمعِ أو الضَّوءِ أو النُّطقِ أو الشّمِّ أو الذَوقِ. وفي كلِّ أُصبعٍ عشرٌ من الإبلِ وفي كلِّ سنٍّ خمسٌ.
وأمّا الجراحاتُ في البدَنِ فالحكومةُ، وفي الرَّأسِ والوجهِ: فما دونَ الموضِحةِ فيهِ الحكومةُ، وأمّا الموضحةُ -وهي ما أوضحت العظمَ كما تقدَّم- ففيها خمسٌ من الإبلِ،
(1/231)


وبقيت جناياتٌ أُخَرُ آثرْتُ تركَها لئلاّ يطولَ الكلامُ. ولا تجِبُ الديةُ بقتلِ الحربيِّ، والمُرتدِّ، ومنْ وجبَ رَجْمُهُ بالبيِّنةِ، أو تَحَتَّمَ قتْلُهُ في المُحاربةِ، ولا على السيِّدِ بقتلِ عبدِهِ.
فصل [كفارةُ القتلِ]:
تجِبُ الكفَّارةُ على منْ قتلَ منْ يَحرُمُ قتلُهُ لحقِّ الله تعالى، خطأ كان أو عمداً، سواءٌ لزمهُ قِصاصٌ، أو ديةٌ -كما لو قتل ولده-، أوْ لمْ يلزمهُ شيءٌ منهما، وهو عِتقُ رقبةٍ، فإنْ لمْ يجدْ فصيامُ شهرينِ مُتتابعينِ، فلوْ قتلَ نساءَ أهلِ الحربِ وأولادهُم فلا كفارة، لأنّهُم وأن حرُمَ قتُلهُمْ لكن لا لحقِّ اللهِ تعالى بلْ لحقِّ الغانمين.
فصل [البُغاة]:
إذا خرجَ على الإمامِ طائفةٌ من المسلمينَ وراموا خَلْعهُ، أو منعوا حقّاً شرعيّاً كالزَّكاةِ، وامتنَعوا بالحربِ، بعثَ إليهمْ وأزالَ علَّتهُم إن أمكن، فإنْ أبَوْا قاتلهُمْ بما لا يعُمُّ شرُّهُ كالنّار والمنجنيقِ، ولا يَتْبعُ مُدْبِرَهُمْ، ولا يقتُلُ جريحهُمْ، وما أتلفوهُ علينا أو أتلفناهُ عليهم في الحرْبِ لا ضمانَ فيه، وأحكامُ الإسلامِ جاريةٌ عليهم، ويَنفُذُ منْ حكمِ قاضيهِم ما يَنْفُذُ منْ حكمِ قاضينا وإنْ لمْ يمتنِعوا بالحربِ لمْ يُقاتِلْهُم.
(1/232)


بابُ الصيالِ
ومنْ قَصَدهُ مُسْلمٌ يُريدُ قَتْلهُ جازَ لهُ دفْعُهُ ولا يجبُ، وإنْ قصدهُ كافِرٌ أو بهيمةٌ وجبَ دفْعُهُ، وإنْ قصدَ مالَهُ جازَ الدَّفْعُ ولا يجبُ، وإنْ قصدَ حَريمَهُ وجبَ الدَّفْعُ، ويَدْفعُ بالأسْهلِ فالأسْهلِ، فإنْ عرفَ أنَّهُ ينْدَفِعُ بالصِّياحِ فليْسَ لهُ ضَرْبُهُ، أوْ باليَدِ فليْسَ لهُ بالعَصا، أو بالعَصا فليْسَ لهُ السِّيْفُ، أو بِقَطْعِ اليدِ فليْسَ لهُ قتْلُهُ، فإنْ تحقَّقَ أنَّهُ لا يَنْدفِعُ إلاّ بقتْلهِ فلهُ قتْلُهُ، ولا شيءَ عليهِ، وإذا اندفعَ حَرُمَ التَّعَرُّضُ لهُ.

بابُ الرِّدَّةِ
منِ ارتَدَّ عنِ الإسلامِ وهو بالغٌ، عاقلٌ، مُختارٌ، استحَقَّ القَتْلَ، ويجِبُ على الإمامِ اسْتِتابَتُهُ، فإنْ رجَعَ إلى الإسلامِ قُبِلَ منْهُ، وإنْ أَبَى قُتِلَ في الحالِ، فإنْ كانَ حُرّاً لمْ يَقْتُلْهُ إلاّ الإمامُ أو نائبُهُ، فإنْ قَتَلَهُ غَيْرُهُ عُزِّر ولا دِيةَ عليهِ، وإنْ كانَ عبْداً فللسَّيِّدِ قتْلُهُ، وإنْ تَكرَّرَتْ رِدَّتُهُ وإسلامُهُ قُبِلَ منْهُ ويُعَزَّرُ.

بابُ الجهادِ
الجِهادُ فرْضُ كفايةٍ إذا قامَ بهِ منْ فيهِ الكِفايةُ سَقَطَ عنِ الباقينَ، ويَتَعَيَّنُ على منْ حضَرَ الصَّفَّ، وكذا على كُلِّ
(1/233)


أحَدٍ إذا أحاطَ بالمُسلمينَ عَدُوٌّ.
ويُخاطبُ بهِ كُلُّ ذَكَرٍ، حُرٍّ، بالغٍ، عاقلٍ، مُستطيعٍ، ولا يُجاهِدُ المَدْيونُ إلاّ بإذنِ غريمِهِ، ولا العبْدُ إلاّ بإذنِ سيِّدهِ، ولا منْ أحدُ أبويهِ مُسْلمٌ إلاّ بإذنِهِ، وإلاّ إذا أحاطَ العَدُوُّ فيَجوزُ بلا إذنٍ، ويُكْرهُ الغَزْوُ دونَ إذنِ الإمامِ، ولا يَستَعينُ بِمُشْركٍ إلاّ أنْ يَقِلَّ المُسلمونَ، وتكونُ نِيَّتُهُ حَسَنَةً للمُسلمينَ، ويُقاتِلُ اليَهودَ والنَّصارى والمَجوسَ إلاّ أنْ يُسْلِموا أو يبذُلوا الجِزيَةَ، ويُقاتِلُ منْ سِواهُمْ إلاّ أنْ يُسْلِموا.
ولا يجوزُ قَتْلُ النِّساءِ والصِّبيانِ إلاّ أنْ يُقاتِلوا، ولا الدَّوابَّ إلاّ أنْ يُقاتِلوا عليها أو نسْتعينُ بقَتلها عليهمْ. ويجوزُ قَتْلُ الشُّيوخ والرُّهبان.
ومَنْ أمَّنَهُ مِنَ الكُفّارِ مُسلمٌ بالغٌ عاقلٌ مُختارٌ ولوْ عبداً حرُمَ قتْلُهُ، ومنْ أسلمَ مِنْهُم قبلَ الأسرِ حُقِنَ دَمُهُ ومالُهُ وصغارُ أوْلادهِ عنِ السَّبْي، ومتى أُسِرَ منْهمْ صبيّ أو امرأة رَقَّ بنَفسِ الأسْرِ، وينفَسِخُ نِكاحُها، أو بالِغٍ تَخَيَّرَ الإمامُ بالمصلحةِ بينَ القتلِ والاسْتِرقاقِ، والمنِّ والفِداءِ بمالٍ أو بأسيرٍ مُسلِمٍ، فإنْ أسْلمَ قبْلَ أنْ يَختارَ الإمامُ فيهِ شيْئاً منَ الخِصالِ المذكورةِ سقطَ قتْلُهُ، ويُخَيَّرُ بيْنَ الثَّلاثِ الباقِيةِ، ويجوزُ قطْعُ أشْجارَهِمْ وتَخريبِ دِيارِهِم.

بابُ الغنيمةِ
الغَنيمةُ لِمَنْ حَضرَ الوقْعةَ إلى آخرِها فَتُقْسمُ بينهمْ
(1/234)


بعدَ إخراجِ السَّلَبِ وخُمُسِها، للرَّاجلِ سهْمٌ، وللفارسِ ثلاثةُ أَسْهُمٍ، إذا كانَ حُرّاً بالِغاً مُسْلِماً عاقِلاً، ويُرْضَخُ للمرأةِ والعبْدِ والصَّبيِّ والكافرِ إنْ حضَروا بإذنِ الإمامِ منْ أرْبعَةِ أخْماسِها.
وإنَّما تُمْلكُ الغَنيمةُ بالقِسْمةِ أو اختيارِ التَّمَلُّكِ.
وأمّا السَّلَبُ فمنْ قَتلَ قتيلاً أو كفى شرَّهُ، وكانَ المَقتولُ مُمْتَنِعاً، وغرَّرَ القاتلُ بنفْسِهِ في قتْلِهِ، استَحَقَّ سَلَبَهُ، وهو ما احْتَوَتْ يدُهُ عليهِ في الوَقْعةِ منَ فرَسٍ وثِيابٍ وسلاحٍ ونفَقَةٍ وغيرِ ذلكَ. فأمَّا الخُمُسُ فيُقْسمُ على خمسَةٍ أيضاً:
1 - سهْمٌ للنبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، فيُصْرَفُ بعْدهُ في المصالحِ منْ سدِّ الثُّغورِ وأرزاقِ القُضاةِ والمُؤذنينَ ونحْوهمْ.
2 - وسهْمٌ لذوي القُرْبى منْ بني هاشِمٍ وبني المُطَّلِبِ، للذّكَرِ مثْلُ حظِّ الأنثييْنِ. 3 - وسهْمٌ لليتامى الفُقراءِ.
4 - وسهْمٌ للمساكينِ.
5 - وسهْمٌ لابنِ السَّبيلِ.
فصل [عقد الجزيةِ]:
تُعقَدُ الذِّمَّةُ لليَهودِ والنَّصارى والمَجوسِ، ولمَنْ دخَلَ في دينِ اليَهودِ والنَّصارى قبْلَ النَّسْخِ والتَّبْديلِ، والسَّامرةِ والصّابئةِ إنْ وافقوهمْ في أصْلِ دينِهِمْ، ولمَنْ تَمَسَّكَ بدينِ إبْراهيمَ أو غيرهِ منَ الأنبياءِ عليْهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ، ولا يُعْقدُ لوثنيٍّ، ومنْ لا كتابَ لهُ ولا شُبْهةَ كِتابٍ. ولا يَصِحُّ إلاَّ بِشَرْطيْنِ:
1 - التِزامُ أحكامِ الإسلامِ.
2 - وبَذْلُ
(1/235)


الجِزيَةِ، وأقَلُّها دينارٌ منْ كُلِّ شخْصٍ، وأكثَرُها ما تَراضَوْا عليهِ، وتُؤخذُ منْهُم برِفقٍ كسائرِ الدُّيونِ، ولا تُؤخذُ من امرأةٍ وصبيٍّ ومجنونٍ وعبْدٍ.
ويُلْزَمونَ بِأحكامِنا منْ ضمانِ النَّفسِ والعِرْضِ والمالِ، ويُحَدُّونَ للزِّنا والسَّرِقةِ، لا للسُّكْرِ، ويَتَمَيَّزونَ في اللِّباسِ والزَّنانيرِ، ويكونُ في رَقابِهِمْ جرسٌ في الحمَّامِ، ولا يَرْكبونَ فَرَساً بلْ بِغالاً أو حِماراً عَرْضاً، ولا يُبدَؤونَ بسلامٍ، ويُلجؤونَ إلى أضْيَقِ الطريقِ، ولا يَعْلونَ على المُسلمينَ في البناءِ ولا يساوونهمْ، فإنْ تَمَلَّكوا داراً عاليةً لمْ تُهدَمْ.
ويُمنَعونَ من إظهارِ خمْرٍ وخنزيرٍ وناقوسٍ، وجهْرِ التَّوْراةِ والإنجيلِ، وجنائزِهِمْ وأعيادِهِمْ، ومنْ إحداثِ كنيسةٍ، فإنْ صولِحوا في بلدانِهِمْ على الجِزيةِ لمْ يُمنَعوا من ذلكَ.
ويُمْنعونَ منَ المُقامِ بالحِجازِ -وهي مكَّةَُ والمدينةُ واليَمامةُ وقُراها- أكثرَ منْ ثلاثةِ أيَّامٍ إذا أذِنَ لهُمُ الإمامُ في الدُّخولِ لحاجةٍ، ولا يُمَكَّنُ مُشْرِكٌ منَ الحَرَمِ بحالٍ، ولا يَدْخُلونَ مسْجِداً إلاّ بإذنٍ.
وعلى الإمامِ حِفْظُ منْ كانَ منْهُمْ في دارنا كما يَحْفظُ المُسلمينَ، واستِنْقاذُ منْ أُسِرَ منْهُمْ، فإنِ امتَنعوا منَ التزامِ أحكامِ المِلَّةِ وأداءِ الجِزْيةِ انتَقَضَ عهدُهُمْ مُطْلقاً، وإنْ زَنى أحدٌ منْهُم بمُسلمةٍ، أو أصابها بنِكاحٍ، أو آوى عيْناً للكُفَّارِ، أو فتنَ مُسْلماً عنْ دينِهِ أو قتلَهُ، أو ذكرَ اللهَ أو رسولهُ أو دينَهُ بما لا يجوزُ،
(1/236)


فإنْ شَرَطَ عليهمْ الانتقاضَ بذلكَ انتُقضَ، وإلاّ فلا، ومن انتَقَضَ عهْدُهُ تخيَّرَ الإمام فيهِ بيْنَ الخِصالِ الأرْبعِ في الأسيرِ.

باب الزنا
إذا زنى أو لاطَ البالغُ، العاقلُ، المُختارُ، مُسلماً كانَ أو ذِمِّيّاً أو مُرْتدّاً، حُرَّاً كانَ أو عبْداً، وجبَ عليهِ الحدُّ، فإنْ كانَ مُحْصَناً رُجِمَ حتَّى يموتَ.
والمُحْصَنُ: منْ وَطِئَ في القُبُلِ في نِكاحٍ صحيحٍ، وهو حُرٌّ بالغٌ عاقلٌ. فلو وَطِئَ زوجتَهُ في الدُّبُرِ، أو جاريتَهُ في القُبُلِ، أو في نكاحٍ فاسدٍ، أو وطِئَ زوجَتَهُ وهو عبْدٌ ثمَّ عُتِقَ، أو صبيٌّ، أو مجنونٌ ثمَّ أفاقَ وزنى، فليْسَ بمُحصنٍ.
وغيرُ المُحْصَنِ: إنْ كانَ حُرّاً جُلِدَ مئةَ جلْدةٍ، وغُرِّبَ سنةً إلى مسافةِ القصْرِ، وإنْ كانَ عبْداً جُلِدَ خَمْسينَ وغُرِّبَ نِصْفَ سنةٍ.
ومنْ وطِئَ بهيمةً، أو امرأةً ميتةً أو حيَّةً فيما دونَ الفرجِ، أوجاريةً يمْلِكُ بعضَها، أو أُختهُ الممْلوكة لهُ، أو وطِئَ زوجتَهُ في الحيضِ أو الدُّبُرِ، أو استمنى بيدهِ، أو أتتِ المَرْأةُ المرأةَ، لا حدَّ عليهِ ويُعَزَّرُ.
ومنْ زنى وقال: لا أعْلمُ تَحريمَ الزِّنا، وكانَ قريبَ عهدٍ بالإسلامِ، أو نشأَ بباديةٍ بعيدةٍ لمْ يُحدَّ، وإنْ لمْ يكُنْ كذلكَ حُدَّ.
ولا يُجلَدُ في حَرٍّ
(1/237)


وبرْدٍ شديدَيْنِ ومرَضٍ يُرْجى بُرْؤُهُ حتّى يَبْرَأَ، ولا في المسجدِ، ولا المرأةُ في الحبَلِ حتّى تضعَ ويزولُ ألمُ الولادةِ، ولا يُجلدُ بِسوْطٍ جديدٍ ولا بالٍ، بلْ بسَوْطٍ بينَ سوْطَيِنِ، ولا يُمدُّ ولا يُشَدّ ولا يُجَرَّدُ، ولا يُبالغُ في الضَّربِ، ويُفَرِّقُهُ على أعضائِهِ، ويَتَوَقَّى المَقاتِلَ والوَجْهَ.
ويُضْربُ الرَّجُلُ قائِماً، والمرأةُ جالِسَةً مَستورةً، فإن كانَ نحيفاً أو مريضاً لا يُرجى بُرؤُهُ جُلِدَ بِعُثكالِ النَّخْلِ وأطْرافِ الثِّيابِ، وإنْ كانَ الحدُّ رجماً رُجِمَ ولوْ في حرٍّ أو برْدٍ أو مرضٍ مَرْجُوِّ الزَّوالِ.
ولا تُرجَمُ الحاملُ حتّى تضَعَ ويَستَغْنِ الولدُ بلبَنِ غيرِها.
وللسَّيِّدِ أنْ يُقيمَ الحدَّ على رقيقِهِ. بابُ القذفِ
إذا قذَفَ البالغُ، العاقلُ، المُختارُ، وهو مسلِمٌ أو ذمِّيٌّ أو مُرتدٌّ أو مُسْتأمَنٌ مُحْصَناً -ليْسَ بولدٍ لهُ- بالزّنا أو اللِّواطِ، بالصَّريحِ أو بالكِنايةِ معَ النِّيَّةِ، لزِمَهُ الحدُّ.
والمُحصَنُ هُنا هوَ البالغُ العاقلُ الحُرُّ المُسلمُ العَفيفُ، فيُجلدُ الحُرُّ ثمانينَ والعبْدُ أربعينَ، فالصَّريحُ: زَنَيْتَ، أو لُطْتَ، أو زنى فرْجُكَ، ونحوهُ، والكِنايةُ نحْوَ: يا فاجرُ، يا خبيثُ، فإنْ نوى بهِ القذفَ حُدَّ، وإلاّ فلا، والقوْلُ قوْلُ القاذِفِ في النِّيَّةِ.
وإنْ قالَ: أنْتَ أزْنى النّاسِ، أو منْ فُلانٍ، فهوَ كنايةٌ، أو
(1/238)


فُلانٌ زانٍ وأنتَ أزنى منهُ فصريحٌ.
وإنْ قذفَ جماعةً يَمْتنِعُ أنْ يكونوا كُلُّهُمْ زُناةٌ، كقولِهِ أهْلُ مِصْرَ كُلُّهُمْ زُناةٌ، عُزِّرَ، وإنْ لمْ يَمْتَنِعْ، كقولِهِ بَنو فُلانٍ زُناةٍ، لزِمَهُ لكُلِّ واحدٍ حَدٌّ، ولوْ قذَفَهَ بزنْيَتينِ لزِمهُ حدٌّ واحدٌ، وإن قذفهُ فحُدَّ ثمَّ قذفهُ ثانياً بذلكَ الزِّنا أو بغيرِهِ عُزِّرَ فقطْ.
ولو قذفَ مُحصناً فلم يُحدَّ حتى زنى المُحصنُ سقَطَ الحدُّ، ولا يُسْتَوْفى إلاّ بحَضْرةِ الحاكمِ وبِمُطالبةِ المَقذوفِ، فإنْ عفا سقطَ، وإنْ ماتَ انتقلَ حقُّهُ لوارثهِ.
ولوْ قال لِرَجُلٍ: اقْذِفْني، فقَذَفَهُ لمْ يُحدَّ، ولوْ قَذَفَ عبداً ثبتَ لهُ التَّعزيرُ.

بابُ السرقةِ
إذا سرقَ البالغُ، العاقلُ، المُختارُ، وهوَ مُسلمٌ أو ذمِّيٌّ أو مُرتدٌّ نِصاباً منَ المالِ، وهوَ رُبُعُ دينارٍ أو ما قيمتُهُ رُبُعُ دينارٍ في حالِ السَّرِقةِ، منْ حِرْز مِثْلِهِ ولا شُبْهةَ لهُ فيهِ، قُطِعَتْ يَدُهُ اليُمنى، فإنْ سرقَ ثانياً قُطِعَتْ رِجْلُهُ اليُسرى، فإنْ عادَ قُطعتْ يدُهُ اليُسرى، فإنْ عادَ قُطِعَتْ رِجْلُهُ اليُمنى، فإن عادَ عَزِّرَ، فإنْ لمْ تكُنْ لهُ يمين قُطِعتْ رِجْلُهُ اليُسرى، وإنْ كانتْ فلَمْ تُقْطَعْ حتّى ذهبَتْ سقَطَ القَطْعُ.
وإذا قُطِعَ غُمِسَ المَقْطَعُ بالزَّيْتِ الحارِّ، فإنْ سرَقَ دونَ النِّصابِ أو مِنْ غيرِ حِرْزٍ، أو ما لهُ شُبهةٌ كمالِ بيتِ المالِ، ومالِ ابْنهِ أو أبيهِ، أو مال مالِكِهِ لمْ يُقْطَعْ.
(1/239)


وحِرزُ كُلِّ شيءٍ بِحَسَبِهِ، ويَخْتلِف باختلافِ المالِ والبِلادِ، وعدْلِ السُّلطانِ وجوْرِهِ، وقُوَّتِهِ وضَعْفِهِ.
فحِرْزُ الثِّيابِ والنُّقودِ والجواهِرِ والحُليِّ الصُّندوقُ المُقْفَلُ، وحِرْزُ الأمتِعَةِ الدَّكاكينِ المُقْفَلَةِ وثَمَّ حارِسٌ، والدَّوابَّ الاصطَبلُ، والأثاثِ صُفَّةُ البيتِ بحسبِ العادةِ، وحِرْزُ الكَفَنِ القَبْرُ، ولو اشتركَ اثنانِ في إخْراجِ النِّصابِ فقطْ لمْ يُقطعْ واحدٌ منهُما، ولا يَقْطَعُ الحَرُّ إلاّ الإمامُ أو نائِبُهُ، ويَقطعُ العبْدَ سيِّدُهُ، ولا قطْعَ على من انْتَهَبَ أو اخْتَلَسَ أو خانَ أو جحَدَ.
فصل [قاطِعِ الطريقِ]:
منْ شَهَرَ السِّلاحَ وأخافَ السَّبيلَ وَجبَ على الإمامِ طَلَبُهُ، فإنْ وَقَعَ قبْلَ جِنايَةٍ عُزِّرَ، وإنْ سَرَقَ نِصاباً بِشَرْطِهِ قُطِعَتْ يَدُهُ اليُمنى ورِجْلُهُ اليُسرى، وإنْ قَتَلَ قُتِلَ حَتْماً وإنْ عفا ولِيُّ الدّمِ، وإنْ سَرَقَ وقَتَلَ قُتِلَ ثُمَّ صُلِبَ ثلاثةَ أيَّامٍ، وإنْ جَرَحَ أو قطعَ طرفاً اقْتُصَّ مِنْهُ منْ غيرِ تَحَتُّمٍ.
فصل [شاربِ الخمرِ]:
كُلُّ شَرابٍ أسْكَرَ كثيرُهُ حَرُمَ قَليلُهُ وكَثيرُهُ، خَمْراً كانَ أو نبيذاً أو غيْرهُما، فمَنْ شَرِبَ وهو بالغٌ عاقلٌ مُسلمٌ مٌختارٌ عالِمٌ بهِ وبِتحْريمِهِ لَزِمَهُ الحدُّ، وهو أربعونَ جَلْدَةً للحُرِّ، وعِشْرونَ للْعَبْدِ بالأَيْدي والنِّعالِ وأطْرافِ الثِّيابِ، ويجوزُ بالسَّوْطِ، لكن إنْ ماتَ بالسِّياطِ
(1/240)


وجبَت دِيَتُهُ، فإنْ رأى أنْ يَزيدَ في الحُرِّ إلى ثمانينَ وفي العبْدِ إلى أربعينَ جاز، لكن لو مات من الزيادة ضمن بالقسط، فلو ضربه إحدى وأربعين فماتَ ضَمِنَ جُزْءاً منْ أحدٍ وأربعينَ جُزءاً منْ دِيَتِهِ.
ومنْ زَنى دَفَعاتٍ أو شَرِبَ دَفَعاتٍ ولمْ يُحَدَّ، أجزَأَهُ لِكُلِّ جِنْسٍ حَدٌّ واحدٌ، ومنْ وجبَ عليهِ حدٌّ وتابَ مِنْهُ لمْ يَسقُطْ، إلاّ حدُّ قاطعِ الطريقِ إذا تابَ قبْلَ القُدْرةِ، فَيَسْقُطُ جميعُ حدِّهِ، ولا يجوزُ شُرْبُ المُسكِرِ في حالٍ منَ الأحوالِ لا للتَّداوي ولا للعَطَشِ، إلاَّ أنْ يُغَصَّ بِلُقْمةٍ ولا يَجِدُ ما يُسِيغُها بهِ، فيجِبُ.
فصل [التَّعزيرِ]:
منْ أتى مَعْصِيَةً لا حدَّ فيها ولا كفارةً -ومِنْهُ شهادةُ الزُّورِ- عُزِّرَ على حَسَبِ ما يراهُ الحاكِمُ، ولا يَبْلُغُ بهِ أدنى الحُدودِ، فلا يَبْلُغُ بِتَعْزيرِ الحُرِّ إلى أربعينَ، ولا بتَعْزيرِ العبْدِ عِشْرينَ، وإنْ رأى تَرْكَهُ جازَ.

بابُ الأيمانِ
إنما يصحُّ اليمينُ من بالغٍ عاقلٍ مُختارٍ، قاصِدٍ إلى اليمينِ، فمنْ سبَقَ لسانُهُ إليها، أو قصدَ الحلفَ على شيءٍ فسبقَ لسانُهُ إلى غيرِهِ لمْ ينعقِدْ، وذلكَ منْ لغوِ اليمينِ، ولا ينعقِدَ إلا باسمٍ منْ أسماءِ اللهِ تعالى أو صِفةٍ منْ صِفاتِ ذاتِهِ.
ثمَّ منْ أسماءِ اللهِ تعالى ما لا
(1/241)


يَتَسَمَّى بهِ غَيْرُهُ، كاللهِ والرَّحمنِ والمُهيْمِنِ وعلاَّمِ الغُيوبِ، فيَنْعَقِدُ بها اليمينُ مُطْلقاً.
ومنْها ما يَتَسمَّى بهِ غيْرُهُ معَ التقييدِ، كالرَّبِّ والرَّحيمِ والقادرِ، فتنعَقِدُ بها اليمينُ، إلاّ أنْ يَنوي غيْرَ اليمينِ.
ومنْها ما هو مُشْتَرَكٌ، كالحَيِّ والمَوْجودِ والبَصيرِ، فلا تَنْعقِدُ بها اليمينُ، إلاّ أنْ يَنْوِيَ بها اليمينَ.
وصِفاتُهُ إنْ لمْ تُسْتعملْ في مخلوقٍ نحو عِزَّةِ اللهِ تعالى وكِبْرِيائهِ وبقائِهِ والقُرْآنِ، فتنعقِدُ بها اليمينُ مُطْلقاً، وإنْ كانتْ قدْ تُسْتعملُ في مَخْلوقٍ نحو عِلْمِ اللهِ تعالى وقُدْرتِهِ وحقِّهِ، فيَنْعقِدُ بها اليمينُ، إلاّ أنْ يَنْوِيَ بالعِلمِ المَعْلومِ، وبالقُدْرةِ المَقْدورِ، وبالحقِّ العِبادةَ، فلا.
ولو قالَ: أُقْسِمُ باللهِ وأقْسَمْتُ باللهِ، انعَقَدَتْ، إلاّ أنْ ينويَ بهِ الإخبارَ. ولو قالَ: لعَمْرُ اللهِ وأَشْهَدُ باللهِ أو أعْزِمُ باللهِ أو عليَّ عهْدُ اللهِ أو ذمَّتُهُ أو أمانتُهُ أو كفالتُهُ لا أفْعلُ كذا، أو أسألُكَ باللهِ أو أقسَمْتُ عليكَ باللهِ، لمْ تنعقِد إلاّ أنْ يَنْويَ بهِ اليمينَ.
فصلٌ:
ومنْ حلفَ لا يَدْخُلُ بيتاً فدخلَ بيْتَ شَعَرٍ، حَنِثَ وإنْ كانَ حَضَرِيّاً، وإنْ دخلَ مسْجِداً، فلا، أو لا آكُلُ هذهِ الحِنْطَةَ فجَعَلَها دَقيقاً أوْ خُبزاً، لمْ يَحْنَثْ، أو لا آكُلُ سَمْناً فأكَلَهُ في عصيدةٍ ونحْوِها وهوَ ظاهِرٌ فيها، أو لا أَشْرَبُ منْ هذا النَّهر فشَرِبَ ماءَهُ في كوزٍ، حنِثَ، أو لا آكُلُ لَحْماً فأكَلَ شَحْماً أو كُلْيةً أو كِرْشاً أو كَبِداً أو قلباً
(1/242)


أو طِحالاً أو أَلِيّةً أوْ سمكاً أو جراداً، فلا حِنْث، أو لا أَلْبَسُ لِزَيْدٍ ثوْباً فوَهَبَهُ لهُ أو اشتَراهُ لهُ، فلا، أو لا أَهَبُهُ فتصَدَّقَ عليهِ، حنِثَ، أو أعارهُ أو وهبهُ فلمْ يَقْبَلْ، أو قبِلَ ولمْ يقبِضْ، فلا، أو لا أتكَلَّمَ فقَرأَ القُرآنَ، أو لا أُكَلِّمُ فلاناً فراسَلَهُ أو كاتَبَهُ أو أشارَ إليهِ، أو لا أسْتَخْدِمُهُ فخَدَمَهُ وهوَ ساكتٌ، أو لا أَتَزَوَّجُ أو لا أُطَلِّقُ أو لا أبيعُ فوَكَّلَ غيرَهُ ففَعَلَ، لمْ يَحْنِث، أو لا آكُلُ هذهِ التَّمْرَةَ فاختَلطَتْ بِتَمْرٍ كثيرٍ فأكَلَهُ إلاّ تَمْرَةً واحدَةً لا يَعْلمُها، أو لا أشرَبُ ماءَ النَّهرِ فشَرِبَ بعضَهُ، لم يحنث، أو لا أكلِّمهُ زماناً أو حيناً، بَرَّ بِأدْنى زَمنٍ، أو لا أدخُلُ الدَّارَ مثلاً، فدخلَها ناسِياً أو جاهٍلاً أو مُكْرهاً أو مَحْمولاً، لمْ يَحْنثْ، واليمينُ باقِيَةٌ لمْ تَنْحَلَّ، أو لَيأْكُلَنَّ هذا غَداً فأكلَهُ في يَومِهِ، أو أتْلَفَهُ أو تلِفَ منَ الغدِ بعد إمْكانِ أكلِهِ، حنث، وإنْ تلِفَ في يومِهِ، فلا، أو لا أسْكُنُ هذهِ الدَّارَ فخَرَجَ مِنْها بنِيَّةِ التَّحْويلِ، ثمَّ دخلَ لِنَقْلِ القُماشِ، لمْ يَحنَث، أو لا أُساكِنُ زيْداً فسَكَنَ كُلُّ واحدٍ منهُما في بيْتٍ من دارٍِ كبيرةٍ، وانفردَ ببابٍ ومَرافقَ، لمْ يحنث، أو لا ألْبَسُ هذا الثَّوْبَ وهوَ لابِسُهُ، أو لا أَرْكبُ هذا وهوَ راكِبُهُ، أو لا أَدْخُلُ هذهِ الدَّارَ وهوَ فيها، فاستَدامَ، حنث، أو لا أتزَوَّجُ وهوَ مُتزوِّجٌ، أو لا أتطَيَّبُ وهو مُتطَيِّبٌ، أو لا أتطّهَّرُ
(1/243)


وهو مُتَطَهِّرٌ فاستدامَ، فلا، أو لا أَدخُلُ هذهِ الدَّارَ فصعِدَ سطْحَها منْ خارِجِها، أو صارتْ عَرْصَةً فدخلَها، لمْ يَحْنَثْ، أو لا أدخُلُ دارَ زَيْدٍ فدخلَ مسْكَنَهُ بِكِراءٍ أو عاريةٍ، لمْ يحنث، إلاّ أنْ ينويَ ما يَسْكُنُهُ.
وإذا حلفَ على شيءٍ فقال: إنْ شاءَ اللهُ تعالى، مُتَّصِلاً باليمينِ، وكانَ قَصَدَ الاستثناءَ قبْلَ فراغِهِ منَ اليمينِ، لمْ يحنث، وإنْ جرى الاستثناءُ على لِسانِهِ على عادتِهِ ولمْ يقصدْ بهِ رَفْعَ اليمينِ، أو بدا لهُ الاستثناءُ بعْدَ الفَراغِ منَ اليمينِ، لمْ يَصِحَّ الاستثناء.
فصل [كفارة اليمينِ]:
إذا حلفَ وحنثَ لزِمَتْهُ الكَفَّارةُ، فإنْ كانَ يُكَفِّرُ بالمالِ جازَ قبْلَ الحِنْثِ وبعْدَهُ، وإنْ كانَ بالصَّوْمِ لمْ يجُزْ إلاّ بعْدهُ.
وهيَ عِتْقُ رَقَبَةٍ صِفَتُها كرَقَبَةِ الظِّهارِ، أوْ إطعامُ عشرَةِ مَساكينَ كُلِّ مِسكينٍ رِطْلٌ وثُلُثُ رِطلِ بالبَغْداديِّ حبّاً منْ قوتِ البَلدِ، أو كِسْوَتُهُمْ بما ينطلِقُ عليهِ اسمُ الكِسْوة، ولوْ مِئزَراً ومغسولاً، لا خَلَقاً، ويُخَيَّرُ بيْنَ الأنواعِ الثَّلاثَةِ، فإنْ عجَزَ عن أحدِ الأنواعِ الثَّلاثةِ صامَ ثلاثةَ أيّامٍ، والأفضَلُ توالِيها، ويجوزُ مُتَفَرِّقةٌ.
والعبْدُ لا يُكَفِّرُ بالمالِ وإنْ أذِنَ لهُ السيدُ، بلْ الصَّوْم.
ومنْ بعضُهُ حُرٌّ يُكَفرُ بالطَّعامِ والكِسْوةِ دونَ العِتْقِ.
(1/244)


بابُ الأقضيةِ
وِلايةُ القَضاءِ فَرْضُ كِفايةٍ، فإنْ لمْ يَكُنْ منْ يَصْلُحُ إلاّ واحدٌ تَعَيَّنَ عليهِ، فإن امتنعَ أُجْبِرَ، وليْسَ لهذا أنْ يأخُذَ عليهِ رِزْقاً إلاّ أنْ يكونَ مُحتاجاً. ويجوزُ في بلدٍ قاضِيانِ فأكثَرُ، ولا يَصِحُّ إلاّ بتوْلِيَةِ الإمامِ لهُ أو نائبِهِ.
وإنْ حكَّمَ الخَصْمانِ رَجُلاً يَصْلُحُ لِلْقَضاءِ جازَ، ولزِمَ حُكْمُهُ وإنْ لم يَتَراضَيا بهِ بعْدَ الحُكْمِ، لكن إن رَجَعَ فيهِ أحَدُهُما قبْلَ أنْ يحكُمَ امتَنَعَ الحُكْمُ.
ويُشترطُ في القاضي: الذُّكورةُ، والحُرِّيَّةُ، والتَّكْليفُ، والعَدالةُ، والعِلْمُ، والسَّمْعُ، والبَصَرُ، والنُّطْقُ.
ويُندَبُ أنْ يكونَ شَديداً بلا عُنْفٍ، ليِّناً بلا ضعْفٍ، وإن احتاجَ أنْ يَسْتَخْلِفَ في أَعمالِهِ لِكَثْرَتِها استَخْلفَ منْ يَصلُحُ، وإنْ لمْ يَحْتَجْ فلا، إلاّ أنْ يُؤذنَ لهُ، وإن احتاجَ إلى كاتِبٍ فلْيَكُنْ مُسْلِماً، عدْلاً، عاقلاً، فقيهاً، ولا يَتَّخِذْ حاجِباً، فإنِ احتاجَ فلْيكُنْ عاقلاً، أميناً، بعيداً منَ الطَّمَعِ.
ولا يَحْكُمُ ولا يُوَلِّي ولا يَسْمَعُ البيِّنَةَ في غيرِ عَمَلِهِ، ولا يَقْبَلُ هديَّةً إلاّ ممَّنْ كانَ يُهاديهِ قبْلَ الوِلايَةِ، ولمْ تَكُنْ لهُ خُصومةٌ، ولمْ تزِدْ هدِيَّتُهُ بعْدَ التَّوْلِيةِ، ومع هذا فالأفضلُ أنْ لا يَقْبَلها.
ولا يَحْكُمُ لِوَلدِهِ ولا لِرقيقِهِ، ولا يقضي وهوَ غَضْبانُ، ولا جائعٌ ولا عَطْشانٌ، ولا مهْمومٌ ولا فرْحانُ، ولا مريضٌ ولا نعسانُ، ولا حاقِنٌ ولا
(1/245)


ضَجْرانُ، ولا في حرٍّ مُزْعِجٍ وبَرْدٍ مُؤْلِمٍ، فإنْ فعلَ نفذَ حُكْمُهُ.
ولا يجلِسُ في المسجِدِ للحُكْمِ، فإن اتَّفَقَ جُلوسُهُ فيهِ وحضرَ خَصْمانِ حكمَ بينهُما، ويجلِسُ بِسَكينَةٍ ووقارٍ، ويُحْضِرُ الشُّهودَ والفُقهاءَ ويُشاورُهُمْ فيما يُشْكِلُ، وإنْ لمْ يَتَّضِحْ أخَّرَهُ ولمْ يُقَلِّدْ غيْرَهُ في الحُكْمِ.
ويبدَأُ بالخُصُومِ بالأوَّلِ فالأَوَّلِ في خُصُومةٍ فقطْ، فإنْ اسْتَوَوْا أقْرَعَ. ويُسَوِّي بيْنَهُما في المجلِسِ والإِقبالِ وغيرِ ذلكَ، إلاّ أنْ يكونَ أحَدَهُما كافِراً فَيُقَدِّمُ المُسْلِمَ عليهِ في المجلِسِ، ولا يُعَنِّفُ أَحَدَهُما ولا يُلَقِّنْهُ، ولهُ أنْ يَشْفَعَ ويُؤَدِّيَ عنْ أحدِهِما ما لزِمَهُ، وينظُرُ أوَّلَ شيءٍ في المَحْبوسينَ، ثُمَّ في الأيتامِ، ثُمَّ في اللُّقطةِ.
فصل [في صفة القضاء]:
إذا ادَّعى الخَصْمُ دَعْوى غيْرَ صحِيحَةٍ لمْ يَسْمَعْها، وإنْ كانتْ صَحيحَةً قالَ للآخَرِ: ما تقولُ؟ فإذا أقَرَّ لمْ يَحكُمْ عليْهِ إلاّ بِطَلَبِ المُدَّعي، وإذا أنْكرَ، فإنْ لمْ يكُنْ للمُدَّعي بيِّنَةٌ فالقوْلُ قولُ المُدَّعى عليهِ بيَمينِهِ، ولا يُحَلِّفُهُ إلاَّ بطلَبِ المُدَّعي، فإن امتَنَعَ منَ اليمينِ ردَّها على المُدَّعي، فإنْ حلفَ اسْتَحَقَّ، وإنِ امتَنَعَ صَرَفَهُما، وإنْ سَكتَ المُدَّعى عليهِ فلْيَقُلْ لهُ: إنْ أجَبْتَ وإلاّ ردَدْتُ اليمينَ عليهِ، فإنْ لم يُجِبْ رُدَّت اليمينُ على المُدَّعي فيَحْلِفُ ويستحِقُّ.
وإنْ كانَ القاضي يَعْلَمُ وُجوبَ الحقِّ، فإنْ كانَ في حُدودِ اللهِ تعالى
(1/246)


وهو: الزِّنا، والسَّرِقةُ، والمُحارَبةُ، والشُّرْبُ، لمْ يَحْكُمْ بهِ، وإنْ كانَ في غيْرِ ذلكَ حكَمَ بهِ، وإذا لمْ يَعْرِفْ لِسانَ الخَصْمِ رَجَعَ فيهِ إلى عدْلٍ يَعْرِفُ، بِشَرْطِ أنْ يكونَ عدْلاً يَثْبُتُ بهِ ذلكَ الحَقُّ، وإذا حَكَمَ بِشَيْءٍ فوَجَدَ النَّصَّ أو الإجْماعَ أو القِياسَ الجَلِيَّ بِخِلافِهِ نقَضَهُ. ولا تَصِحُّ الدَّعْوى إلاّ مِنْ مُطْلَقِ التَّصَرُّفِ، ولا تصِحُّ دعْوى المَجْهولِ إلاّ في مسائِلَ منْها: الوَصِيَّةُ.
فإنِ ادَّعى دَيْناً ذَكَرَ الجِنْسَ والقَدْرَ والصِّفَةَ، أو عَيْناً يُمْكِنُ تَعْيينُها عَيَّنَها، وإلاّ ذَكَرَ صِفَتَها، فإنْ أنْكَرَ المَدَّعى عليْهِ ما ادَّعاهُ صَحَّ الجَوابُ، وكذا إنْ قالَ لا يَسْتَحِقُّ عليَّ شيْئاً، فإنْ كانَ المُدَّعى بهِ عيْناً في يدِ أحَدِهِما فالقوْلُ قولُهُ بيمينِهِ، فإنْ كانَ في يَدِهِما حَلَفا وجُعِلَ بيْنهُما نِصْفَينِ، ومنْ لهُ حقٌّ على مُنْكِرٍ فلَهُ أنْ يَأخُذَهُ منْ مالِهِ بِغيْرِ إذنِهِ، فإنْ كانَ مُقِرّاً فلا.

بابُ الشهادةِ
تَحَمُّلُها وأَداؤُها فرْضُ كِفايةٍ، فإنْ لمْ يَكُنْ إلاّ هُوَ تَعَيَّنَ عليْهِ، ولا يَجوزُ أنْ يَأخُذَ أُجْرَةً حينئِذٍ، فإنْ لمْ يَتَعَيَّنْ فلهُ الأخْذُ.
ولا تُقْبَلُ إلاّ مِنْ حُرٍّ، مُكَلَّفٍ، ناطقٍ، مُسْتَيْقِظٍ، حسَنََ الدِّيانةِ، ظاهِرِ المُروءَةِ.
ولا تُقْبَلُ منْ مُغَفَّلٍ، ولا منْ صاحِبِ كبيرةٍ، ولا منْ مُدْمِنٍ على صغيرَةٍ، ولا ممَّنْ لا مُروءَةَ لهُ، ككَنَّاسٍ
(1/247)


وقَيِّمِ حَمَّامٍ ونحْوِ ذلكَ.
وتُقْبَلُ شهادةُ الأعمى فيما تَحَمَّلَ قبْلَ العمى، ولا تُقْبَلُ فيما تحَمَّلَ بعْدَهُ إلاّ بالاستِفاضةِ، أو أنْ يُقالَ في أذُنِهِ شَيْءٌ فيُمْسِكُ القائِلَ ويَحْمِلُهُ إلى القاضي، ويَشْهَدُ بما قالَ هذا لهُ. ولا تُقبَلُ شَهادةُ الشَّخْصِ لِوَلَدِهِ ووالِدِهِ، ولا شَهادةُ منْ يَجُرُّ لِنَفْسِهِ نَفْعاً، ولا منْ يَدْفعُ عنْها ضَرَراً، ولا شَهادةُ العدُوِّ على عدُوِّهِ، ولا شهادةُ الشَّخْصِ على فِعْلِ نفسِهِ. فَيُقْبَلُ في المالِ وما يُقْصَدُ مِنْهُ المالُ -كالبيْعِ- رَجُلانِ، أوْ رجُلٌ وامْرَأتانِ، أوشاهِدٌ معَ يمينِ المُدَّعِي.
وما لا يُقْصَدُ منْهُ المالُ -كالنِّكاحِ والحُدودِ- لمْ يُقْبَلْ فيهِ إلاّ شاهِدانِ ذَكَرانِ. ولا يُقْبَلُ في الزِّنا واللِّواطِ وإتْيانِ البهيمةِ إلاّ أربعَةُ ذُكورٍ.
ويُقْبَلُ فيما لا يَطَّلِعُ عليْهِ الرِّجالُ كالوِلادةِ رَجُلانِ، أو رَجُلٌ وامْرَأتانِ، أو أرْبعُ نِسْوَةٍ.
واللهُ سُبحانَهُ وتعالى أعلمَ بالصَّوابِ.
(1/248)


 
Design by Free WordPress Themes | Bloggerized by Lasantha - Premium Blogger Themes | Lady Gaga, Salman Khan
Related Posts Plugin for WordPress, Blogger...